وُصفت المنطقة التي تُعرف باسم “أفغانستان” اليوم بأنها الجسر الذي يربط الثقافات في آسيا الوسطى وشرق آسيا وجنوبها والشرق الأوسط، وعلى مر العصور خرج منها رجال لاتزال ذكراهم حاضرة إلى اليوم؛ لما كان لهم من أثر في تاريخ وثقافة الشرق الأوسط.
فمن منا لم يسمع بجلال الدين الرومي، الذي وُلد في بلخ، أو بالإمام أبي حنيفة الذي كان والده من مدينة كابول عاصمة أفغانستان الحديثة أو بجمال الدين الأفغاني الذي حارب الاستعمار بكافة أشكاله؟
سنحدثكم اليوم عن 4 رجال من أصول أفغانية كان لهم تأثير واضح على الجوانب السياسية والثقافية والدينية في أنحاء مختلفة من الشرق الأوسط، لكن دعونا أولاً نُطلعكم بشكل سريع على تاريخ تلك المنطقة التي ندعوها اليوم “أفغانستان”:
أفغانستان ما بين الماضي والحاضر
لم تحمل تلك المنطقة اسم “أفغانستان” على الدوام، فقد تأسست دولة أفغانستان الحديثة عام 1709، وقد تبعت مدنها على مر العصور لسلطات مختلفة، فحكمها العرب والفرس والأتراك والمغول، مدركين الأهمية الاستراتيجية لموقعها.
وقد كانت هذه المنطقة مصدر انطلاق للتيموريين (وهم سلالة تركمانية) الذين اتخذوا من مدينة هرات الأفغانية عاصمة لهم، واستطاعوا تأسيس إمبراطورية ضخمة شملت معظم آسيا الوسطى وإيران والعراق والأناضول خلال القرن الخامس عشر.
أما مصطلح “أفغان” فكان يشير تقليدياً إلى عرقية البشتون على وجه التحديد، مع العلم أن دولة أفغانستان الحديثة تضم مناطق كان سكانها فيما مضى يتحدثون لهجات فارسية، تُعرَف بـ”الطاجيكية”، ولغات تركية مثل “الأوزبكية”.
وكانت المنطقة تاريخياً أيضاً موطناً لمجتمعات عربية صغيرة، وصلوا إلى هناك كجنود ومديرين وتجار ودعاة في القرون التالية لظهور الإسلام، لكنَّ هؤلاء السكان انصهروا منذ ذلك الحين في المجموعات العرقية المجاورة، وفقاً لما أورده موقع Middle East Eye البريطاني.
رجال من أصول تاريخية شكلوا تاريخ الشرق الأوسط
إليكم أبرز 4 رجال ينتمون لمدن تقع ضمن حدود أفغانستان الحالية وكان لهم تأثير كبير في الشرق الأوسط:
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
جلال الدين الرومي
يُعتبر جلال الدين محمد بلخي، الذي عُرِفَ لاحقاً باسم “جلال الدين الرومي”، على نطاق واسع، واحداً من أعظم شعراء اللغة الفارسية، وقد وُلد في مدينة بلخ الأفغانية عام 1207 .
كان والد الرومي أحد علماء الدين أيضاً وأحد أعلام عصره وكان مُلقباً بـ”سلطان العلماء”، وهو بهاء الدين بكري، المعروف باسم “بهاء الدين ولد”.
غادر الرومي بلخ مع عائلته في سنٍ يافعة؛ هروباً من جحافل التتار التي كانت تغزو آسيا الوسطى، وعاش في نهاية المطاف بالعراق وسوريا وتركيا الحالية خلال فترات زمنية مختلفة.
ومع تقدمه بالسن، درس الرومي في إطار المذهب الحنفي من الفقه السُّنِّي، وانتقل لاحقاً إلى مدينة قونيا بتركيا، في منطقة كانت تُعرَف آنذاك باسم “روم”، وهناك عمل معلماً.
