“وُلِدَ الهُدى فَالكائِناتُ ضِياءُ.. وَفَمُ الزَمانِ تَبَسُّمٌ وَثَناءُ”، لم تكن كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي في حب المصطفى عليه السلام سوى تجسيد لحالة العشق الأبدي لصاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء الممدود، ومن ثم كان يوم ميلاده صلى الله عليه وسلم حدثًا استثنائيًا في تاريخ البشرية، له مكانته الغالية في نفوس المسلمين في شتى أركان المعمورة.
ومع قدوم مولده – عليه السلام – تتبارى الأمم والشعوب في إحياء هذه الذكرى العطرة، كل حسب طريقته، فتتباين الطقوس هنا وهناك، وتتنوع مظاهر الإحياء ما بين دولة وأخرى ومدينة وغيرها، ورغم هذا الثراء في طقوس الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وتعدد مظاهره غير أن هناك رابط واحد يجمعها وسحابة كبيرة تظلها ألا وهي حب النبي صلى الله عليه وسلم.
تأريخ بدء الاحتفال
بعض الدراسات تذهب إلى أن بدء الاحتفال بهذه المناسبة لم تكن في عهد الفاطميين، وهو ما أشار إليه الكاتب محمد خالد ثابت، في كتابه المعنون بـ”تاريخ الاحتفال بمولد النبي ومظاهره في العالم”، ناقلاً عن بعض مؤرخى الإسلام قولهم بأن الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى ملك إربل الذي توفي سنة 620 هجريًا أول من احتفل بالمولد في زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي، وكيف أثنى عليه العلماء ثناءً عاطرًا بسبب ما أبدى من اهتمام بالغ بهذا الاحتفال وما أنفق فيه من أموال طائلة وما بذل فيه من أوجه البر والصدقات وإطعام الطعام وغير ذلك مما أطنب المؤرخون في وصفه.
رغم هذا التباين في تأريخ من أول من احتفل بالمولد النبوي الشريف، فإن مظاهر الاحتفال به باتت سمة عالمية تجمع مشارق الأرض ومغاربها، شمالها وجنوبها، كل يحتفل بطريقته ويحييها بطقوسه، يجمعهم هدف واحد ومقصود ومشترك، رافعين شعار حب النبي صلى الله عليه وسلم.
مصر.. الحلوى والخيم
يعود تاريخ الاحتفال بمولد النبي عند المصريين إلى عهد المعز لدين الله الفاطمي الذي وضع الأساس الأول للاحتفال بهذا اليوم، وكان يهيئ له أركان الدولة بأكملها، وبحسب المؤرخين: “فإن كبار رجال الدولة المصرية حينها وعلى رأسها الخليفة والوزراء والعلماء ومعهم عامة الشعب كانوا يستقبلون هذه المناسبة الكريمة التي تبدأ من غرة ربيع الأول حتى الثاني عشر منه وكان من السمات الواضحة في هذا العصر الاحتفال بهذه المناسبة والإفراط في صنع الحلوى بأشكالها المختلفة كالطيور والقطط والخيول والعرائس (عروسة المولد).
وأسس الفاطميون نظامًا يهدف إلى تخزين جميع المواد التموينية من سمن وسكر وزيت ودقيق، كي تصنع من هذه المواد الحلوى، وكانت الحلوى توزع بأمر الخليفة على جميع طبقات الشعب في جميع المناسبات الدينية وبصفة خاصة المولد النبوي، ومن هنا جاءت فكرة عروسة المولد والحصان وبعض أنواع الحلوى المشهورة بها مصر في هذه الذكرى.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
أما فيما يتعلق بخيمة المولد التي تعد أحد أبرز طقوس الاحتفال بهذا اليوم عند المصريين، فتعود إلى السلطان “قايتباي” (1416-1496)، فحينما تحل الليلة الكبيرة من الاحتفال بالمولد يقيم السلطان بالحوش السلطاني خيمة في القلعة ذات أوصاف خاصة تسمى خيمة المولد، وقيل في وصف هذه الخيمة أنها زرقاء اللون على شكل قاعدة في وسطها قبة مقامة على أربعة أعمدة.
