في قبر متهالك بأحد الأزقة المنسيَّة في مدينة دلهي القديمة، ترقد السلطانة المسلمة رضية بنت شمس الدين إلتتمش، ورغم أن ضريحها ذاك لا يليق بملكة، فإن التاريخ خلد ذكراها كما يليق بأول وآخر امرأة تعتلي عرش سلطنة دلهي.
كانت “رضية سلطانة” الحاكمة المسلمة الوحيدة في جنوب آسيا، وهي تنحدر من سلالة المسلمين ذوي الأصول التركية الذين فتحوا الهند في القرن الحادي عشر، عيَّنها والدها خليفة له؛ نظراً إلى عدم كفاءة إخوتها الذكور، وانتشلت السلطنة من حرب أهلية كانت ستودي بالعباد باختيارها “الثوب الأحمر” بديلاً للزي العسكري.
تعرفوا معنا على رضية سلطانة، الحاكمة والمحاربة التي كانت تقود جيوشها ممتطيةً ظهر فيلها:
عن السلطنة التي حكمتها رضية سلطانة:
سلطنة دلهي دولة إسلامية امتدت لتشمل معظم الأراضي الهندية، وحكمتها عديد من السلالات التركية والأفغانية، من ضمنها المماليك، ما بين عامي 1206 و 1526، وقد كان أحد المماليك الأتراك “قطب الدين أيبك” أول سلطان يتولى عرش دلهي بعد نجاحه في غزو شمال الهند.
بعد وفاة قطب الدين أيبك، خلفه شمس الدين إلتتمش (والد رضية)، واستمر حكم سلالة المماليك لسلطنة دلهي إلى أن استحوذت سلالة الخلجي على السلطة وتلتْهم سلالة “تغلق”، ثم قضى تيمورلنك على حكمهم، ليبدأ عهد جديد في هذه السلطنة التي ينتهي بها الأمر في نهاية المطاف بالانضمام إلى إمبراطورية مغول الهند الفتية.
أول سلطان يعين امرأة خلفاً له
كانت “رضية” محبوبة والدها السلطان شمس الدين إلتتمش والمفضلة لديه، رغم وجود أخ أكبر منها سناً يدعى ناصر الدين محمد، وأخوين غير شقيقين: ركن الدين فيروز، ومعز الدين بهرام.
وكان السلطان يسمح لابنته بحضور مجالس الرجال في أثناء مناقشة شؤون الدولة، ويحرص على تدريبها وتعليمها فنون الحكم وإدارة البلاد في أثناء غيابه؛ لرجاحة عقلها وحكمتها، رغم أن أخاها ناصر الدين كان ولي عهد السلطنة.
موت ناصر الدين المفاجئ في عام 1229 جعل السلطان يفكر في تنصيب خليفة جديد له، ونظراً إلى عدم كفاءة ركن الدين فيروز وأخيه بهرام، قرر السلطان شمس الدين أن يورث العرش لابنته “رضية”، ليكون بذلك أول سلطان يعين امرأة خلفاً له، ولتكون “رضية” المرأة الحاكمة الأولى والوحيدة في سلطنة دلهي.
الرداء الأحمر الذي حقن كثيراً من الدماء
تجاهل ركن الدين فيروز وصية والده بتوريث العرش لـ “رضية”، واستأثر به فور وفاة والده في العام 1236، بمساعدة أمه شاه تركان.
كان من الممكن أن تتمسك “رضية” بحقها في العرش وتشعل بذلك حرباً أهلية في السلطنة، لا سيما مع وجود كثير من الأمراء الداعمين لها وحيازتها محبة أهالي سلطنة دلهي، إلا أنها آثرت حقن الدماء.
لم تخب نظرة شمس الدين في ولده ركن الدين فيروز الذي لم يكن جديراً حقاً بالعرش، فقد انغمس في حياة اللهو والفجور وأفرغ خزائن الدولة على مُتَعه وملذاته الشخصية، وهو ما أثار غضب العامة ودفع الأمراء إلى المطالبة بتولي “رضية” للعرش بدلاً منه.
هذه المطالبات دفعت شاه تركان، والدة ركن الدين فيروز، إلى تدبير محاولة اغتيال لـ “رضية” باءت بالفشل في النهاية، مُكسِبة “رضية” تعاطفاً أكبر، من قبل العامة والأمراء الذين تحركوا لتنصيب “رضية” على العرش، وهو ما جعل فيروز يحشد قواته لمواجهة عسكرية.
ذكر بعض المؤرخين أن “رضية” لم تقبل مواجهة جيش أخيها في ساحة المعركة، وظهرت مرتديةً الثوب الأحمر بدلاً من زيها العسكري، “وقد اعتاد الأشخاص الذين يسعون إلى العدالة ارتداء اللون الأحمر في عهد السلطان شمس الدين، فيتميزون بذلك عن أعالي دلهي الذي يرتدون الأبيض عادة ويهمُّ جنود السلطان بمساعدتهم”.
وعوضاً عن القتال توجهت “رضية” بخطاب نحو شعبها وجيش أخيها، أدى إلى الانقلاب على ركن الدين فيروز واعتقاله دون إراقة الدماء.
وبعد ستة أشهر فقط من توليها السلطة، أُعدِم ركن الدين فيروز ووالدته، بعد أن اعتلت “رضية” عرش سلطنة دلهي.
