واقع الأندلس قبل معركة الزلاقة
في 27 رمضان عام 392 هـ/8 أغسطس عام 1002م توفي أحد قادة الأندلس العظام (محمد بن أبي عامر الملقب بالمنصور) حاجب ووزير الخليفة الأموي هشام المؤيد بالله في إحدى غزواته ضد الممالك المسيحية في الشمال الأندلسي، وكتب على ضريحه “آثاره تنبيك عن أخباره، حتى كأنك بالعيان تراه، تالله لا يأتي الزمان بمثله أبداً، ولا يحمي الثغور سواه”، فورث من بعده ولده المظفر منصب الحاجب في الدولة الأموية، وواصل سياسة أبيه في دك معاقل الممالك المسيحية في الشمال الأندلسي، إلى أن وافته المنية بعلة مفاجئة أصابته وهو عائد من إحدى غزواته العسكرية في عام 1008م.
فانتقلت الحجابة إلى أخيه غير الشقيق عبد الرحمن شنجول وهو بالمناسبة حفيد (سانشو الثاني) ملك نافارا إحدى الممالك المسيحية في الشمال الأندلسي، إذ استغل هذا الأمير المغرور ضعف الخليفة الأموي هشام المؤيد بالله المحجور عليه في قصر الزهراء منذ أيام المنصور، فأجبره على إعلانه ولياً لعهده من بعده، هذا التصرف أثار حفيظة أمراء البيت الأموي الذين سرعان ما دبروا مكيدة لاستعادة سيطرتهم على الحكم، فاستطاع محمد المهدي بالله أحد أمراء البيت الأموي من إثارة العامة في قرطبة ضد عبد الرحمن شنجول وقتله عام 1009م، ثم خلع هشام المؤيد بالله، وإعلان نفسه خليفة على الأندلس.
من هنا بدأت فترة عصيبة وطويلة من الاضطرابات والقلاقل الداخلية في الأندلس، استمرت حتى عام 1031م حين أعلن الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية في الأندلس بشكل نهائي، هذا التطور اللافت جعل كل أمير من أمراء الأندلس يهم ببناء دويلة منفصلة وخاصة به وبأسرته، وبذلك تفككت الأندلس إلى عدد من الدويلات والإمارات الصغيرة المتناحرة فيما بينها، والتي عُرفت تاريخياً بـ(عصر ملوك الطوائف)، وكان من أبرزهم: دولة بني حمود أصحاب مالقة والجزيرة الخضراء في الجنوب، دولة بني عباد في إشبيلية في الغرب، وهم أقوى ملوك الطوائف وقتها، دولة بني ذي النون في طليطلة التي تضاهي دولة بني عباد بالقوة، دولة بني هود في سرقسطة في الشمال، دولة بني عامر في بلنسية ومرسية في الشرق.
فاستغل ألفونسو السادس ملك قشتالة أقوى الممالك المسيحية في الشمال الأندلسي وقتها حالة الفوضى والتناحر السائدة بين ملوك الطوائف، فتمكن من الاستيلاء على مدينة طليطلة حاضرة بني ذي النون في عام 478 هـ/1085م وجعلها عاصمة لمملكته بتواطؤ مع صاحب إشبيلية المعتمد بن العباد، وبسقوط مدينة طليطلة أصبح الطريق ممهداً لألفونسو السادس للاستيلاء على باقي ممالك ملوك الطوائف التي بدورها ارتعدت لسقوط طليطلة، ويقال إن المعتمد بن العباد شعر بالندم على فعلته وتحالفه مع قشتالة وسارع فطلب من ألفونسو ألا يتقدم في بلاد الأندلس ما وراء طليطلة مهدداً بنقض الحلف القائم بينهما.
إلا أنَّ ملك مملكة قشتالة ألفونسو السادس المغتر بنفسه لم يكترث لتهديد المعتمد بن العباد، بل أرسل أحد وزرائه إلى إشبيلية لأخذ الجزية، فأساء وزيره الأدب مع المعتمد بن العباد، إذ طلب بكل وقاحة أن يسمح لزوجة ألفونسو السادس الحامل أن تضع مولودها في أكبر مساجد المسلمين (قرطبة)؛ فغضب المعتمد بن العباد من وقاحته فقتله.