قُرئ شعره على نطاق واسع باستخدام القواعد النحوية العربية وتناول الروايات المنسوبة إلى النبي محمد، وكذلك الموضوعات الدنيوية مثل التاريخ والفلسفة وعلم الفلك. واكتسب لقب “مولانا”، الذي مايزال يستخدَم حتى اليوم للإشارة إليه.
وكان لأعمال الرومي تأثير كبير على تطور الأدبين التركي والفارسي وأدب جنوب آسيا.
توفي الرومي بقونيا في ديسمبر/كانون الأول من عام 1273، وشارك الآلاف في جنازته، ولايزال الضريح المُقام فوق مقبرته موقع جذب لمُحبِّيه والسياح على حدٍّ سواء.
الإمام أبو حنيفة
وُلِدَ أبو حنيفة بن النعمان بن ثابت بن زوطا في العراق سنة 689 ميلادية لأب فارسي من كابول.
وأصبح لاحقاً أحد أكثر الفقهاء وعلماء الدين المسلمين تأثيراً في التاريخ، وأكثر ما يشتهر به هو تأسيسه للمذهب الحنفي في الفقه السُنّي، وهو المذهب الأكثر اتباعاً من بين المذهب السُنّيّة الرئيسية الأربعة.
بدا في شباب أبي حنيفة أنَّه مُقدَّرٌ له أن يحذو حذو أبيه ليصبح تاجراً، لكنَّ ولعه بالنقاشات الدينية تطور ليصبح دراسةً طوال الوقت للدين الإسلامي.
واتسم نهجه الشرعي بتقديم القراءة المباشرة للقرآن، تليها سُنّة النبي محمد، ثم سلوك الصحابة، يليه استخدام القياس، وتوافق الجمهور، والعرف، فضلاً عن التطبيق العملي.
لا يكمن إرث أبي حنيفة فقط في الأحكام المحددة التي أصدرها هو وتلاميذه والتي كانت تطبيقاً لمبادئ الإسلام على المشكلات الشرعية التي ظهرت بمجتمعاتهم، بل أيضاً في تأسيسه المنهجية اللازمة للوصول إلى هذه الأحكام.
توفي العالم في سن السبعين، حين كان يتعرَّض لضغوط من جانب الخليفة العباسي المنصور لقبول منصب قاضي القضاة. وكان أبو حنيفة قد رفض تولي المنصب؛ خوفاً من أن يؤثر توليه منصباً رسمياً على استقلاليته، وهو ما أثار غضب الخليفة.
غضب المنصور من تحدي سلطته، فسجن أبا حنيفة، ثم توفي العالم لاحقاً في السجن.
مع ذلك، لم تترك هذه الحادثة أثراً يُذكَر في ما يتعلق بإلغاء إرثه بعدما ترسَّخ مذهبه الحنفي بقوة وخرجت أعداد كبيرة جداً في جنازته، لدرجة أنَّه تعيَّن تكرار صلاة الجنازة خمس مرات؛ حتى يتمكَّن كل أولئك الذين أرادوا توديعه من أدائها. وقد بُني ضريح ومسجد فوق مقبرته لايزالان موجودين إلى اليوم في بغداد.
جمال الدين الأفغاني
وُلد جمال الدين أسد آبادي، الذي يشار إليه في كثير من الأحيان باسم “الأفغاني”، في عام 1838. وبرز نشاطه السياسي وعمله الصحفي خلال القرن الـ19، وسافر في جميع أنحاء العالم الإسلامي من أجل تحقيق الوحدة الإسلامية الشاملة.
تباينت الأقاويل بشأن محل ميلاده بالضبط، حيث ادّعى البعض أنَّه وُلد في أفغانستان وزعم آخرون أنَّه في الأصل إيراني لكنه تظاهر بأنَّه أفغاني؛ ليتجنّب اتهامه بالتشيع وسط محيطه السني إلى حدٍّ كبير.
