لقد شهدت المرحلة الراهنة اضطراباً فكرياً شديداً بين الناس من جرّاء فوضى الفتاوى التي تجرّأ عليها أناس ليسوا من أهل الذكر ولا من أهل العلم والاختصاص بل بلغ الأمر ببعضهم أن راح يشكّك في الثوابت وفي أكبر المراجع الإسلامية وأهمّها في السنّة النبوية ألا وهو صحيح البخاري، وهؤلاء وأولئك ليسوا من أهل العلم ولكن للأسف الشديد وجدوا مساحات كبيرة في الإعلام أتاحت لهم نشر أباطيلهم التي أحدثت بلبلة بين الناس، كما عليهم أن يعلموا أن من أفتى خطأ وبغير علم فقد كذّب على الله، وكذّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أجرؤكم على النار…
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)، وكان أجرأ على النار بسبب جرأته على الفتيا بغير تثبّت ولا يقين، وإنما كان مصيره كذلك، لأن المفتي مبيّن عن الله حكمه، فإذا أفتى على جهل أو بغير علم أو تهاون في تحرير الحكم أو استنباطه فقد تسبّب في إدخال نفسه النار لجرأته على المجازفة في أحكام الله سبحانه وتعالى، قال الله جلّ شأنه: {الله أذن لكم أم على الله تفترون} وقال أهل العلم: كفى بهذه الآية زاجرة زجرا بليغا عن التجاوز فيما يسأل من الأحكام وباعثة على وجوب الاحتياط فيها وان ألا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد اتقان ويقين ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت. فيما لا تعلم بكلام من يعلم فحسبك خجلا من نفسك وعقلك أن تنطق بما لا تفهم وان لم يكن إلى الإحاطة بالعلم من سبيل، فلا عار أن تجهل بعضه وإذا لم يكن في جهل بعضه عار فلا تستح أن تقول: لا أعلم فيما لا تعلم.
والإفتاء بغير علم من أكبر المعاصي والذنوب، لأنه كذب على الله ورسوله ولأن فيه إضلالا للناس فهو إذن من الكبائر، قال الله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
فنرى أن الآية الكريمة قرنت الإفتاء بغير علم بالفواحش والبغي والشرك. عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فيما أخرجه البخاري ومسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ صدورِ العلمَاءِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوساً جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا). وكان شوامخ أئمة الإسلام يتهيّبون الفتوى لدرجة أن إمام دار الهجرة وهو الإمام مالك ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: من أجاب فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب. وعن الأشرم قال: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري. ولأهمية الإفتاء ومكانته نرى أن أول من قام بالإفتاء هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بالإفتاء من بعد الفقهاء من الصحابة والتابعين.
شروط وأصول
والفتوى فرض كفاية إذا قام بها البعض سقط الطلب عن الباقين ويدل على فرضيتها قول الله تعالى: {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سُئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)، كما يشترط فيمن يتصدّى للافتاء أن يكون مسلما بالغا عاقلا عادلا، عارفا بالقرآن وناسخه ومنسوخه متمكّنا من المحكم والمتشابه والمكي والمدني وعالما بالحديث والفقه واللغة، ويكون ذا فهم قوي وذكاء.
وقال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب: (لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللغة، بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنّة والقرآن، ويستعمل هذا مع الانصاب ويكون مشرفا على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإلا فليس له أن يفتي).
ونبّه الإمام أحمد إلى خصال مكملة للمفتي حيث قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أن تكون له نيّة فإن لم يكن له نيّة لم يكن له نور ولا على كلامه نور، وأن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، وأن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته، والكفاية وإلا مضغه الناس، ومعرفة الناس. وقد أمر الله تعالى من لا علم لهم أن يسألوا العلماء المتخصصين وأهل الذكر العارفين للأحكام، فقال الله سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}.
وحذّر الإسلام من اتباع آراء من لا علم لهم، لأنهم يُضلّون ويَضَلّون. وأن من لا علم له حين يفتي في دين الله أحدا يضلُّه ولا يهديه ويعرض من يفته إلى الهلاك، عن جابر رضي الله عنه قال: خرجت في سفر فأصاب رجلا منا حجر في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟، فقالوا: ما نجد لك رخصة فأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك عليه الصلاة والسلام فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ».
ففي قوله: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ» ما يفيد اعتبار الذين أفتوه خطأ فأوردوه موارد الموت بمثابة القتلة لأخيهم حين أفتوه خطأ بغير علم. وهكذا نرى خطورة الفتوى بغير علم وما يترتب عليها من هلاك، فيجب على الذين يتجرّأون على الفتوى أن يتقوا الله، خاصة أولئك الذين ليسوا من أهل العلم ولا من أهل الاختصاص، بل نصبوا أنفسهم للإفتاء بغير علم. ولدينا بحمد الله مؤسسات دينية بها علماء أكفّاء يقدرون على الإفتاء، بعلم ونور وذكاء، فعلى الناس أن يسألوا أهل الذكر وألا يسألوا غيرهم، قال الله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}.
بقلم الدكتور أحمد هاشم عضو هيئة كبار العلماء المصرية
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website