غضب ألفونسو السادس لمقتل وزيره، فجرَّد حملة عسكرية وسار على رأسها نحو إشبيلية، فحاصر عاصمة المعتمد بن العباد، وأرسل للمعتمد بن العباد يخبره أنه سيمكث محاصراً لإشبيلية، ولا يوجد ما يضايقه سوى الذباب، ويأمره أن يبعث له بمروحة ليطرد بها الذباب، فلما وصلت هذه الرسالة إلى المعتمد بن العباد كتب على ظهرها: (والله؛ لئن لم ترجع لأروحنَّ لك بمروحة من المرابطين)، وكان لهذا التهديد وقع كبير على ألفونسو السادس، الذي قرر أن يكف عن إزعاج المعتمد بن العباد، فأمر قواته بالانسحاب.
وأمام هجمات القشتاليين الشرسة ضد حواضر ومدن الأندلس لم يجد قادة وأمراء الأندلس بعد اجتماعهم في قرطبة أمامهم من بد إلا الاستنجاد بالمرابطين في الطرف المقابل للأندلس، وعلى رأسهم صاحب إشبيلية المعتمد بن العباد الذي قال: (والله لأن أرعى الإبل في صحراء المغرب خير لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا).
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
إرهاصات معركة الزلاقة
في الطرف المقابل للأندلس كانت قبيلة لمتونة وهي إحدى قبائل صنهاجة الملقبين بـ”الملثمون” الموجودة بجبل لمتونة، قد تمكنوا من بناء دولتهم المرابطة في المغرب الأقصى تحت قيادة يوسف بن تاشفين، الذي تمكن من لمْلمْة أجزاء المغرب المتناثرة ففتح حواضرها كفاس وتلمسان وطنجة وسبتة، واستطاع ابن تاشفين إنشاء دولة تمتد من المحيط الأطلسي غرباً وبلاد شنقيط وحوض نهر السنغال جنوباً، وامتدّت دولته شرقاً لتحاذي إمبراطورية كانم وغانا وتزاحمها على بحيرة تشاد، ثم قام عام 454 هـ/1062م ببناء مدينة مراكش وجعلها عاصمة لدولته، وحينما استقرت الأمور لابن تاشفين في المغرب وصلته استغاثات ملوك الطوائف وحدة تلو الأخرى.
استجاب ابن تاشفين لنداء ملوك الأندلس لرد خطر ألفونسو السادس، فبدأت قوافل جيوش المرابطين بالعبور من المغرب إلى الأندلس عبر الجزيرة الخضراء ثم عبر ابن تاشفين في يوم الخميس منتصف ربيع الأول 479 هـ/30 يونيو 1086م، فدعا الله قائلاً: “اللهم إن كنت تعلم أن جوازي هذا خير وصلاح للمسلمين فسهِّل علي جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعِّبه عليّ حتى لا أجوزه”.
وكان ابن تاشفين أثناء عبوره أمر بعبور الإبل من المغرب إلى الأندلس لأغراض عسكرية، فعبر منها أعداد كبيرة نحو الأندلس حتى ارتفع رغاؤها إلى عنان السماء، ولم يكُن أهل الأندلس قد ألفوا الإبل أو رأوا جِمالاً قط، ولا كانت خيلهم قد رأت صورها ولا سمعت أصواتها، وكانت تذعر الخيول منها وتقلق.
ما إن علم المعتمد بن العباد بوصول قوافل جيوش ابن تاشفين إلى الجزيرة الخضراء حتى سار للقاء ابن تاشفين، ولم يبقَ أحد من ملوك الطوائف في الأندلس إلا تناسى خلافات الأمس وبادر فور وصول ابن تاشفين لإعلان استعداده لتقديم العدة والعتاد لدحر خطر ألفونسو السادس، ولمَّا اكتملت الاستعدادات وتهيأ ابن تاشفين للتحرك من الجزيرة الخضراء نحو مملكة قشتالة، أشار عليه المعتمد بن العباد بالسير لإشبيلية ليستريح من عناء السفر، فأبى وقال: “إنما جئت ناوياً جهاد العدو، فحيثما كان العدو وجهت نحوه”.
في الطرف المقابل جاءت أنباء عبور قوافل جيوش المرابطين إلى مسامع ألفونسو السادس كصاعقة، فسارع يأمر قادته برفع الحصار عن قلاع وحواضر الأندلس كسرقسطة وطرطوشة وبلنسية، وبعث ألفونسو السادس إلى أمراء وقادة قشتالة وجليقية وليون ونافارا يحثهم على حشد قواتهم، وأرسل ألفونسو السادس يستنفر الحشود من أرجاء أوروبا، حتى أخذت النجدات تتوافد إلى مملكته.
