تعتبر معركة “مرج دابق” معركةً شديدة التأثير على العالم العربي والإسلامي، فهي لم تكن بين قوّة بيزنطية وإسلامية مثلاً، وليست ضمن الحروب الصليبيّة التي طالت العالم العربي والإسلامي مدة قرنين من الزمان، وإنّما كانت معركة إسلامية – إسلامية، تقاتل فيها المماليك والعثمانيون، وكان قادتها السلطان سليم الأوّل العثماني والسلطان قنصوة الغوري، قائد المماليك.
وبعدما أعلنت قناة MBC عرض مسلسل “ممالك النار” الذي يتناول هذه المعركة والتفاصيل المحيطة بها، فهذا التقرير سيعود معك إلى التاريخ ليشرح لك بعض التفاصيل المحيطة بالمعركة ونتائجها.
المماليك والعثمانيون قبل معركة “مرج دابق”
بعد أن أمّن السلطان سليم الأول حدود الدولة العثمانيّة من الناحية الشرقية والغربيّة، أصبح بإمكانه الآن تحويل انتباهه إلى الجنوب الشرقيّ، حيث كانت سلطنة المماليك القديمة هي المهيمنة على مصر والشّام والجزيرة.
كان العثمانيّون قد سيطروا على القسطنطينيّة عاصمة الدولة البيزنطية والتي أصبح اسمها إسطنبول عام 1453 واتخذوها عاصمةً لهم، وكانت السيطرة على القسطنطينيّة بداية توجُّه الدولة العثمانيّة الفتيّة إلى أوروبا الشرقيّة بل وحتّى لاحقاً إلى وسط أوروبا حيث أسوار فيينا، لكنّ سلطاناً واحداً من العثمانيين قرّر تغيير وجهته إلى الشرق بدلاً من الغرب، هو السلطان سليم الأوّل.
في أوائل القرن السادس عشر، كانت الإمبراطورية العثمانية قد غزت بالفعل معظم البلقان، والتي تقع في الجزء الجنوبي من أوروبا، وحوّلت انتباهها إلى الشرق الأوسط.
كان الدافع الأوّلي وراء هذا هو الخوف من تأثير الإمبراطورية الصفوية الفارسية سريعة التوسع، فقد نشأت الإمبراطورية الصفوية في عام 1501 في ما يعرف اليوم بمقاطعة أذربيجان الشرقية في شمال إيران، وسرعان ما توسّعت لتشمل الكثير من بلاد فارس وأفغانستان والعراق.
كان للدولة الصفوية تأثيرٌ هائل على العديد من القبائل التركية والكردية في شرق تركيا، فقد تأثر الكثير منهم بالدعاية الشيعية للصفويين، ومن أجل مواجهة هذا التأثير الهائل المزعزع للاستقرار على الجهة الشرقية، تحرك العثمانيون لمواجهة الصفويين مباشرة، وقد أدى ذلك إلى معركة “جالديران” المحورية في 23 أغسطس/آب عام 1514، والتي أسفرت عن النصر العثماني، بمساعدة المدفعية المتفوقة.
عزّزت “جالديران” الحكم العثماني على شرق تركيا وبلاد ما بين النهرين وقصرت التوسع الصفوي في الغالب على بلاد فارس، وأوقف هذا أيضاً توسُّع الإسلام الشيعي، وحافظ الإسلام السني، الذي دافع عنه العثمانيون، على هيمنته الدائمة في معظم أنحاء المنطقة.
سرعان ما أدت معركة “جالديران” إلى معركةٍ محورية أخرى في المنطقة، فبعد أن أمّن السلطان العثماني إمبراطوريته الشرقية، كان بإمكانه تحويل انتباهه إلى الجنوب الغربي، حيث سلطنة المماليك هي المهيمنة.
كانت سلطنة المماليك هي القوّة المهيمنة على العالم الإسلامي لما يزيد عن 250 عاماً، حيث حكمت في مصر والمدن المقدّسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس، وباقي ساحل ومدن الشام، كان هذا بعدما غزا الصليبيّون العالم الإسلامي، ثمّ من بعدهم المغول الذين فتتوا العالم الإسلامي تماماً وقتلوا الخليفة العباسيّ في بغداد.
لكنّ المماليك استطاعوا عبر العديد من المعارك والصراعات الداخلية والخارجية تأسيس دولتهم في مصر، والتي امتدّت لتشمل كامل الشام، وفقاً لما يذكره لنا كتاب “تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام” للمؤرخ محمد سهيل طقوش.
تأسست سلطنة المماليك في مصر في عام 1250 على يد طائفة من الجنود العبيد (لهذا سمُّوا مماليك) الذين أخذوا السلطة من سلالة صلاح الدين الأيوبي، وبحلول أوائل عام 1500، كان حكمهم قد بدأ في التدهور ببطء.
