بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله
أما التصوفُ في هذا العصر رغمَ وجودِ أهلِهِ الأفاضلِ ومحبّيهِ، إلّا أنّ الذي رأيتُهُ أنّ الدائرةَ تضيقُ من عدةِ نواحٍ، منها:
- سعيُ أغلبِ المريدينَ إلى الوصولِ، لضعفِ الهِمَمِ واتّكالًا على الشيخِ نفسِهِ، وما درى هؤلاءِ المساكينُ أنّ الشيخَ لا يلتفتُ إلى هؤلاءِ، لأنّ مثلَ هذا المريدِ أتى ببعضِهِ لا كلِّهِ.
- الالتفاتُ إلى غيرِ طريقِ اللهِ جلّ جلالُهُ، فأكثرُهُم ينبهرونَ بخوارقِ العاداتِ حتى تصيرَ همَّهم وكيفَ يحصلونَ على إجازةٍ بها، وقد يساعدُهم تساهلُ بعضِ المشايخِ في إظهارِ الخوارقِ، وبعضُهُم قد يتفاخرُ أمامَهم-تحدُّثًا بنعمةِ اللهِ- أنهم أصحابُ الفتوحِ وأنهم لا يتركونَ المريدَ وهكذا، أو يفاخرُ غيرَهُ بسلسلةِ مشايخِهِ حتى ترتسمَ في ذهنِ المريدِ أنّ الجنّةَ ها هنا وأنها أسهلُ ممّا توقعَ.
- استدراجُ المريدينَ الذي يؤدّي إلى سقوطِهم وصرفِ النظرِ عنهم، فاللهُ جلّ جلالُهُ يختبرُهم والشيخُ مجرّدُ سببٍ، لا يملكُ لنفسِه ضرًّا ولا نفعا، وقد رأيتُ بعيني من المريدين عجائبَ الخوارقِ، لكنْ أغرّهمُ الشيطانُ وعظُمَت نفوسُهم عندَ نفوسِهم، فانقطَعَ الوصلُ وباؤوا بخيبةِ العمرِ، واللهُ المستعانُ.
- التنافسُ بينَ المريدينَ مِن ذاتِ الطريقةِ أو الشيخِ أو مِن شيخٍ أو طريقةٍ غيرِها، ويبدأ حبُّ نشرِ الطريقةِ والدعوةِ إليها بعصبيّةٍ تصلُ بعضَ الأحيانِ إلى عصبيةِ الجاهليةِ، وهذا لِما رأى المريدُ مِن شيخِهِ ما لم يرهُ مِن ذلكَ الشيخِ، وهنا لقّنَنا أهلُ الفضلِ والصلاحِ أنّه مِن المهماتِ عدمُ الانجرارِ إلى هذا، وأنه من الطبيعيِّ أن يقولَ كلُّ واحدٍ عن شيخِهِ إنّه شيخُ المشايخِ أو السلطانُ، لأنّه رأى منه ما لم يرَهُ مِن غيرِهِ، وكلُّ هذا يحتاجُ إلى التيقُّظِ والتقوى والعدلِ، وإلّا فهم مريدُونَ صورةً، مريضونَ حقيقةً.
- تبدُّلُ الأحوالِ بسببِ عدمِ وجودِ الوقتِ الكافي للاشتغالِ بالأورادِ والأذكارِ، فيكونُ في أولِ الطريقِ على همّةٍ عاليةٍ فتُحدّثُهُ نفسُهُ بأنِ اطمَئِنَّ فقد فُتِحَ لكَ البابُ، فيبدأُ الهُوِيِّ شيئًا فشيئًا حتى تأكلَهُ الدنيا وتغرزَ فيهِ مخالبَها، فيصيرُ كأنّهُ في نزعِ الروحِ عندَ إرادةِ التفرُّغِ، وما أقلَّ الصابرَ، وما أكثرَ مصائدَ ومكائدَ الشيطانِ، أجارَنا اللهُ منه ءامين.
- كثرةُ الانحرافِ، فما أقلّ الصادقينَ الذين لا يبحثونَ عن ظهورٍ أو غيرِهِ.
