بعد معركة مرج دابق التي انتصر فيها العثمانيون على المماليك، كانت مصر تحت حكم آخر سلاطين المماليك، السلطان طومان باي. وكان السلطان قنصوة الغوري قبل أن يخرج لمُلاقاة العثمانيين في معركة مرج دابق، قد عيّن ابن أخيه طومان باي حاكماً على مصر.
انتهت معركة مرج دابق بإحكام سيطرة العثمانيين على بلاد الشام، بينما بقيت مصر، كما سبق الذكر، تحت حكم طومان باي لبعض الوقت. ولم يطل الأمر كثيراً فسرعان ما أحكم السلطان العثماني سليم الأول سيطرته على مصر أيضاً، بعد معركة “الريدانية” الشهيرة التي أحرز خلالها انتصاره على طومان باي.
مُطالبة سليم الأول لطومان بالسمع والطاعة
وهو في الشام أرسل السلطان سليم الأول رسالةً إلى طومان باي، يُطالبه فيها بالسمع والطاعة وداعياً إياه بالمجيء إليه، وهذه المراسلات وغيرها موجودة في كتاب “الفتح العثماني للشام ومصر” لأحمد فؤاد متولي، أرسل سليم قائلاً:
“عندما يصلكم حُكمي الشريف واجب الاتباع فلا يتطرّق الخوف أو الخشية لخاطركم على أيّ وجهٍ من الوجوه سواء أنت أو من يتبعك من الأمراء أو من عبيدك الخواص أو من خدمك أو من الأشخاص الذين تحبهم، فلتتوجهوا إلى عتبتي دون إبطاء، وعندما تصلون ستكونون ملحوظين بنظر عنايتنا ومحظوظين بسهام رعايتنا السلطانية، فلتكن محسود الأماثل والأقران، ومغبوط الأكابر والأركان، وليُظهر الطاعة والانقياد كل من يأتي معك، وسيُرعى كل واحدٍ منهم على قدر مرتبته بأضعاف الرعايات المُضاعفة ليشكر ويذكر جيداً”.
بعد الوعود بالأمان والرعاية، يُكمل السلطان العثماني رسالته مُحذراً طومان باي من المقاومة:
“أما إذا لم تطع حكمي، فلا تغفل عن الخبر القائل “جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى قيام الساعة”، وإذا تمسكت بسلوك العصيان والطغيان، فإن مظالمك ومظالم تبعتك مُعلقة في رقبتك، لن يفلت شخص من قبضة طلاب الدين والدولة، سواء كنتم في مصر أو في الحجاز أو في اليمن، فليكن رجالكم طعاماً للسهام أو علفاً للسيوف، ولتكن نساؤكم وأولادكم في الحبس مُقيدين بالأغلال، والباعث على إرسال هذا الخطاب هو الشفقة والرحمة السلطانية المحضة، وإقتداءً بالنص الكريم (وما كُنّا مُعذبين حتى نبعث رسولاً)”.
تبدو في الرسالة لهجة المُنتصر الذي يُملي شروطه ومطالبه بالطبع، ويحث خصمه على التسليم حقناً لدمائه ودماء أتباعه، ويؤكد له انتصاره عليه مهما أعدّ له من قوة، فهو في النهاية سيقع تحت طائلته ولن يفلت منه، ولم تذكر المصادر التاريخية رداً من طومان باي على رسالة سليم الأول، ويبدو أن طومان باي رفض ما جاء في الرسالة وصمم على مُلاقاة العثمانيين.
الكثير من الحسابات قبل قرار التحرّك تجاه مصر
يذكر لنا المؤرخ ابن زنبل الرمّال، وهو مؤرخ مصري مسلم عاش في القرن الخامس عشر، أنّ السلطان العثماني لم يكن ينوي فتح مصر، فبعد أن استولى على حلب ودمشق فكّر في العودة إلى بلاده، لولا تحريض خاير بك، وهو أحد أمراء المماليك الچراكسة، الذي انضم إلى صفوف العثمانيين وكانت خيانته لسلطان المماليك قنصوة الغوري في مرج دابق والشائعات التي أطلقها بين صفوف الجيش سبباً قويّاً في تحقيق العثمانيين للانتصار.
قال خاير بك للسلطان العثماني: “نركب إلى مصر نأخذها، ونقطع هذه الطائفة، يقصد بها الچراكسة (التي هو منها)، من أرض مصر جملة واحدة، وأنا ضامن لك هذا الأمر بعناية الله”.