كان العالم الإسلامي تتقاسمه ثلاث دولٍ قويّة وكبيرة نسبياً: المماليك في مصر والشام، والعثمانيون في تركيا الحالية والبلقان وآسيا الوسطى، والصفويُّون في إيران الحالية وشرق آسيا.
خشي العثمانيون إلى حدٍ كبير من إمكانية تحالف المماليك والصفويين، فبعد معركة “جالديران” التي هُزم فيها الصفويّون، خلصوا إلى ما يبدو بمثابة اتفاقٍ دفاعيٍّ مع المماليك، مُفاده أنه إذا غزا العثمانيون بلاد فارس مرة أخرى، فإنّ المماليك سينتقلون شمالاً إلى تركيا عبر سوريا، ما دفع العثمانيين إلى هجومٍ استباقي على سلطنة المماليك في عام 1516.
الرسالة التي أشعلت حرب المماليك والعثمانيين
عندما علم السلطان سليم الأوّل بالتحرّكات المملوكية التي اتخذها السلطان قنصوة الغوري، ظهر منه بعض التحرّكات التي أكّدت للمماليك أنّ سليم عزم على المسير إلى الشام ومصر، ولقاء المماليك في معركةٍ حاسمة.
أرسل السلطان قنصوة الغوري رسالةً للسلطان سليم في محاولةٍ منه لتهدئة الأمور، لكن ردّ السلطان سليم جاء حاسماً، وهذا جزءٌ من الرسالة:
كانت همتنا العالية وعزيمتنا القوية مُنصرفة إلى الديار الشرقية (يقصد دولة الصفويين الشيعة في إيران) لإحياء الشريعة الغرّاء، لكن اتضحت لنا بعض تصرفاتك التي لا تليق، والتي قصدت بها تقوية هذا المُلحد الفاسد (سلطان الصفويين) ذي العادات السيئة الذي لا يدينُ بدين، فقصدت إليك ذاتنا، لأنك أسوأ منه، قطعنا المنازل والمراحل قاصدين إليك بجنود لا حصر لها ورايات فتح آياتها النصر، دخلنا ممالك تحت حكمك واستولينا عليها، وأرسل إليك عند مشارف وادي توجان.
فإن كانت لديك ذرّةٌ من الحميّة وقدرٌ من الرجولة ونصيبٌ من الفتوَّة وفي قلبك جرأةٌ وشجاعةٌ خاصة، فلا تنزو في زاوية الخوف والرعب، و استعدّ أنت وجميع أعوانك وأنصارك، ولا تهرب من جرح السيف.
استشاط السلطان قنصوة الغوري غضباً من رد السلطان سليم الأوّل، ومن رسالة التهديد شديدة اللهجة، وبدأ يعدُّ جيوشه ويرتِّب صفوف جنده ويتحرّك إلى منطقة مرج دابق شمال غرب سوريا استعداداً للقاء دمويٍّ حاسم مع سليم الأول.
كان جيش المماليك أقلّ كفاءةً من الجيش العثماني، فقد كانت دولة المماليك في عهد تراجعها وانكفائها على ذاتها، وصراعاتها الداخليّة، ليس هذا وفقط، فقد كان السلطان قنصوة الغوري على خلافٍ مع الخليفة في بغداد، وكذلك فقد دبّ فيه الكِبر، فليس قنصوة هو نفسه القائد الذي هزم الأسطول البرتغالي في معركة “شاول” البحرية حينما حاولوا السيطرة على البحر الأحمر.
وصل السلطان سليم الأول وجيوشه إلى منطقة دابق، والتي تقع شمالي مدينة حلب وهي تابعة لمحافظة حلب السورية، ونودي أنّ الحرب غداً، وهنا خطب السلطان سليم الأول خطبته الشهيرة لجنوده:
سيتضح كل شيء غداً، إن الله معنا، نحن نثق في عساكرنا. إنّ الفصائل التي أحرزت لنا النصر في “جالديران” (المعركة التي هزموا فيها الصفويين) سوف ترفع أعلامها هنا أيضاً، وزرائي وأمرائي إنّ ما أطلبه منكم هو أن تُحاربوا على رأس جنودكم، حثُّوهم على البطولة والشجاعة، أما عني، فإني لن أتأخر عنكم، والله شهيد.
المدفعيّة العثمانية والخيانة تقضيان على السلطان قنصوة الغوري
يُصوّر لنا المؤرخ ابن إياس، في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور” جيش المماليك على النحو التالي، فقد “ظهر الغوري في موكب القتال على جواده، وحوله طائفةٌ من الأشراف يحملون على رؤوسهم أربعين مُصحفاً في أكياسٍ من الحرير الأصفر، منها مصحفٌ بخط الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الجنود”.
