بتحالفها القديم بين محمد بن عبد الوهّاب ومحمد بن سعود عام ١٧٤٤م، أرست المملكة حكمها معتمدة على كسب شرعيتها بصورة أساسية على الخطاب السلفي الوهابي باعتبارها دولة تقيم الشريعة وتحفظ الإسلام والسُنة وتعمل على نشرهم، في المقابل مثّل خطاب جماعة “الإخوان المسلمين” خطابًا إسلاميًّا سُنيًّا إحيائيًّا مرتكزًا على القيّم الإسلامية العامة، وتصوّرًا للإسلام باعتباره نموذجًا كاملًا للمجتمع والدولة في العصر الحديث. ومع الانتشار الملحوظ لجماعة الإخوان بات يُشار لها دائمًا بأنها كبرى حركات الإسلام السياسي السُني في العالم والتي تفرعت منها حركات إسلامية متنوعة في وقت لاحق، ويعد الخطابيّن السلفي والإخونجي -على ما بينهما من تباين- هما المُمثلين الأبرز والأكثر ثقلًا للإسلام السياسي السُني في العصر الحديث، وما أبعدَ كلاهُما عن الإسلام الحقيقي وسُنّة الرسول محمد ﷺ!
وللدكتور رضوان السيد هنا إشارة مهمة وتأسيسية وهي أن “الحركة السلفية الوهابية وحركة الإخوان المسلمين حركات أيديولوجية بالمعنى الحديث أكثر من كونهم حركات دينية دعوية أو تبشيرية بالمعنى التقليدي”، واستنادًا إلى الفيلسوف السياسي فرنسوا دورتييه في توضيح الفرق بين الأيديولوجية والدين إن هناك “تداخلًا كبيرًا بين الدين والأيديولوجية كأنساق معرفية، فكلاهما يتشارك في ذات الخصائص ويؤدي الأدوار نفسها، كإضفاء الشرعية السياسية والاجتماعية والتحريك الجماهيري وتوجيه السلوك والضبط الأخلاقي والقانوني”.
بينما يكمن الاختلاف الأساسي بين الأيديولوجية والدين، في وجود لحظة مؤسسة للأيديولوجية داخل التاريخ غير مرتبطة بنشأة الدين نفسه، باعتبار الدين نسق معرفي يهيمن على التاريخ ويشير دائمًا إلى وجود لحظة خارجه، “فالأيديولوجية سواء الدينية أو العلمانية، كما يوضح فرنسوا دورتييه؛ هي استجابة إنسانية تاريخية، بحيث أنها تبدأ في التاريخ وتنتهي فيه، وهي استجابة لأزمات أو توترات أو صراعات أودت إلى حاجة جماعية، لإعادة سرد التاريخ وتأويله، وتقييم الحاضر والاشتباك معه بأفكار وأدوات جديدة”.
ويضيف دورتييه “إن الأيديولوجية بصفة عامة تبدأ بلحظة تاريخية حرجة، لحظة تاريخية سببها ظهور مشكلة ما -توترات، انكسارات، تهديدات، صراعات- وبعدها يبدأ البحث عن حلول جماعية” إلا إنه خلال البحث عن حلول جماعية -وعلى عكس العلوم التقنية والتطبيقية التي تبدأ في تجزيئ المشكلة، والبحث عن حلول ملائمة لكل مشكلة على حدة، فإن الأيديولوجية تنزع إلى إدماج جميع المشاكل في مشكلة واحدة لتختزل بالتبعية جميع الحلول في صيغة واحدة نهائية، هذه الاستجابة -الاختزالية ربما- هي نواة كل أيديولوجية، حيث تُساعد هذه الرؤية للأمور على تقسيم العالم إلى قسمين: الشر والخير، الخطأ والحقيقة، العدو والصديق.. أو بتعبير أوضح: تقسيم العالم إلى: المشكلة وحلها. وهو ما انعكس بشكل واضح على أيديولوجية الإسلام السياسي المعاصر بشقيّه الرئيسيّن السلفي والإخونجي وطبيعة نشأتهما.
الإسلام كأيديولوجية
بنفس تلك الفرضية التي وضحها فرنسوا نشأت أيديولوجية الإسلام السياسي، سواء في نسختها الوهابية السلفية أو نسختها الإحيائية الحضارية كما في حالة الجماعة المسمّاة بالإخوان المسلمين. حيث تسرد السردية الأيديولوجية الوهابية وضعًا قاتمًا للأوضاع الدينية في نجد في القرن الثامن عشر، فعلى سبيل المثال، يذكر المؤرخ السعودي حسين بن غنام في كتابه “تاريخ نجد”، والذي يعد أحد الكتب الرسمية لتاريخ الحركة الوهابية، أنه قبل محمد بن عبد الوهاب والحركة الوهابية السعودية “كان أغلب المسلمين -خصوصًا في الجزيرة العربية- قد عادوا إلى الشرك والجاهلية الأولى، نتيجة لانتشار الجهل الديني والتحلل الأخلاقي وانقسام المسلمين إلى فرق متنازعة”، بالإضافة إلى معاناة منطقة نجد والحجاز بصفة عامة من التهميش السياسي وكثرة الحروب القبلية وكساد التجارة والاقتصاد.”
بينما كان إلغاء الخلافة الإسلامية والاستعمار الأوروبي والتغريب والتحالف بين النخب العلمانية المصرية والمستعمرين هو ما دفع حسن البنا لتأسيس جماعة “الإخوان المسلمين” وميلاد “الأيديولوجية الإسلامية في طبعتها الاخوانية”.