في هذه الأثناء يبدو أن السلطان العثماني كان لا يفكر بجديّة في فتح مصر، والأمر كان له العديد من الجوانب والحسابات التي تسيطر على عقل السلطان وتجعل هذه الخطوة تستحق الكثير من التأنِّي والحذر قبل الإقدام عليها.
فالحملة على مصر ستعرِّض العثمانيين لمخاطر اجتياز صحراء سيناء، بما في ذلك خطر هجوم البدو عليهم، وأنّ سهولة فتح بلاد الشام يجب ألا تؤخذ معياراً لفتح مصر، فالمماليك في بلاد الشام كانوا قلّة، مقارنةً بأعداد المماليك الموجودين في مصر، كما أنّ الناس كانوا كارهين للمماليك في بلاد الشام ناقمين على ظلمهم وتعسفهم، وهو ما سهّل الفتح العثماني.
كان السلطان سليم الأول يتوقّع أن يُلاقي مُقاومةً في مصر أكثر عنفاً، نظراً لتمركز المماليك بها، واعتبار مصر آخر معاقلهم، كما أن توغُّل العثمانيين في مصر وانشغالهم بفتحها من الممكن أن يشجِّع أعداءه الرئيسيين “الصفويين” على استجماع قوتهم وإعادة تهديد المناطق العثمانية.
كما كان القلق من الإمبراطورية الصفوية الفارسية والمدّ الشيعي الذي ترغب في إحداثه بالمناطق السنية هو المُحرك الأساسي للعثمانيين في معاركهم السابقة ضد الصفويين، فكانت معركة جالديران التي هَزَمَ فيها العثمانيون الصفويين، وكان أحد أسباب معركة مرج دابق، هو خشية العثمانيين من التحالف بين المماليك والصفويين.
لهذه الأسباب مُجتمعة حاول السلطان العثماني مُفاوضة سلطان المماليك بمصر وأتباعه على الخضوع له وحكم مصر باسمه، لكن وبالرغم من كل هذا لم يجد السلطان سليم الأول بُدّاً من إكمال مُهمته وبدء التحرك في اتجاه مصر بعد رفض طومان باي مطالبه الخاصة بإعلان الطاعة والولاء له.
ووفق كتاب أحمد فؤاد متولي سابق الذكر فقد أرسل سليم الأول بعد تحركه باتجاه مصر رسالة أخرى إلى طومان باي يقول له فيها: “من مقامنا السعيد إلى الأمير طومان باي، أما بعد، فإن الله تعالى قد أوحى إليّ أن أملك الأرض والبلاد من الشرق إلى الغرب كما ملكها ذو القرنين، وإنك مملوك منباعٌ ومشترى ولا تصلح لك ولاية، وأنا ملك بن ملك إلى الجد العشرين، وإني أخذت المملكة بالسيف بعد وفاة السلطان قنصوة الغوري، فاحمل لي خراج مصر كل سنة، وإن أردت أن تنجو من بأسنا، فاضرب السكة في مصر باسمنا وكذلك الخطبة، وتكون نائباً عنّا في مصر، وإن لم تدخل في طاعتنا أدخل إلى مصر وأقتل جميع من بها من الچراكسة، حتى أشقّ بطون الحوامل، وأقتل الجنين في بطنها”.
كان سليم الأول رغم التهديد حادّ اللهجة لا يرغب في الحرب، فقد كان يودّ أن تكون مصر تابعة له تحت حكم طومان باي، لكنّ طومان باي استشاط غضباً مما جاء في الرسالة من إهانةٍ مسّت كرامته، فأمر بقتل الرسول الذي جاء بالرسالة، ولما علم السلطان العثماني بما حدث لرسوله استمرّ في تحركه تجاه مصر.
الاستعداد لمعركة الريدانية
وفقاً لكتاب “طومان باي آخر سلاطين المماليك”، فقد بدأ طومان باي في تحصين الريدانية، وهي مكانٌ بالقرب من حيّ العباسية بالقاهرة، فحفر خندقاً على طول الخطوط الأمامية، وأعدّ أسلحته، ولما علم بتوغُّل العثمانيين في البلاد المصرية، حاول أن يقنع أمراءه بترك الريدانية ومُباغتة العثمانيين، وهم في حالة إعياء بعد عبور الصحراء، لكنّ الأمراء رفضوا الانصياع للأمر، وظنُّوا أن الخندق الذي أعدّوه بالريدانية كفيلاً بحمايتهم.