معركة الزلاقة
كان معتاداً وقتها- واستناداً لبعض الأعراف المتبعة في العصور الوسطى- أن يحدد الطرفان المتصارعان يوماً للمعركة المرتقبة، وعلى هذا الأساس تم الاتفاق بين ابن تاشفين وألفونسو السادس على أن تكون المعركة في يوم الإثنين، ولكن ألفونسو كان يرى أن الحرب خدعة ويحق له أن ينكث بالعهد المقطوع متى شاء، فقرر أن يبادر بالقتال قبل اليوم بيوم واحد من اليوم المتفق عليه ليفاجئ معسكر الأندلسيين والمرابطين.
وحينما وقعت المعركة تمكن ألفونسو السادس بهذه الحيلة من مفاجأة المعتمد بن عباد قائد معسكر الأندلسيين على حين غرة، فبث الاضطراب والفزع في معسكر الأندلسيين، واصطدم جيش قشتالة كذلك بقوة صغيرة متقدمة من المرابطين تعدادها 10 آلاف فارس بقيادة القائد المرابطي داوود بن عائشة فدفعهم للتراجع للوراء، فمُنِي المرابطون والأندلسيون في بداية المواجهة خسائر بشرية كبيرة، ونظراً لكثافة الهجوم القشتالي فرّ عدد من الأمراء الأندلسيين بعد أن أيقنوا بأن الهزيمة واقعة لا محالة، إلا أن المعتمد بن عباد ومعه فرسان إشبيلية وفرسان المرابطين بقيادة داوود بن عائشة استطاعوا الصمود في أرض المعركة.
في هذه اللحظات الحاسمة من معركة الزلاقة أحس ألفونسو السادس بنشوة الانتصار، عندما رأى فرار عدد من الأمراء الأندلسيين وتراجع مقاومة المعتمد بن عباد أمام هجمات جيشه المتواصلة، إلا أن المفاجأة الكبرى التي لم يحسب لها ألفونسو السادس حساباً كانت تكمن في أن جيش المرابطين الرئيسي بقيادة يوسف بن تاشفين كان يرابط بقرب من أرض المعركة خلف تلال عالية تحجبه عن أنظار ألفونسو السادس وجنوده.
في هذا الوقت الحساس من عمر معركة الزلاقة أمر ابن تاشفين بتحرك كتيبة القائد سير بن أبي بكر نحو المعركة، فاستطاع سير بن أبي بكر بكتيبته أن يخفف ضغط القشتاليين ويردهم عن معسكر المعتمد بن عباد وداوود بن عائشة ويُحدث حالة من التوازن في أرض المعركة، أمام هذا التطور اللافت أمر ألفونسو السادس قواته بمواصلة الضغط على معسكر الأندلسيين والمرابطين حتى تمكن القشتاليون من اقتحام معسكر الأندلسيين والمرابطين.
هنا قرر ابن تاشفين الدخول لأرض معركة الزلاقة، فتقدم بقواته وهاجم معسكر القشتاليين على حين غرة، ففزعوا وهلعت خيول القشتاليين من إبل ابن تاشفين التي كان قد جلبها معه من المغرب لهذا الغرض، فدبَّت الفوضى في معسكر القشتاليين ففروا منهزمين نحو ألفونسو السادس، الذي ارتد بدوره لينقذ معسكره وجنده من الهلاك.
فحمل الأندلسيون والمرابطون بقيادة ابن تاشفين على قوات ألفونسو السادس وطوَّقوها فزاد الضغط ووقعت الهزيمة بألفونسو السادس الذي تلقَّى ضربة من أحد فرسان المرابطين بفخذه جعلته يعرج منها طوال حياته، وما إن أوشكت الشمس على المغيب حتى انسل ألفونسو السادس مع القلة القليلة من قواته الناجية وفر من أرض المعركة، وشكّل انتصار المسلمين في معركة الزلاقة بقيادة يوسف بن تاشفين علامة ماحقة ساحقة وضربة قوية لأطماع الممالك المسيحية في شمال الأندلس، وأخَّرَ ذلك سقوطَ الأندلس ثلاثة قرون.