يروي البنا عند انتقاله إلى القاهرة في عام ١٩٢٣ لاستكمال تعليمه العالي، كيف صدمته الفجوة بين الحياة في بيئته الريفية والمجتمع الجديد الذي كان قيد التشكيل في القاهرة والمدن الحضرية والتي كانت تتعرض لفورة ثقافية وسياسية في أعقاب ثورة ١٩١٩.
يتجلى ذلك بوضوح في مذكراته، حيث وصف البنا الفترة التي قضاها في مصر في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأشار إلى أنه في هذه الفترة “اشتد تيار موجة التحلل في النفوس وفي الآراء والأفكار باسم القضاء على الرجعية، ثم في المسالك والأخلاق والأعمال باسم التحرر العقلي، فكانت موجة إلحاد وإباحية قوية جارفة طاغية، لا يثبت أمامها شيء، وتساعد عليها الحوادث والظروف.”
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وبحسب الباحث محمد عفان فقد اتهم البنا الانقلاب الكمالي على الخلافة الإسلامية، والنخب العلمانية المصرية أنها تعمل على إضعاف الدين ونشر المادية الغربية، مضيفًا إن “البنا قد لاحظ بمرارة أن معسكر الانحلال والإباحية كان في حالة قوة وفتوة، بينما كان معسكر الفضيلة الإسلامية في تراجع وانحسار، لذا قرر أن يعمل هو بإيجابية، وأن يدفع الجماهير المتدينة إلى العمل سويًّا وبجدية للعمل ضد تيار الإلحاد والإباحية” وأن تأخذ هي زمام المبادرة.
ويضيف عفان أنه خلال التأسيس الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في خمسينيات القرن الماضي، وإعادة إنتاج أيديولوجية الإسلام السياسي، بعد اغتيال مؤسسها، كان المنظر الأساسي في هذه الفترة سيد قطب يواجه تحديًّا آخر، وهي الهيمنة الشمولية للنُظم العسكرية العلمانية التي نشأت عقب استقلال الجمهوريات العربية، ومحاولة إخضاع الديني لصالح السياسي.
موضحًا أن “الحقبة الليبرالية في مصر قد انتهت على يد حركة الضباط الأحرار عام ١٩٥٢، وأصبحت الأيديولوجية المعلنة في مصر بعد الاستقلال علمانية بوضوح: اشتراكية وقومية، وقد أنشأ الحكام الجدد نظام الحزب السياسي الواحد، والذي يمتاز بتركز السُلطة السياسية، وتضخم جهاز الدولة على حساب المجتمع المدني والأهلي”.
فقد هيمن النظام الجديد على كافة الأنشطة الاجتماعية -الاقتصاد، التعليم، الإعلام، الدين… إلخ- مدعومًا بأجهزة أيديولوجية وأمنية ضخمة ومتوحشة، حيث برز على يد سيد قطب في المقابل مفهوم أيديولوجي جديد هو مفهوم “الحاكمية”، لنزع الشرعية الأخلاقية والسياسية عن هيّمنة الأيديولوجية القومية الثورية على المجتمعات العربية والإسلامية.
فروق صغيرة.. عداوات كبيرة
على الرغم من أن السبب أو التحدي الأساسي الذي أدى لنشوء الأيديولوجية الإسلامية بنوعيها السلفي الوهابي والإخواني، هو إحساس عام مشترك بأزمة تهدد الإسلام كما صورت كل السرديات المؤسسة للإسلام السياسي، إلا أن السياقات التاريخية التي نشأت فيها كل أيديولوجية على حدة شكلت اختلافات وفروقًا مثلت للطرفين مع مرور الوقت بُؤر هويّة وتمايز أدى لتزايد الحواجز التي تعيق أي إمكانية للتعاون أو التنسيق بين الطرفين في ملفات قد تمثل مصالحًا مشتركة، وكانت بعيدة كُل البُعد عن منهج أهل السُّنّة والجماعة، بل وكانت معادية لمنهج السُّنّة الحقيقي عداوةً واضحةً وضوح الشَّمس.
ذلك أن تنامي سياسات العداء التي شملت أغلب تاريخ العلاقة بين الطرفين، خاصة من الجانب السعودي بعد نهاية فترة الستينيات وصولا إلى الربيع العربي وما بعده -ناهيك أن الربيع العربي وحده دليل مطامع وأهداف هذه الفرق، تشير إلى وجود سبب أعمق في توليد حالة العداء والعنف الرمزي في علاقة الطرفين.
شكلت تلك الفروق بين الخطابين، موضوع الصراع بعد اندلاع الربيع العربي، حيث كان للدور المحوري الذى لعبه الإخونج خصمًا ليس في الدور السعودي في المنطقة فقط، ولكن خصمًا من الأيديولوجية الوهابية وخطابها المؤسس لشرعية النظام السعودي، وهو ما يفسر بنظر البعض السياسات العدائية التي انتهجها النظام السعودي تجاه صعود الإخونج واعتبارهم خطرًا وجوديًّا على المملكة والدعم السخي للانقلاب العسكري في مصر، ودعم ميليشيات الحوثي والنظام القديم في اليمن، وصولًا إلى حضور الإخوان وحماس في التصعيد الأخير ضد قطر الذي تتزعمه المملكة في سابقة تاريخية لم تعرفها دول مجلس التعاون الخليجي من قبل.