هذا، والعبدُ الفقيرُ مُتشددٌ في هذا الأمرِ بسببِ إرشادِ مشايخِي إلى عدمِ الالتفاتِ إلى السِّوَى، لأنها دائرةُ الأوهامِ، ولعدمِ أهليّتي، فما كنتُ راضيًا بيومٍ عن نفسي حتى أعلّمَ أو أرشِدَ أساسًا، معاذَ اللهِ أنْ يكونَ مثلي أهلا لذلك، لكنْ أتاني بعضُهم وهم أقلُّ مِن أصابعِ كفي ولزموني وأصرّوا على الأخذ مني بطريقِ المرافقةِ، أما من جهتي فكنت أراقبُهم في أمور الحلالِ والحرامِ ومراعاةِ حُرُماتِ الشريعةِ والتنبيهِ على بعضِ آدابِ الطريقِ، لكنّ الذي رأيتُهُ هو كثرةُ المتحوّلينَ إلى التصوفِ أو حبّ التصوفِ مِن طريقِ أشعاري التي كيفما دارت إنما دارت على حديثِ الروحِ والعشقِ الخالصِ، والحمدُ للهِ كانتْ فاتحةً لبدايةِ فهمِ الطريقِ ولغةِ القومِ، فتحرّكَتْ قلوبٌ وصاحت أخرى، ودموعٌ تجري بصمتٍ وبعضُها بأنينٍ للهِ رقّتُهُ.
صحيحٌ أنّ السعيَ وراءَ اختلافِ المشاربِ يُطِيلُ الطريقَ، لكنّ الأخذَ من عدةِ مشاربَ تلوينٌ للذوقِ، فاللهُ أكرمني بالأخذِ مِن الرفاعيةِ للهِ درُّهم ما أشدّ بأسَهم في المهمّاتِ والشدائدِ العظيمةِ، وما أعظمَ صبرَهم، هؤلاءِ الذينَ يبرّونَ مريدَهم ويصلونَهُ وإن قطعَهم، فإنْ عادَ عادُوا، ثم السعديّةِ أهلِ القلوبِ والتصرُّفاتِ العجيبةِ، ثم النقشبنديةِ الذينَ أذابوا قلبي في هواهم من قوةِ أحوالِهم وشدّةِ الفتحِ، ثم البدويةِ أرقّاءِ القلوبِ شديدي الهيبةِ سريعي البطشِ، ثم القادريةِ وجلالةُ الاسمِ تكفي، فشيخُهم الغوثُ العظيمُ صاحبُ السيرةِ النورانيّةِ، فما أحنّ البازَ على أولادِهِ، وما أشدّ بطشَهُ إن حامَ حائمٌ حولَهم، ثم الشاذليّةِ أصحابِ الفتوحِ والهِمَمِ والأحوالِ الروحانيّةِ العاليةِ، وغيرِهم من رجالِ الطرقِ، رضيَ اللهُ عن الجميعِ.
وإنّ الصوفيَّ في هذا الزمانِ لا بُدّ مِن سلوكِهِ في تذوّقِ البلاءِ، لقِلّةِ المرشدينَ، فاللهُ يبتليهِ ليتعلّمَ ويترقَّى إن صبرَ، لا بدّ للمريدِ مِن التذوّقِ، فقد حُصِدَ أكثرُ المشايخِ، وا حسرتاه والحمد لله على كلّ حالٍ، وهذا الابتلاءُ قد جاءَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الإمامِ الأعلى والأصلَ الأسمَى للحضراتِ وأهلِها فيما رواهُ أحمدُ ([1]):
(إذا سَبَقَت للعبدِ مِن اللهِ منزلةٌ لَم يَبْلُغْها بعملِهِ، ابتلاهُ اللهُ في جسدِهِ أو في مالِهِ أو في ولدِهِ، ثم صَبَّرَهُ حتى يُبَلِّغَهُ المنزلةَ التي سبقَت لهُ منهُ).
وسلامٌ على المرسلينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website