أفضل من تولى عرش دلهي
انتهجت “رضية” نهج والدها في سياستها الداخلية فنشرت العدل بالبلاد، وقيل إنها كانت تظهر بمظهر الرجال، وتجلس على العرش مرتديةً العباءة والقلنسوة.
ذكر المؤرخون أن “رضية” كانت أفضل مَن تولى عرش سلطنة دلهي، فقد كانت حكيمة وعادلة وسخية، ومُحِبَّة لرعاياها، بالإضافة إلى ما امتلكته من خبرات حربية، فقد تمتعت السلطانة بشجاعة استثنائية، إذ غالباً ما كانت تقود الحروب بنفسها وهي تمتطي ظهر فيلها، وبذلك فهي تتمتع بكل الصفات التي يجب أن يتمتع بها الملوك.
بدأت “رضية” بسلسلة من الإصلاحات الداخلية، باذلةً ما بوسعها لتنهض بالبلاد، التي خوت خزائنها من المال، بسبب إسراف أخيها.
كما حققت جيوشها عديداً من الانتصارات، أبرزها كان تحرير قلعة “رنتهبور” التي حاصرها الهنود بعد وفاة السلطان شمس الدين، فعيَّنت “رضية” واحداً من أكثر القادة العسكريين كفاءة وهو سيف الدين أيبك، الذي تمكن من تحرير المسلمين المحاصرين داخل القلعة.
مع ذلك، لم تكن فترة حكم “رضية” طويلة الأمد؛ بل امتدت فقط لأربع سنوات، انتهت بمقتلها بطريقة مأساوية.
“جماعة الأربعين” يستشعرون خطر “رضية”
في عهد رضية سلطانة كانت هناك مجموعة من الأمراء المماليك المستأثرين بالسلطة والنفوذ والذين يطلق عليهم اسم “جماعة الأربعين”، الذين كانوا يتولون المناصب الحساسة في سلطنة دلهي.
استمر هؤلاء في دعم “رضية” إلى أن باتت مصدر تهديد لهم، فقد وجدوا أنها كانت تحاول تقليص نفوذهم شيئاً فشيئاً باستبعاد المماليك الأتراك من السلطة وتعيين آخرين مكانهم.
فمثلاً سلمت السلطانة منصب “قائد الفرسان” الذي كان يتولاه أحد المماليك الأتراك إلى قائد فارسي (وقيل إثيوبي)، يدعى جمال الدين ياقوت.
بدأ المماليك إثر ذلك بافتعال حركات تمرد ضد السلطانة، وباتوا يتحدّونها علناً بنشر الأقاويل التي تشوه سمعتها، وتتهمها بأنها على علاقة غرامية مع ياقوت.
لكن القضاء على السلطانة لم يكن بهذه السهولة، فقد كانت محبوبة في دلهي، لذا كان على المماليك التفكير في خطة لإبعاد السلطانة عن العاصمة.
مقتل رضية سلطانة
كان المماليك يدركون أن الإطاحة بالسلطانة على أرضها مهمة مستحيلة، لذلك أقنعوا حاكم مقاطعة بهاتيندا “مالك التونيا” بالقيام بحركة تمرد ضد السلطانة تكون كطُعم يجعلها تترك دلهي.
وفعلاً هذا ما حدث، فقد توجهت السلطانة بجيشها إلى مقاطعة بهاتيندا للقضاء على حركة التمرد، وهُزم جيشها هناك وسجنت.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
يختلف المؤرخون حول ما جرى بعد ذلك، لكن الغالبية يقولون إن “رضية” وقعت في نفس “مالك ألتونيا”، وأحبها حباً شديداً وتزوجها، في حين يقول البعض إن الطموح والرغبة في السلطة كانا سبب ذلك الزواج.
بكل الأحوال قرر ألتونيا مساندة “رضية” في حربها مع المماليك، الذين استغلوا غيابها عن دلهي ليعينوا أخاها بهرام سلطاناً بدلاً عنها.
سار ألتونيا مع “رضية” على رأس جيشهما إلى دلهي، لكن الجيوش التي حشدها بهرام ومن خلفه المماليك كانت أقوى وأشد؛ وهو ما أدى إلى اعتقال الزوجين وإعدامهما في 1240.
عُزل بهرام لعدم كفاءته بعد عامين من الحكم، وصمدت السلطنة قرنين من الزمن، بسبب ما أسسه شمس الدين إلتتمش ومن بعده ابنته “رضية”، ثم سقطت في النهاية بيد تيمورلنك في العام 1398.
قبر “رضية”
ترقد السلطانة رضية في قبر متواضع لا يزال موجوداً إلى يومنا هذا بمدينة دلهي القديمة شمال الهند، ومن الواضح أن القبر قد عانى من ويلات الزمن، فبعد أن كان عبارة عن غابة في القرن الثالث عشر تحوَّل إلى مكان مهجور محاط بالأبنية القديمة اليوم.
لا يعلم أحد كيف انتهى جثمان “رضية” إلى حيث يرقد اليوم، ولا يعلم أحد أيضاً هوية صاحب القبر المجاور لقبر “رضية” بالتحديد، إلا أن بعض السكان المحليين قاموا بتحويل هذا القبر إلى مكان للعبادة، تقام فيه الصلوات الخمس كل يوم.