كانت هذه المعركة فاصلة في تاريخ المغرب العربي، فبعدها دخلت بلاد المغرب في الإسلام ما كان تمهيداً لفتح الأندلس
شكّل دخول المسلمين إلى مدينة الإسكندرية في عام 641م بقيادة عمرو بن العاص وفتحهم لمصر بهذه الخطوة، البوابة الأولى لدخول الإسلام والفاتحين المسلمين لإفريقيا وبلاد المغرب العربي. واستتبع عمرو بن العاص فتح مصر بفتح برقة وطرابلس، ثم توقَّف إلى هذا الحد لاحتياجه إلى إمدادات لم تصله طيلة قيادته للجيش الإسلامي الفاتح.
ومع مقتل عثمان بن عفان ودخول الدولة الإسلامية في اضطرابات طويلة، هدأت حركة الفتوح في كلّ العالم الإسلامي، وبخاصة في المغرب العربي، حتى جاءت الخلافة الأموية، وقاد عقبة بن نافع الفتوحات في شمال إفريقيا من جديد؛ فأتم فتح شمال إفريقيا وأسس مدينة القيروان عام 674 مما ساهم في وجودٍ دائم للمسلمين في المغرب.
إلا أن كُسيلة -الزعيم الأمازيغي وقائد هذه البلاد زمن الفتح الإسلامي- دخل مدينة القيروان في عام 683، ومع انشغال عبدالملك بن مروان بالقضاء على الثورات الداخلية في بلاد الشام والعراق، خسر المسلمون بعض المدن في شمال إفريقيا لصالح “الكاهنة”، التي هزمها في النهاية حسان بن النعمان.
تداعي قوات المسلمين أمام جيوش الكاهنة
من أجل استعادة المدن التي خسرها المسلمون في شمال إفريقيا، استقدم الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان قائده حسان بن النعمان، وهو أحد كبار قادة بلاد الشام، وأمره بالمسير لاستعادة شمال إفريقيا إلى الدولة.
ويذكر ابن عذاري المراكشي في كتابه “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب” أنه في سنة 697م قدم حسان بن النعمان إلى مصر ومعه 40 ألف مقاتل وانطلق منها، ففتح قرطاج في تونس ثم توجَّه إلى القيروان وعسكر بها.
وفي ذلك الوقت كانت هناك زعيمةٌ تدعى “الكاهنة” يخافها الروم ويدين لها البربر بالطاعة، وكانت آخر من تبقَّى من الملوك الكبار في شمال إفريقيا، وذلك في منطقة جبال الأوراس في شمال شرق الجزائر.
أراد حسّان بن النعمان أن يقضي عليها أو أن تدين له بالطاعة لكي تدين له كل شمال إفريقيا بالولاء والطاعة. فتقدَّم بقواته نحوها، فلما علمت الكاهنة اتجهت إلى مدينة باغاية وعسكرت بها.
توجّه حسان حينئذٍ إلى وادي مسكيانة بالقرب من معسكر الكاهنة فنزلت إليه، ولما كان الوقت في آخر النهار بات الفريقان في الوادي، ومع طلوع الصبح تقاتل الفريقان، وقاتل جنود الكاهنة بضراوةٍ كبيرة حتى قتلوا الكثير من المسلمين، وخسر حسان بن النعمان ومن معه المعركة، ولاحق جيش الكاهنة فلول جيش حسان وأسر 80 رجلاً من أعيان الجيش، وما إن وصل حسان إلى مدينة قابس -في تونس الحالية- حتى أرسل إلى عبدالملك بن مروان يخبره بما حدث.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
جاء جواب عبدالملك بن مروان يأمر حسان أن يقيم حيثما وافاه الجواب وكان حسان حينئذ في مدينة برقة، فأقام بها وفقاً لأوامر عبدالملك بن مروان وبنى هنالك قصوراً تسمى قصور حسان.
بعد هذه المعركة ملكت الكاهنة كلّ المغرب لمدة 5 سنين، وفي تلك الآونة اعتقدت الكاهنة أن المسلمين لا يريدون من إفريقيا إلا المُدن والذهب والفضة، فإذا تهدَّمت هذه المدن رحل المسلمون عن إفريقيا دون رجعة.
ويصور لنا المراكشي كيف كانت إفريقيا تمتد أشجارها ومراعيها من مدينة طرابلس (ليبيا) إلى طنجة (المغرب) وكانت تمتاز بالكثير من الحصون القوية، حيث كانت أوفر البلاد خيرات، فأمرت الكاهنة رجالها بتقطيع كل الشجر وتهديم كل المدن والحصون من طرابلس إلى طنجة، حتى لا يجد المسلمون ما يطمعون فيه، فيرحلوا عنها. وخرج الكثير من المسيحيين والأفارقة متضررين ويلوذون بالفرار إلى الأندلس وبعض جزء المتوسط.
