قدم الكثير من الأطباء المسلمين إنجازات لا تُنسى في مجال العلوم الطبية، مثل أبوبكر الرازي وابن النفيس ومهذب الدين عبدالرحمن الدخوار وعبداللطيف البغدادي، غير أن واحداً من أطباء الأندلس قد لا يعرفه كثيرون منا كان لتجربته الطبية عظيم الأثر في انفتاح الأوروبيين على مجال الطب والجراحة العربية، إنه الطبيب أبوالقاسم الزهراوي، المعروف عالمياً باسم Albucasis.
هنا سنتعرف على أبي القاسم الزهراوي، وإسهاماته التي أكسبته شهرة طبية واسعة في العالمين الإسلامي والغربي، وكيف استفاد الطب الحديث من إسهاماته تلك:
من هو “طبيب الفقراء” أبو القاسم الزهراوي؟
ولد أبوالقاسم خلف بن عباس الزهراوي الأنصاري عام 936 ميلادية، في مدينة الزهراء، التي بناها أعظم خلفاء بني أمية في الأندلس عبدالرحمن الناصر، بالقرب من مدينة قرطبة، نشأ الزهراوي وترعرع في قرطبة، التي كانت تحتوي آنذاك على 50 مستشفى و70 مكتبة، بما فيها مكتبة الخليفة التي كانت تضم 400 ألف كتاب.
كانت مدرسة قرطبة شهيرة للغاية، وتنافس مدرسة بغداد، وهناك درس الزهراوي الطب على يد علمائها، وبرع فيه حتى أضحى طبيب المستنصر بالله ابن عبدالرحمن الناصر، الذي أولى اهتماماً بالعلم، وازدهرت في عهده الآداب والعلوم حتى أصبحت الأندلس منارة ومركزاً ثقافياً لتحصيل العلم، رغم توليه السلطة السياسية في عهد مليء بالفتن والاضطرابات، وبرز في عصره أدباء وفقهاء كبار منهم الشاعر الأندلسي ابن عبد ربه، صاحب “العقد الفريد”، ومنذر بن سعيد كبير فقهاء عصره.
عودة إلى الزهراوي، فعلى الرغم من مكانته الطبية الكبيرة فإنه كان متقشفاً بسيطاً، إذ كان يؤدي أكثر من نصف أعماله اليومية ويساعد المرضى من دون أجر، ولهذا عرف بلقب “طبيب الفقراء”.
“طبيب الفقراء” لم يستمتع بمميزات مكانته العلمية في بلاط الخلافة، ووضع كل همه لإرساء علوم الطب والجراحة على خير وجه، إذ كان حريصاً كل الحرص على بناء قواعد واضحة لتلاميذه من بعده وألف الكتب لذلك، كما فعل في مقدمة كتابه “التصريف لمن عجز عن التأليف” الذي قضى 50 عاماً في تأليفه.
لتحميل كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف اضغط هنا
ويقول فيه: “لقد أكملت لكم يا بني هذا الكتاب، وهو جزء العلم في الطب بكماله، ولهذا يا بني ينبغي لكم أن تعلموا أن العمل باليد (يقصد الجراحة) ينقسم قسمين: عمل تصحبه السلامة وعمل يكون معه العطب في أكثر الحالات”
ما هي إسهامات الزهراوي في مجال الطب؟
“لأن صناعة الطب طويلة، ينبغي لصاحبها أن يرتاضَ قبل ذلك في علم التشريح” كانت هذه هي خلاصة فلسفة الزهراوي الطبية، إذ كان يرى أن الطبيب الناجح يجب أن يكون ماهراً في التشريح؛ فقبله لم يكن الأطباء يجرون العمليات الجراحية بأنفسهم، وعوضاً عن ذلك كانوا يوكلون هذه المهمة لإمائهم وعبيدهم.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لكن الزهراوي غير تلك القاعدة للأبد، إذ قام بنفسه وعلى مدار أكثر من نصف قرن بإجراء العمليات الجراحية التي أكسبته خبرة كبيرة في مجال الجراحة، وقد دوّن الزهراوي أغلب تلك العمليات في كتابه “التصريف لمن عجز عن التأليف”.
