وُصف هذا الرجل باعتباره “أسوأ كوابيس روما” الذي كسر هيبتها، كما صوره الرومان على أنه وحشٌ يهوى السفك والدماء، حتى إنهم كانوا إذا خافوا أمراً ما أو وقوع كارثةٍ كانوا يقولون: “حنبعل على أبوابنا”، كما تم استخدام اسمه لتخويف الأطفال.
اعتبره المؤرخون أحد أعظم القادة العسكريين في العصور القديمة، فهو يقف جنباً إلى جنب مع الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر، رغم اختلاف نهاياتهم وإنجازاتهم. حتى إن البعض اعتبر أن خطة السلطان محمد الفاتح بعبور منطقةٍ جبلية بسُفنه من أجل فتح القسطنطينية، مستوحاةٌ من خطة حنبعل في عبور جبال الألب بجيشه الذي يحمل 40 فيلاً، لحصار الإمبراطورية الرومانية في عقر دارها: روما، وقد اعتبر البعض هذه الحرب أشهر حملة عسكرية في التاريخ.
الفينيقيون.. ملوك البحر المتوسط
قرطاجنة، أو قرطاج في تونس الحالية، كانت قبل الميلاد مستعمرةً فينيقية. جاء الفينيقيون من السواحل الشرقية للبحر المتوسط (لبنان بالأساس، وأجزاء من سواحل فلسطين وسوريا). ولأنها حضارةٌ بحرية وتجارية بالأساس، فقد أصبح حوض البحر المتوسط بالنسبة لهم كـ”اللعبة”. فانتشرت المستعمرات الفينقية على طول البحر المتوسط يميناً ناحية سواحل أوروبا ويساراً ناحية سواحل إفريقيا.
وفي القرن التاسع قبل الميلاد، نشأ خلافٌ بين أميرة مدينة صور وأخيها ملك الفينيقيين. هربت الأميرة أليسار أو “أليسا” من أخيها وجاءت بجيشها وقومها، ليؤسسوا مستعمرة قرطاج.
لاحقاً ومع الوقت سيطرت تلك المستعمرة الكبيرة على أجزاءٍ مهمة من إسبانيا وإيطاليا، وبعض جزر البحر المتوسط، وأصبح الصراع غرب البحر المتوسط بين الإمبراطورية القرطاجية الفينيقية والإمبراطورية الرومانية التي راحت تخسر رويداً رويداً نفوذها وقوتها في البحر المتوسط أمام مهارة البحارة والجيوش الفينيقية.
الحروب البونية الثلاث.. صراع الشرق والغرب
كان الصراع الدائم الذي استمر قروناً بين الفينيقيين في إمبراطورية قرطاج والرومان بإيطاليا يزداد ويتضاعف مع الوقت. فمع السيطرة العسكرية تأتي السيطرة السياسية فتأتي المصالح التجارية والاقتصادية، ولهذا نشأت ثلاث حروبٍ كبيرة في ذلك الوقت بين الشرق وإفريقيا والغرب وأوروبا.
سمِيت هذه الحروب بالحروب البونية أو الحروب الفينيقية، وقد انتهت بانتصارٍ غير متوقع لروما.
قاد الحرب البونية الأولى حملقار برقا، وهو والد حنبعل الذي يقال إنه جعله يغمس يديه في الدماء والقَسم بالكراهية ضد روما عندما كان عمره 9 أعوام فقط. انتهت الحرب البونية الأولى من دون انتصارٍ حاسم بين روما وقرطاجنة.
وكانت الحرب البونية الثانية هي التي قادها الشاب حنبعل، الذي يُقال إن اسمه ينطق (هاني بعل)، في حين كانت الثالثة والنهائية في وقتٍ لاحق بعد وفاة حنبعل.
حنبعل.. الشاب الطموح وريث الفينيقيين الذي قرر غزو روما
وُلِدَ حنبعل عام 247 ق.م في شمال إفريقيا. ويبدو أن حملقار برقا والده قد أحضره في وقتٍ مبكر إلى إسبانيا، وكان حملقار قد استولى على إسبانيا في وقتٍ قريب.