الرد النهائي.. عودة حسان بن النعمان ومقتل الكاهنة
كانت الكاهنة قد أسرت 80 رجلاً من جيش حسان بن النعمان، ويبدو أنّها كانت سياسيةً من طرازٍ رفيع، فقد أحسنت إليهم وأرسلتهم إلى حسان إلا رجلاً واحداً استبقته عندها. هذا الرجل هو خالد بن يزيد بن معاوية الذي كان من بيت الخلافة الأموية واشتهر بكونه أول من تميَّز في الكيمياء عند المسلمين، فحبذت الكاهنة أن يصبح من رجالها المقربين.
كان حسان في تلك الفترة يستقبل فرسان المسلمين الذين أرسلهم عبدالملك بن مروان مدداً له، وعند اكتمال وصولهم، أرسل حسان إلى خالد بن يزيد يستطلع الموقف عنده؛ فأرسل إليه خالد “أنّ البربر متفرقون لا نظام لهم” وحثّه على القدوم، وخبَّأ الرسالة في خبزٍ وأرسله مع رسول حسان.
ووفقاً لما رواه المراكشي في كتابه، فقد علمت الكاهنة بتسرُّب هذا الخبر إلى حسان، دون معرفة هويّة من سرّب الخبر. وخرجت وهي تضرب على صدرها وتقول “يا ويلكم يا معشر البربر، ذهب ملككم فيما يأكله الناس” فانتشر رجالها يبحثون عن رسول حسان والرسالة التي بحوزته، إلا أنه كان قد وصل إلى حسّان، وما إن استخرج الرسالة من الخبز حتى وجدها ممزقةً فاسدة لا يمكن قراءتها، فأمره حسان بالرجوع إلى خالد، فخشي الرسول من العودة وقال لحسان: “إن المرأة كاهنة، وإنه لن يخفى عليها ما حدث”.
قرر حسان عندئذ بدء حرب جديدة مع الكاهنة، فبعد 5 سنوات من الانتظار والتجهيز أصبح الوقت مناسباً الآن، وما إن سمعت الكاهنة بذلك حتى ارتحلت إلى جبال الأوراس من جديد ومعها جيشٌ كبير، وعند وصول حسان لقتالها، أخبرت أبناءها “أنها حتماً مقتولة” وأعلمتهم أنّ رأسها سيكون بين يدي ملك العرب، كما نقل قولها المراكشي.
وفي هذا الوضع المعقّد، ذهب إليها خالد بن يزيد واقترح عليها أن ترحل وتُسلّم البلاد إلى حسان بن النعمان، لكنّ الكاهنة ورغم ما اعتقدته من أنها ستُقتل على يد حسان رفضت ذلك، واعتبرته عاراً لقومها، فسألها خالد “وماذا نحن صانعون بعدك؟”، فقالت: “أمّا أنت يا خالد فستدرك ملكاً عظيماً عند الملك الأعظم وأما أولادي فيدركون سلطاناً مع هذا الرجل الذي يقتلني”، ثم أمرتهم أن يذهبوا إلى حسّان قبل اشتعال المعركة، فتوجهوا إليه ليلاً.
أخبر خالد بن يزيد “حسان” بما قالته الكاهنة، وأنها أرسلت أولادها له لكي تحافظ عليهم. أمّا عن الكاهنة نفسها فقد خرجت وأخبرت قومها أنها مقتولةٌ لا محالة في هذه المعركة، ونشب القتال واحتدم، وانهزمت الكاهنة، وتبعها حسان حتى قتلها بالقرب من بئرٍ سُمِّيت بئر الكاهنة، وذلك في شهر رمضان سنة 702م.
بعد المعركة طلبت مجموعات من البربر الأمان من حسان بن النعمان، فلم يقبل أمانهم إلا أن يعطوه من قبائلهم 12 ألفاً يجاهدون مع المسلمين؛ فأجابوه وأسلموا على يديه، فجعل ولدي الكاهنة قائدين عليهم، لكلّ واحدٍ منهما 6 آلاف فارس وأخرجهم مع العرب يجولون في المغرب يقاتلون لصالح المسلمين، وانصرف حسان إلى مدينة القيروان بعد ما حسن إسلام البربر ودانوا له بالطاعة.
يُذكر أنّ الكاهنة سميت بهذا الاسم، لأنها كانت ساحرة، وقد دان لها قومها بالطاعة فأصبحت سيدةً عليهم، وتذكر بعض المصادر التاريخية أنّ هذه السيدة كانت تسمى ضياء، وكانت تنتمي إلى قبيلة أمازيغية يهودية من جبال الأوراس، إلا أن بعض المصادر الأخرى قالت إنها كانت وثنية، لكن أياً يكن فبعد مقتلها أسلم أبناؤها في النهاية، واندمج الأمازيغ والعرب المسلمون ليصبحوا لُحمة واحدة فيما بعد.
أصبحت الكاهنة أيضاً شخصية رمزية ومشهورة بين بعض النشطاء الأمازيغ في عصرنا الحالي عبر شمال إفريقيا، فقد تم نصب تمثال يحفظ ذكراها في الجزائر، كما ينشر الناشطون أيضاً صوراً لها على مواقع الإنترنت الأمازيغية ويرسمونها على الجدران، باعتبارها رمزاً للقومية الأمازيغية، مما جعل من الكاهنة أيقونة أمازيغية