قبل أن يصل العثمانيون إلى الريدانية، أسروا بعض البدو العربان وقاموا باستجوابهم وقتل بعضهم. أخبر العربان العثمانيين بأنّ المماليك استعانوا برجال مدفعية أشداء وحفروا خندقاً طويلاً، وقد تحصّن جيش المماليك في الخندق الذي أقاموه في الريدانية انتظاراً لقدوم الجيش العثماني، أدرك العثمانيون وفهموا طبيعة المدافع المملوكية، وأنها لا تتحرك إلى الخلف بسهولة على عكس المدافع العثمانية المتطوّرة.
وفي 22 يناير/كانون الثاني عام 1517م تلاقى الجيشان العثماني والمملوكي في الريدانية، وقد بدأ العثمانيون بالهجوم من جبل المقطم، بعد مُشاورة من معهم من المماليك العالمين بطبيعة البلد، وقد استخدم سليم الأول المدافع المملوءة بالشظايا لأوّل مرة في معركة الريدانية، وهي مدافع تقذف بمُعدل من 5 إلى 10 قذائف متوالية.
كانت كفة الانتصار في المعركة تميل نحو المماليك حيناً ثم تميل نحو العثمانيين حيناً آخر، لكن انتهى الأمر بإحراز العثمانيين النصر، ولم يحدث هذا إلا بعد أن تكبّدوا خسائر فادحة، ومنها موت سنان باشا الصدر الأعظم ورجل السلطان سليم المُقرّب، أثناء المعركة، وبعد فتح مصر قال السلطان العثماني: “استولينا على مصر، لكننا فقدنا سنان باشا، خسارتنا فيه لا يمكن أن تعدلها دولة”.
ما بعد الريدانية.. هروب طومان باي ليحارب من جديد ثم شنقه
دخلت الجيوش العثمانية القاهرة، ونادت في الطرقات أن من كان لديه مملوكٌ جركسي ولا يُبلغ عنه فسوف يُشنق على الفور وفقاً لكتاب “الفتح العثماني للشام ومصر”.
وفي كل ليلة كانت تخرج فرقٌ من المماليك لتهجم على القوات العثمانية المتواجدة وسط القاهرة، في حرب شوارع مفتوحة قادها طومان باي بنفسه، لكنهم أُجبروا على التراجع بعدما استخدم العثمانيون البنادق من فوق الأسطح والأسوار، فلم يكن أمامهم سبيل للصمود أمام الرصاص.
أمّا المؤرخ ابن إياس، في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور” فيحكي لنا عن هرب طومان باي بعد الهزيمة، واختبائه في الإسكندرية، لكن تم إلقاء القبض عليه في نهاية الأمر بعد تعرُّضه للخيانة مثل عمّه، وإرسال السلطان العثماني قوّة للقبض عليه.
أُعجب سليم الأول بشجاعة وذكاء طومان باي وكاد أن يعفو عنه، لكنّه تراجع بعدما أقنعه أتباعه بأن بقاءه على قيد الحياة يقلل من سيطرته على حكم مصر. وفي 15 أبريل/نيسان عام 1517، أُخرج طومان باي من سجنه، وسار وسط جنود العثمانيين إلى باب زويلة، حيث أُقيمت له مشنقة وتمّ إعدامه، وظلت جثته معلَّقة 3 ليالٍ، قبل أن يتم دفنه.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
يقول ابن إياس: “فلما شُنق وطلعت روحه، صرخت عليه الناس صرخةً عظيمة، وكثر عليه الحزن والأسف، فقد كان شاباً حسن الشكل وسنُّه حوالي أربعة وأربعين سنة، وكان شجاعاً بطلاً، تصدّى لقتال ابن عثمان، وثبت وقت الحرب وحده بنفسه، وكان ملكاً حليماً، قليل الأذى كثير الخير، وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية ثلاثة أشهر وأربعة عشر يوماً”.
وبعد انتصار العثمانيين وشنق طومان باي على باب زويلة، أصبحت مصر خاضعة بالكامل للدولة العثمانية وانتهى عصر حكم المماليك لها بشنق آخر سلاطينهم، وأصبح حينها خاير بك الذي خان من قبل السلطان قنصوة الغوري وحاول دائماً إقناع السلطان سليم الأول بغزو مصر، كما سبق الذكر، هو أول حاكم لمصر تحت السلطنة العثمانية.