أجرى عمليات جراحية ورسمها بالتفصيل في كتبه
لم يضم هذا الكتاب شرح العمليات التي قام بها الزهراوي فحسب، ولكنه احتوى أيضاً على رسوم الأعضاء التوضيحية والهيكل العظمي، فكان بذلك هو أول من رسم الآلات الجراحية وبين طريقة استخدامها في المؤلفات الطبية؛ إذ ضم كتاب التصريف أكثر من 200 رسم توضيحي لعمليات وأدوات جراحية.
الزهراوي لم يكن جراحاً ماهراً فحسب، بل كان طبيباً موسوعياً؛ إذ أفرد في كتابه قسماً كبيراً لجراحة أمراض الأذن والحنجرة والعين، وقسماً ثانياً لأمراض الأسنان واللثة، وأمراض النساء والولادة، وباباً كاملاً لعلاج الكسور، كما كان الزهراوي أول من اكتشف النزيف الدموي الذي يُطلق عليه اسم الناعور أو الهيموفيليا، كما أورد الأستاذ بجامعة قطر عبدالعظيم الديب في كتابه “أبوالقاسم الزهراوي: أول طبيب جراح في العالم”.
لم يكن الزهراوي يجري أي عملية جراحية إلا تحت الإنارة الجيدة لوضوح الرؤية في ساحة العمل الجراحي، ولأنه كان في عصر لا توجد فيه الإنارة الكهربائية فقد كان يجري عملياته تحت ضوء الشمس المباشر، كما ابتكر الزهراوي طريقة الخياطة الراجعة (باستخدام إبرتين وخيط واحد) والخياطة المثمنة (على شكل رقم ثمانية باللاتينية) وكان يستخدم أمعاء الحيوانات من أجل خياطة الجرح بشكل لا يترك أثراً ظاهراً على الجسم.
وصف آلام الطمث، ودعا لوجود طبيبات لعلاج النساء
دعا الزهراوي أيضاً في كتابه إلى ضرورة وجود طبيبة للنساء متدربة على الأعمال الجراحية، وفي حال عدم وجود طبيبة يجب أن يكون هناك طبيب جراح، وفي هذا المجال يعد الزهراوي أول من أجرى عملية استئصال الحصى المثانية عند النساء عن طريق المهبل، وأول من استخدم آلات ومعدات جراحية خاصة لتوسيع عنق الرحم، وكان له الفضل الأول في شرح كيفية إخراج الأجنة المتوفاة داخل رحم الأم، هذا بالإضافة إلى أنه أول من عرّف العالم بحالة “الحمل المنتبذ” ويقصد بها نمو الجنين خارج جدار الرحم.
تطرق الزهراوي في كتابه إلى الحديث عن أوجاع الطمث، أو ما يُطلق عليه حالياً اسم “المتلازمة السابقة للطمث premenstrual syndrome” قائلاً “قد تعتري بعض النساء أوجاع قبل مجيء الطمث، مثل ثقل في البدن وكسل وأوجاع في السرة، ويقل الوجع حين ينطلق الطمث”، وفق ما نقله موقع “الجزيرة نت” عن موسوعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العربية للمحتوى الصحي.
ابتكار آلات جراحية
كما أوصى بضرورة توفر الآلات الجراحية بكثرة مثل المخدع والمبزل والمقص، وابتكر الزهراوي المئات من الأدوات الجراحية مثل فاتح الفم الآلي الذي يبقي الفم مفتوحاً أثناء عمليات الفم، كما ابتكر أيضاً المحقنة، وفكرة المفجر الذي يُسمى حالياً Drainage، والذي يستخدم لمنع تجمع السوائل في عمل جراحي أو خراج.