توفي حملقار عام 229 ق.م وخلفه زوج ابنته القائد صدربعل، الذي ولَّى حنبعل الشاب على الجيش القرطاجي. وفي عام 221 ق.م، اغتيل صدربعل، وأجمع الجيش القرطاجي على اختيار حنبعل، البالغ من العمر حينها 26 عاماً، قائداً للإمبراطورية القرطاجية في إسبانيا، فعزَّز حنبعل السيطرة في المنطقة سريعاً من القاعدة البحرية في قرطاجنة (قرطاج الجديدة)، كما تزوج أميرة إسبانية.
وبعدها بسنتين تقريباً، قاد حنبعل عام 219 ق.م هجوماً على ساقونتوم وهي مدينةٌ مستقلة متحالفة مع روما، وكان الهجوم شرارة الحرب البونيقية الثانية. حاصرت القوات القرطاجية مدينة ساقونتوم الإسبانية طيلة ثمانية أشهر، قبل وقوع المدينة في أيديهم. ورغم مطالبة روما حنبعل بالاستسلام، فإنه رفض، وشَرَعَ بدلاً من ذلك في التخطيط لغزو إيطاليا.
يعتبر هذا الغزو منطقياً بالنسبة لشابٍ عاش حياته وهو يعتبر روما عدوه الوحيد في الحياة، كما أن الرومان أنفسهم كانوا يعتبرون القرطاجيين في تلك الفترة عدوهم الأوحد الذي يجب أن يفنوه من الوجود.
ترك حنبعل أخاه لحماية مصالح قرطاجة في إسبانيا وشمال إفريقيا، والذي كان اسمه صدربعل أيضاً. وحشد حنبعل جيشاً هائلاً ضم 90 ألف جندي من المشاة و12 ألف فارس و40 فيلاً -قد تكون الأرقام مبالَغ فيها- وفق ما ذكره موقع History البريطاني.
امتد هذا الزحف مسافة ألف ميل (1600 كيلومتر) عبر جبال البرانس، ونهر الرون، وجبال الألب المغطاة بالثلج، وأخيراً وصل إلى وسط إيطاليا. ورغم استنزاف قواته من جراء العبور العسير لجبال الألب، فقد التقى الجيشَ الروماني القوي الذي يقوده الجنرال بابليوس كورنيليوس سكيبيو وكانت الغلبة له، وأُصيبَ سكيبيو نفسه بجراحٍ خطيرة في المعركة.
لاحقاً وبعد شهورٍ قليلة، هزم القرطاجيون الرومان مرةً أخرى على الضفة اليسرى لنهر تريبيا، وقد نال حنبعل بهذا الانتصار دعم حلفاء آخرين من بلاد الغال والليغوريون.
بحلول ربيع عام 217 ق.م، تقدَّم حنبعل إلى نهر أرنو، ليقود قواته المُنهكة من رحلتها الطويلة ومن معركتها السابقة، ضد روما من جديد. وفي صيف العام التالي، واجه 16 فيلقاً رومانياً -قرابة 80 ألف جندي- وهو ما قيل إنه ضعف حجم جيش حنبعل.
ركز الجنرال الروماني فارو حشد قوات المشاة في المنتصف مع نشر فرسانه على جناحي الجيش، وهي خطة عسكرية كلاسيكية. بينما أبقى حنبعل على وسط جيشه ضعيفاً نسبياً، مع قوات مشاة وفرسان قوية على الجناحين. ومع تقدُّم الرومان، تمكن القرطاجيون من الصمود في الوَسَط والتفوُّق في الصراع على الجناحين، فطوقوا الرومان وقطعوا عليهم أي سبيل للتراجع بإرسال الفرسان لشن الهجوم من الخلف.
توجَّه حنبعل بعد ذلك بجيشه الهائل ليعبر جبال البرانس والألب وصولاً إلى وسط إيطاليا، فيما عُرِفَ بأشهر الحملات في التاريخ. وبعد سلسلةٍ من الانتصارات الكبيرة له والهزائم المدوية لروما، كان لحنبعل مركز وطيدافي جنوب إيطاليا.