ومع ذلك، لم تكن هذه الاختلافات الطائفية مهمة بالنسبة للناشط جمال الدين الأفغاني، الذي أمضى فترة كبيرة من حياته المهنية في التحريض السياسي ضد الإمبرياليين الغربيين.
بدأ مسيرته المهنية في الهند البريطانية، حيث أسّس نمطاً للسفر عبر العالم الإسلامي والعمل مع نشطاء محليين في إيران والعراق وتركيا ومصر لتنظيم نشاط نضالي ضد الأجانب.
يُنظر إلى تجربة الأفغاني في الهند، التي تزامنت مع تمردها ضد الحكم البريطاني، باعتبارها نقطة تحوُّل في تطوره السياسي وتشكيل رؤيته المناهضة للغرب.
تولّى الأفغاني منصباً سياسياً بحكومة أفغانستان في عام 1866، وزار العديد من الدول، من بينها مصر وفرنسا وتركيا والمملكة المتحدة وروسيا.
كانت أيديولوجيته تتركز في جوهرها على وحدة عموم المسلمين وأنَّ السبيل الوحيد للتغلب على التدخل الغربي في العالم الإسلامي يقوم على أساس النضال المشترك.
شهدت القاهرة بعض أبرز أنشطة الأفغاني عندما مكث فيها في الفترة من 1870 إلى 1879، حيث درَّس الفلسفة الإسلامية وأطلع الطلاب على أفكاره حول الإصلاح السياسي.
انخرط الأفغاني في السياسات القومية المصرية والمناهضة لبريطانيا وشجّع تلاميذه وأتباعه على إنشاء الصحف السياسية. وتحوّل أحد أتباعه، الشيخ محمد عبده، فيما بعد إلى رائد النهضة الفكرية الإسلامية الحديثة، إضافة إلى سعد باشا زغلول، الذي أسس حزب الوفد القومي المصري.
توفي الأفغاني بمرض السرطان بتركيا في مارس/آذار 1897 ودُفن فيها. وفي عام 1944 طلبت الحكومة الأفغانية إعادة رفاته إلى أفغانستان وبنت ضريحاً له تخليداً لذكراه.
إبراهيم بن أدهم
وُلد إبراهيم بن أدهم، الذي يُشار إليه أحياناً باسم “إبراهيم بلخي”، في ولاية بلخ بأفغانستان عام 718 ميلادياً لعائلة أرستقراطية عربية، لكنه اشتهر بعد ذلك بتخلّيه عن هذه الرفاهية المادية والعيش زاهداً.
ساعد إبراهيم بن أدهم في تطور الحركة الصوفية، وأشاد به الفقيه والشاعر الصوفي الشهير جلال الدين الرومي، وتحدث عنه في ديوانه الشعري “مثنوي”.
اختار ابن أدهم حياة الزهد بعد أن تخلّى عن جاهه وماله، معتقداً أنَّه لن يستطيع إيجاد طريق الله بينما تُشتت انتباهه حياة الترف، في مسار يحاكي قصة مؤسس الديانة البوذية، غوتاما بوذا.
تقول إحدى الروايات إنَّ ابن أدهم صادف راعي جِمال يبحث عن حيوانه على سطح قصره. عندما أبدى ابن أدهم عدم اقتناعه بوجود جمل يستطيع الوصول إلى سطح القصر، أجاب الرجل بأنَّه من غير المعقول بالقدر نفسه البحث عن الله وسط حياة الثراء المادي.
قيل إنَّ هذه التجربة كانت بمثابة لحظة تجلي الحقيقة بالنسبة لإبراهيم بن أدهم، الذي عاش بعد ذلك زاهداً في متاع الدنيا الفانية وسافر عبر المناطق حتى توفّي ودُفن في سوريا عام 776 ميلادياً.