كما أوصى كذلك باستئصال كل الأجزاء المريضة في الالتهابات العظمية، وكان أول من وصف طريقة إخراج الأجسام المريضة من داخل المريء عبر إسفنجة متصلة بخيط متين من خارج الفم، وهو أول من استعمل “السنارة” الطبية في استخراج البوليبس أو الزوائد الورمية.
أول من أوقف نزيف المرضى بالعمليات الجراحية
أرسى الزهراوي قاعدة مهمة للغاية من قواعد الجراحة وهي تأجيل العملية ليوم أو يومين في حالة احتمال حدوث مخاطر مثل النزيف، كان أيضاً أول من استخدم ربط الشريان من أجل إيقاف النزيف حتى قبل الطبيب الفرنسي أمبروز باريه، وهو أحد أشهر أطباء القرن الـ16، واشتهر بأنه طبيب لملوك فرنسا في عهده، وله تُنسب هذه العملية.
إذ يقول الزهراوي في كتابه: “واعلم أن الشريان إذا نزف منه الدم فإنه لا يستطاع قطعه، ولاسيما إذا كان الشريان عظيماً إلا بأحد أربعة أوجه؛ إما بالكي أو ببتره إذا لم يكن قد انبتر، وإما أن يُربط بالخيوط ربطاً وثيقاً، وإما أن توضع عليه الأدوية التي من شأنها قطع الدم”، وكان يستخدم السخان لتسخين قطعة معدنية ويضعها على المنطقة المصابة فتكوي الأنسجة وتوقف النزف، كما نصح بكيّ السرطان في بدء تشكله بمكواة حلقية.
كيف أسهم إرث الزهراوي في تطور الطب الحديث؟
ترجمة كتبه لكليات الطب في أوروبا
في كتابه “تاريخ الطب وآدابه وأعلامه”، يقول الطبيب السوري ومؤسس الجامعة السورية أحمد شوكت الشطي، إن الزهراوي لم يكن نابغة زمانه فحسب، ولكنه كان رائداً وصاحب نظريات عظيمة في الطب ومبتكر آلات لم يسبقه أحد إليها، ولقد ترجم جيراردو الكريموني كتاب الزهراوي في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية، وآنذاك كان المؤلف الدراسي المعتمد في كليات الطب في أوروبا كلها حتى القرن السابع عشر.
كما نقل الجراح الفرنسي الكبير دي شولياك الكثير من توصيات الزهراوي في كتابه “الجراحة الكبرى” واستشهد بآرائه ونظرياته أكثر من 200 مرة، وخلال عام 1471 طُبع كتاب التصريف للزهراوي للمرة الأولى في إيطاليا، ثم تبعتها بعد ذلك أكثر من 20 طبعة أخرى في مدن أوروبية مختلفة.
لتحميل كتاب الجراحة لأبوالقاسم خلف بن عبّاس الزهراوي اضغط هنا
وقد ذكر المستشرق جاك ريسلر في كتابه “الحضارة العربية” أن نجاح الزهراوي الطبي امتد فيما وراء حدود إسبانيا الإسلامية بكثير؛ إذ كان الناس يذهبون إلى قرطبة من جميع دول العالم المسيحي لإجراء العمليات الجراحية، كما قال المؤرخ جورج سارتون إن الزهراوي هو أكبر جرّاحي الحضارة الإسلامية.
أرسى أساس جراحة العيون وزراعة الأسنان
وفي الوقت الذي كان يُعامل فيه مريض العين في أوروبا بالعزل حتى الموت، كان الزهراوي يجري عمليات جراحية حساسة على قرنية العين.
كما كان سابقاً لعهده حين وصف وشرح كيفية معالجة تشوهات الفك السفلي والعلوي، وكذلك طريقة تركيب المكملات من عظام البقر؛ إذ يقول في كتابه “وقد يُنحتُ عظم من عظام البقر، فيُصنع منه كهيئة الضرس، ويُجعل في الموضع الذي ذهب من الضرس، ويُشد كما قلنا، فيبقى ويستمتع بذلك إن شاء الله” وبذلك يكون الزهراوي أول طبيب مسلم تحدث عن عملية زراعة الأسنان.