ويصف مطرقجي نصوح، وهو من مؤرخي الدولة العثمانية، في مخطوطته “فتحنامه ديار عرب”، أنّ الجيش العثماني اصطحب معه 300 مدفع، وكان عدد الجنود يصل إلى نحو 60 ألف جنديّ.
التقى الجيشان في 24 أغسطس/آب من عام 1516، وأبدى المماليك في هذه المعركة مقاومةً شديدةً وإن كانت إمكانياتهم الحربية مُتواضعة، لكن سرعان ما دبّ الخلاف بين فِرق المماليك المُحاربة، وانحاز بعضها إلى الجيش العثماني بقيادة خاير بك أحد أمراء المماليك الشراكسة.
أشاع خاير بك بين صفوف جيش المماليك أنّ السلطان قنصوة الغوري قد أمر جلبانه، – وهي إحدى فرق الجيش المملوكي وكان يشتريهم السلطان لنفسه -، بعدم القتال حتى يصدر أوامره إليهم، وحتى يُقاتل القرانيص وحدهم – القرانيص هم المماليك القدماء -.
بسبب هذه الشائعة فترت همّة القرانيص في الحرب، ورأوا أنهم ضحايا خطةٍ دنيئة من جانب السلطان الذي أراد أن يجعلهم فريسةً سهلةً لنيران مدافع العثمانيين، ثم أشاع خاير بك إشاعة أخرى أيضاً بين صفوف الجيش تقول إنّ السلطان قنصوة الغوري نفسه قد قُتل، وفقاً للمؤرخ ابن زنبل الرمّال، وهو مؤرخ مصري مسلم عاش في القرن الخامس عشر، وظل خاير بك يقول للجنود “الفرار الفرار، فإن السلطان سليماً أحاط بكم، وقُتل الغوري، والكسرة علينا”.
كان الغوري لا يزال حيّاً، وظلّ يُردد لصفوف الجيش الهارب: “يا أغوات! هذا وقت المروءة، هذا وقت النجدة، يا أغوات الشجاعة، صبر ساعة!” ولكن لم يستمع إليه أحد، وظلوا ينسحبون من حوله، فقد كانت أسطورة السلطان القوي قنصوة قد ذهبت من خيالهم.
ووفقاً لكتاب “الفتح العثماني للشام ومصر” فقد حاول الغوري الهرب، لكنّ السلطان السبعينيّ سقط عن فرسه بعد خطواتٍ جثّة هامدة من هول الهزيمة، ولما عُثر على جثته قُطعت رأسه وقُدمت للسلطان سليم.
كان العامل الرئيسي في النصر العثماني هو التمكن من التقنية العسكرية الجديدة: المدافع، فقد اصطحبوا معهم 300 مدفع كما ذكرنا. وكانت قوات المماليك تعتمد بشكلٍ مُفرط على سلاح الفرسان فقد اعتمدت عليه بشكل كامل للفوز في المعركة، والذي لم يصمد أمام نيران المدافع، وزاد من إحباط الجيش وتفرُّقه الشائعات التي روّجها خاير بك ما أدى لهروب الجيش، لاحت بشائر النصر العثماني في عصر اليوم نفسه بعد نحو ثماني ساعات من بدء القتال.
انهارت السلطنة المملوكية بعد فترة وجيزة من “مرج دابق”، مع استمرار النصر العثماني في معركة “الريدانية” لاحقاً في 22 يناير عام 1517، والتي دارت بين طومان باي، آخر سلاطين المماليك في مصر وابن أخي السلطان قنصوة الغوري والسلطان العثماني سليم الأول أيضاً، وأصبحت مصر تابعة للدولة العثمانية.
كذلك انتقلت السيطرة على الحجاز إلى العثمانيين، حيث نقل شريف مكة ولاءه من المماليك إلى السلاطين العثمانيين.
أمّا خاير بك فقد أصبح أوّل والٍ عثماني على مصر بعد إحكام سليم الأوّل سيطرته عليها بعد القضاء على طومان باي، وقد كان خاير بك قبل ذلك والي حلم المملوكي الذي راسله سليم الأوّل واتّفق معه على خيانة قنصوة الغوري وفقاً للعديد من المصادر، بل إنّ بعض المصادر العربيّة والمصريّة لم تحاول توصيفه بغير هذا الوصف: الخائن.
توفي خاير بك عام 1521، وحكم مصر طيلة أربع سنوات يصفها المؤرخون المصريون بأنّها كانت سنين صعبة وقاسية على المصريين.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website