بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله
لم يكن خافيا على أهل العلم وطَلبَتِهِ أن التصوفَ هوَ مقامُ الإحسانِ، وقد جاءَ ثالثًا في حديثِ جبريلَ عليهِ السلامُ، وهوَ أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراهُ، والناسُ في هذا المقامِ بحسبِ اختلافِ أحوالِهم.
أما في الدينِ الحنيفِ فقد جاءَ ترتيبُهُ ثالثًا بعدَ ذكرِ الإسلامِ والإيمانِ، وهذا كانَ في معرضِ ذكرِ أصولِ الدينِ، وهذا دليلُ جلالةِ هذا المقامِ وعلوِّ شأنِهِ جدًّا.
ولا يضرُّ اختلافُ التسمياتِ على مرِّ العصورِ، فإنّ الأسدَ هوَ الأسدُ وهوَ الليثُ والهِزَبْرُ، وما زالَ هوَ هوَ.
وكذلكَ لا يضرُّ اختلافُ المَيلِ بينَ صوفيٍّ وصوفيٍّ ءاخرَ، كاختلافِ الإمامِ الجُنيدِ البغداديِّ رضيَ اللهُ عنهُ وهوَ سيّدُ الطائفةِ وبينَ صاحبِهِ المرشدِ الكاملِ أبي الحسنِ النوريِّ رضي اللهُ عنهُ في اختيارِ أو تفضيلِ العُزلةِ على الخُلطَةِ، فقالَ أحدُهُما أعتزلُ الناسَ وأتفرّغُ لعبادةِ ربي، وقالَ الآخرُ أخالِطُ الناسَ وأتحمّلُ أذاهُم وأصبرُ، فالمقامانِ مقاما مجاهَدةٍ، وعلى هذا بعدَ ذلكَ اختلافُ مشايخِ الطرقِ واختلافُ المشاربِ، وما الحالُ إلا كما قالَ الإمامُ البوصيريُّ رضيَ اللهُ عنهُ في بُردتِهِ: (وكلُّهُم مِن رسولِ اللهِ ملتَمِسٌ)، صلى الله عليه وسلم ورضيَ عن أتباعِهِ.
وها هوَ التاريخُ أمامَنا، وفيهِ أولئكَ الأئمةُ الأكابرُ في مختلِفِ العلومِ الذينَ لم يتخذوا التصوفَ مذهبا ولا تشرّفُوا بهِ صفةً، لا تكادُ تجدُ فيهم طيّبَ الذِكرِ والسريرةِ إلا وكانَ على صفةِ أهلِ التصوفِ أهلِ مقامِ الإحسانِ، لأنّه قائدٌ أمينٌ إلى مخافةِ اللهِ تعالى، وهذا عينُ الحِكمةِ ولُبُّ التصوفِ الشريف.
خيرُ مثالٍ هو الصحابيُّ حنظلةُ رضيَ اللهُ عنهُ عندما لقيَ أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ وقالَ لهُ (نافَقَ حنظلةُ) قالَ: وما ذاك؟ قلتُ: كنا عندَ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ فذكَرْنا الجنةَ والنارَ حتى كأنّا رأيُ عَينٍ، فذهبتُ إلى أهلي، فضحكتُ ولعبتُ مع ولدي وأهلي، فقالَ أبو بكرٍ: إنا لَنَفعَلُ ذاكَ، قالَ: فذهبتُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّمَ فذكرتُ ذلكَ لهُ، فقالَ: (يا حنظلةُ، لو كنتُم تكونونَ في بيوتِكُم كما تكونُونَ عندي، لصافَحَتكُمُ الملائكةُ وأنتم على فُرُشِكُم وبالطُّرُقِ، يا حنظلةُ ساعةً وساعةً) رواهُ أحمدُ وغيرُهُ.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ولا شكّ أنّ الحضورَ معَ نورِ العالَمينَ صلى الله عليه وسلم سببٌ جليلٌ ورئيسٌ في الزهدِ في الدنيا وزخارِفِها وتعلُّقِ القلبِ بالآخرةِ كما قالَ حنظلةُ في الجنّةِ والنارِ (كأنّا رأيُ عَينٍ)، فكيفَ تخطرُ لهُ الدنيا على بالٍ، وهذا عندَ الصوفيّةِ رتبةٌ عاليةٌ قلّ مَن وصلَ إليها، هذا معَ نعمةِ هيبةِ الحضورِ المحمّدِي، ذاكَ السراجُ المنيرُ الذي يشعُّ هيبةً، عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم.
وتُوفِّيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن مائةٍ وأربعينَ ألفَ صحابيٍّ، فنشروا هُداهُ في كلِّ شيءٍ، مَن أخذَ به أخذَ بحظٍّ وافرٍ، فهؤلاءِ ورثَةُ سيّدِ الخلقِ صلى الله عليه وسلم، وكذلكَ الحالُ معَ مَن وفقهم اللهُ إلى الأخذ مِن فمِ أبي بكرٍ، وكذلكَ كانَ لسيّدِنا عليٍّ عليهِ السلامُ وهوَ حبيبُهُ وصفيُّهُ نصيبًا كبيرًا في علمِ الأسرارِ، على علمِ الدينِ الواسعِ معَ زهدِهِ وتقواهُ، حتّى وصلَتْ إلى إلى السادةِ الأكابرِ كسلسلةِ الذهبِ في الحديثِ، إلى أنْ أصَّلُوا وقعَّدُوا القواعدَ تسهيلًا على الطالبِ، كأيِّ علمٍ مِن علومِ الشريعةِ، واللهُ يختارُ مِن خلقِهِ مَن يشاءُ أعلامًا هُداةً.
هؤلاءِ الذينَ أوصانا اللهُ باتّباعِهم، فقالَ جلَّ جلالُهُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، هذا جليٌّ، فالتقوَى في الآيةِ أصلٌ يتبعُهُ صحبةُ الصادقينَ، ومَن أصدقُ مِن أكابرِ أحبابِ اللهِ تعالى؟
نعم، كنا صغارًا، وكانَ المعلّمونَ أوّلَ ما يقولونَ لنا: (الأخلاقُ قبلَ العلمِ)، وهذا منهجُ التصوفِ الذي جاءَ بهِ الإسلامُ، وأصحابُ هذا المقامِ مقامِ الإحسانِ أو التصوفِ أو السلوكِ إلى اللهِ هم ساداتُ الناسِ في محاسنِ الأخلاقِ، وإذا كانتْ صلةُ الرحِمِ تُطيلُ العمرَ، فلا شكَّ أنّ مَن جمعَ أخلاقَ الحبيبِ صلى الله عليه وسلم وعملَ بها صاحبُ فتوحاتٍ عجيبةٍ ومحبةٍ وافرةٍ مِن اللهِ تعالى.
وإلى هذا اليومِ ما زالَ مقامُ الإحسانِ أصلًا مِن الدينِ، ويبقى كذا إلى يومِ القيامةِ، بل هو مِن أكبرِ أسبابِ العصمةِ والحفظِ، لأنّه سياجُ الدينِ عقيدةً وفقهًا، وما سمعنا عن مبتدِعٍ زاهدٍ أو صاحبِ كراماتٍ مِن المعتزلةِ أو المشبّهةِ، لأنّهم اتّبَعُوا أهواءَهم وعطّلُوا العقلَ ودلَّسُوا في النقلِ، وآمنوا ببعضِ الكتابِ وكفروا ببعضٍ، فكانُوا أحقَّ الناسِ بالطردِ ولم يستحقُّوا نظرةَ رِضًى مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لأنّهُ جاءَ صريحًا صحيحًا عنهُ صلى الله عليه وسلم قولُهُ: (لا يؤمِنُ أحدُكُم حتّى يكونَ هواهُ تَبَعًا لِمَا جئتُ بهِ)، وهذا أصدقُ ما يكونُ في الصوفيةِ الصادقةِ أهلِ مقامِ الإحسانِ وناشِرِيهِ بينَ المسلمين.
ومِسكُ الختامِ قولُ بعضِ أهلِ العلمِ: إنّ التصوُّفَ منصوصٌ عليهِ في الآيةِ الكريمةِ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)، فكما يستغفرُ الواحدُ بعدَ الفقهِ مِن الجهلِ الذي كانَ عليهِ، كذلكَ يستغفرُ مِن سوءِ الخلُقِ وخلافِ الصوابِ شرعًا، وكِلاهُما مشمولٌ في الآيةِ الكريمةِ.
فالتصوُّفُ إذَنْ مِرقاةُ المسلمينَ إلى الجنةِ، وما كانَ هكذا فهوَ في الإسلامِ روحٌ وقلبٌ وعينُ يقينٍ. وصلى اللهُ وسلّمَ على سيدِنا محمدٍ نورِ العالمينَ وعلى آلِه وصحبِه الطاهرينِ.