يتميز المصريون بجانب الحلوى والخيم والزينة إقامة مجالس الذكر والإنشاد الديني في مئات المساجد المصرية خاصة تلك التي تنتمي إلى الطرق الصوفية، حيث تصدح المآذن بأعذب القصائد والأشعار في حب النبي وآل بيته رضوان الله عليهم أجمعين، وتتحول شوارع مصر وميادينها إلى ما يشبه الفرح الكبير الذي يجمع المصريين جميعًا.
تركيا.. اكتظاظ المساجد بالمصلين
تتخذ مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي في تركيا صورًا متعددة، منها أن يحتشد الآلاف في عدد من الميادين على رأسها ميدان زيتون بورنو بمدينة إسطنبول في احتفاليات تتخللها الأهازيج والمدائح النبوية، إضافة إلى الإكثار من قراءة القرآن الكريم وتبادل التهاني والتبريكات بين الأصدقاء بشتى الطرق.
وعقب صلاة العشاء طيلة أسبوع الاحتفال بهذه المناسبة تزدحم مساجد تركيا بالمصلين الذين يحضرون للاستماع إلى سيرة النبي في ذكرى مولده، كما تنشط الجمعيات الخيرية والدعوية عبر توزيع الكتب الدينية والمطبوعات التي تتناول سيرة المصطفى، بينما تزدحم الساحات العامة التي تقام فيها الاحتفالات بباعة الطعام والحلوى الذين يقدمونها للمحتفلين بأسعارٍ مخفضة.
وبخلاف ما جرت عليه العادة في أغلب الدول الإسلامية التي تحتفل بهذه المناسبة في الـ12 من ربيع الأول من السنة الهجرية، فقد كانت تحتفل تركيا بالمولد وفق التقويم الميلادي، وذلك قبل إصدار مرسوم بالأمس الأربعاء 29 من نوفمبر/تشرين الثاني باعتماد التقويم الهجري بدلاً من التقويم الميلادي لتحديد موعد أسبوع مولد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث سيحدد أسبوع المولد ابتداءً من تاريخ 12 من شهر ربيع الأول من كل عام.
المغرب العربي.. طقوس متباينة
تتميز دول المغرب العربي بانتشار العديد من الطرق الصوفية بها، هذا بخلاف أنهم كانوا الموطن الأول للفاطميين قبل قدومهم إلى مصر، ومن ثم فإن للمولد النبي لديهم مكانة كبيرة وطقوس ترتبط بالتراث أكثر منها بالحداثة.
ففي تونس تعد مدينة القيروان مركز الاحتفالات الرئيسي بذكرى المولد النبوي، وذلك لما تتمتع به هذه المدينة من قيمة تراثية وثقافية كونها مصدر الثقافة الإسلامية في تونس، وقد شهدت أول احتفال للمولد النبوي في تاريخ تونس عام 1329هـجريًا.
تتنوع مظاهر الاحتفال بالمولد في تونس ما بين حلقات الذكر والإنشاد الديني والابتهالات، بالإضافة إلى وجبة العصيدة التي يعدها التونسيون خصيصًا لهذه الذكرى العطرة، التي يدخل الصنوبر كمكون أساسي لها، كما تنبعث روائح البخور من معظم البيوت التونسية كأحد مظاهر الاحتفال بهذا اليوم.
وفي الجزائر، فإن الاحتفال بالمولد يمثل أحد ركائز هوية الشعب الجزائري، حيث تنتشر مجالس الذكر والابتهالات والأناشيد الدينية التي تحييها الطرق الصوفية هناك، وتعد مدينة مستغانم مركز الاحتفالات الرئيسي بذكرى المولد النبوي في الجزائر، نظرًا لكونها تشهد أكبر تجمع للطرق الصوفية.
وعن طقوس الأسر الجزائرية في هذا اليوم، فلا يكاد يخلو بيت جزائري من بعض الأكلات الشهيرة والمعدة على وجه الخصوص لهذه الذكرى منها الرشتة والشخشوخة والتريدة، وتتجمع الأسر ليلا لاحتساء الشاي وأكل الحلوى كأحد الطقوس المحورية للاحتفال.
أما في المغرب فيطلقون على مناسبة المولد النبوي “الميلودية”، ولهم في الاحتفال بها قصائد وأشعار، فمع حلول شهر ربيع الأول تنطلق الاحتفالات والطقوس التي اعتاد الشعب المغربي على إحيائها، على رأسها عقد دروس المساجد بعد صلاة المغرب في السيرة النبوية وسير الصحابة وفضائل الرسول على المسلمين، كذلك حلقات الإنشاد الديني والمدح، تحت رعاية الطرق الصوفية هناك.