أخذه زهو النصر وحلمه بالقضاء على الرومان إلى السيطرة على عاصمتهم، وهو الحلم الذي لم يستطع تحقيقه والده حملقار، فشن هجوماً أخيراً على روما نفسها، إلا أن الرومان استطاعوا صد القرطاجيين وإخراجهم ليس من حصار روما فقط وإنما من إسبانيا أيضاً، ثم انطلقوا عبر رحلةٍ لتحرير أراضيهم في إيطاليا إلى غزو شمال إفريقيا، قاعدة القرطاجيين ومركزهم الرئيس.
وفي عام 203 ق.م وبعد الصراع الذي دام 15 عاماً مع إيطاليا وحصار روما، ترك حنبعل إيطاليا للدفاع عن شمال إفريقيا. فقد اتحدَّت روما مع دولة نوميديا الإفريقية على حدود قرطاج الجنوبية، ومع مقتل أخيه وعودته للدفاع عن عاصمته، هُزم حنبعل هزيمةً مريرة على يد بابليوس كورنيليوس سكيبيو بمدينة زاما في تونس الحالية، وقد وصل عدد قتلى القرطاجيين إلى 20 ألف جندي مقابل 1500 جندي روماني فقط.
كانت هذه الهزيمة نهاية وضع قرطاج باعتبارها قوةً إمبراطورية، ونهاية الحرب البونية الثانية التي قادها الشاب الطموح حنبعل. وقد استمر حنبعل في السعي لتحقيق حلم حياته بتدمير روما حتى توفي بعد عشرين عاماً سنة 183 ق.م.
حياة حنبعل الحزينة ما بعد الهزيمة ووفاته
في معاهدة السلام التي أنهت الحرب البونية الثانية، سُمِحَ لقرطاج بالاحتفاظ بأراضيها في شمال إفريقيا فقط، فخسرت بذلك إمبراطوريتها عبر البحر المتوسط للأبد، كما أُجبرت على تسليم أسطولها ودفع تعويضٍ كبير بالفضة، وعلى الموافقة بعدم إعادة التسليح أو إعلان الحرب مرة أخرى دون إذن روما.
احتفظ حنبعل بلقبه العسكري، لكنه فر هارباً بحياته من الهزيمة الساحقة التي تلقاها، وهو ما زال يسعى وراء حلمه ورغبته في هزيمة روما، على الرغم من اتهام مواطنيه له بالفشل في إدارة الحرب.
فرَّ حنبعل إلى البلاط السوري في أفسس، بعدما أبلغ عنه معارضوه من النبلاء القرطاجيين للرومان لتحريضه أنطيوخوس الثالث حاكم سوريا على التأهب لقتال روما. وعندما هزمت روما أنطيوخوس، كان من شروط معاهدة السلام تسليم حنبعل.
وقد هرب حنبعل مرة أخرى من هذا المصير، ويقال إنه تأهََب للقتال مع قوات الثوار في أرمينيا. وقد خدم لاحقاً تحت حكم بروسياس، ملك بيثينيا، في حربٍ أخرى فاشلة ضد يومينس الثاني ملك بيرغامون وحليف الرومان. وفي نقطةٍ ما من هذا الصراع، طالب الرومان مرََة أخرى بتسليم عدوهم اللدود القديم، القائد الذي أذاقهم مرار الهزيمة مراراً: حنبعل. وعندما وجد أنه لا مفر له، وأنه وحيد تماماً من الأعوان والحلفاء قتل نفسه بتجرع السُّم في قرية ليبيسا في بيثينيا، قرابة عام 183 ق.م.
أما بالنسبة لقرطاج، فقد ظلت شوكةً في حلق الإمبراطورية الرومانية، وعبر تحالفهم مع مملكة نوميديا، استطاعوا التحرُّش بقرطاج من جديد، لتخرق المعاهدة الأخيرة بينهما، وما إن خرقتها حتى كانت الجيوش الرومانية متأهبة للقضاء على قرطاجة، عدوَّتهم اللدود، فقضوا عليها وعلى نفوذ القرطاجيين في غرب المتوسط للأبد عام 146 ق.م.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website