وأسريًا.. يحرص المغاربة على شراء الملابس الجديدة للأطفال بهذه المناسبة إضافة إلى إعداد بعض الأطعمة لهذا اليوم على رأسها أكلتهم الشهيرة الكسكسي مع الفراخ على الطريقة المغربية، فضلاً عن صنع بعض أنواع الحلوى.
السودان.. ميادين المولد
يتميز الشارع السوداني بطقوس مختلفة في إحياء ذكرى المولد النبوي، فتنصب الخيم الكبيرة في أماكن الاحتفال، بعضها يكون مخصصًا لحلقات الذكر والمديح، بينما البعض الآخر يكون أشبه بالسوق الذي تباع فيه أنواع الحلوى والأطعمة المصنعة خصيصًا لهذه المناسبة.
وفي كل ولاية من ولايات السودان تحدد مع حلول شهر ربيع الأول أماكن مخصصة لهذه الاحتفالات يطلق عليها “ميادين المولد” وتحظى العاصمة الخرطوم بعدد كبير من الميادين التي تقام فيها هذه الاحتفالية خاصة مدينة أم درمان التي تشرع الطرق الصوفية في تسيير زفة المولد النبوي الشريف بها بدءًا من ود نوباوي لتشمل شوارع وأحياء أم درمان إلى أن تصل إلى ساحة المولد وحوش الخليفة.
وللسودانيون داخل منازلهم طقوس أخرى في هذه الاحتفالات، تكسوها مظاهر الكرم وحسن الضيافة، حيث تقدم العائلات السودانية للمارة العصائر والتمر وتفتح أبوابها لاستضافة الجميع تعبيرًا عن الفرح بذكرى مولد المصطفى.
فلسطين.. العدّة
يستقبل الفلسطينيون ذكرى ميلاد النبي بما يسمى “العدّة” وذلك بقرع الطبول وحمل الرايات وترديد الابتهالات الدينية التي تعود لزمن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي (532 – 589 هجريًا/ 1138 – 1193ميلاديًا) فعندما فتح بيت المقدس، جاء بهذه الرايات والطبول وأرهب بها الصليبيين الذين كانوا يحتلون القدس.
وتتميز مدينة نابلس بإحيائها مثل هذه المناسبات بطقوس صوفية منذ عشرات السنين، وهو ما يميزها عن باقي محافظات الضفة الغربية في هذه الأيام من السنة، حيث تمتلئ شوارع المدينة بالزينة وعبارات التهئنة، فيما يتسابق أصحاب المحال التجارية إلى توزيع الحلوى على أبواب محالهم، مذكرين المارة بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
الخليج.. إحياء على استحياء
تشهد بعض دول الخليج صورًا مختلفة من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، غير أن معظمها يأتي في صورة إقامة دروس دينية وخطب ومحاضرات وبعض حلقات الإنشاد، تتمحور أغلبها حول سيرة النبي عليه السلام ومعجزاته والدروس المستفادة من حياته صلى الله عليه وسلم.
وتنتشر هذه الطقوس في عدد من دول الخليج كقطر والإمارات وسلطنة عمان والكويت، بينما في المملكة العربية السعودية فالأمر مرفوض تمامًا باعتباره وفق آراء علمائهم من معتنقي الدين الوهابي من البدع التي لا يجوز الاحتفال بها بأي طريقة كانت
الجاليات الإسلامية في الخارج
لم يقتصر الاحتفال بالمولد النبوي على الدول الإسلامية فحسب، فالعديد من الجاليات الإسلامية في دول أوروبا وأمريكا وآسيا يحيون هذه الذكرى بطقوسهم الخاصة أيضًا، حيث دأب المسلمون في هذه الدول مع قدوم شهر ربيع الأول على إقامة حلقات الذكر والدروس الدينية داخل المجمعات الإسلامية والمساجد المقامة هناك.
ويحرص المسلمون في هذه الدول على استغلال أي مناسبة دينية لتنشيط الوازع الديني لديهم خاصة في ظل ما يعاني بعضهم من حرمان معايشة الطقوس الدينية المعتادة في الدول الإسلامية، ومن ثم يتلهفون ذكرى كهذه لعقد المحاضرات والندوات والتهادي فيما بينهم بالكتيبات والمطبوعات الإسلامية وغيرها.