جلسات مدح وأذكار وتبادل للزيارات مع الأهل والأصحاب وحلويات تجهز للمناسبة، هكذا كان الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في تونس قبل جائحة كورونا، غير أن الحال يبدو مختلفا قليلا هذا العام.
فالاحتفالات مقيدة والمساجد لن تضج بالمادحين والذاكرين، والزيارات تكاد تنعدم بسبب الحظر الصحي المتواصل، لكن الجميع يصر على إحياء الذكرى الإسلامية بطريقة ما.
وتقول الحاجة شريفة (56 عاما): “لا احتفال بالمولد النبوي الشريف دون تحضير عصيدة الزقوقو، فهي عادة متوارثة دأبت عليها الأسر التونسية، ويعتبر المولد من دونها فألا سيئا”، فيما ترى فاتن (32 عاما): “هذا العام أقضي المولد النبوي بعيدا عن العائلة لكن الأكيد ستصلني العصيدة من الجيران والأصدقاء وحتى زملاء العمل”.
أما حياة صاحبة الـ44 عاما فتضيف: “باتت عصيدة الزقوقو متاحة لمن استطاع إليها سبيلا، حيث شهد سعر حبوب الصنوبر ارتفاعا كبيرا حتى بلغ سعر الكيلوغرام ما يعادل 20 دولارا، لكن حفاظا على العادة وإرضاء للصغار قبل الكبار جهزت طبق عصيدة الزقوقو”.
وتعد عصيدة “الزقوقو” الأكلة الشعبية الأشهر خلال المولد النبوي في تونس، وتصنع من حبات الصنوبر الحلبي الجبلية التي تحول إلى مسحوق يطهى جيدا، ثم تقدم محلاة بالسكر ومزينة بأصناف مختلفة من الفواكه الجافة.
ويسبق إعداد طبق عصيدة “الزقوقو” الشهي الذي تنفرد به تونس، عملية شاقة في الحصول على حباته السوداء، حيث يتسلق الرجال أشجار الصنوبر الجبلي ويجمعون مخاريطه التي توضع فيما بعد في أفران عالية الحرارة لساعات طويلة حتى تنضج، وعندما تفتح بمفعول الحرارة تخرج حبات الصنوبر الحلبي، وقتها فقط تكون مادة قابل للبيع في الأسواق.
يشار إلى أن الصنوبر الحلبي ينبت أساسا في غابات الشمال الغربي لتونس، ويمتد على مساحة أكثر من 300 ألف هكتار في غابات سليانة والكاف وجندوبة، ويعتبر تجميعه مورد رزق موسميا لمئات العائلات التي تتنقل للغابات كل خريف وتنصب الخيام، وتعمل على جمع مخاريط الصنوبر ثم تسخينها في أفران تبنى للغرض، قبل تجيمع المحصول وبيعه في الأسواق.
وتبدأ الرحلة الشاقة بتسلق أشجار الصنوبر، وتنتهي بانتظار نضجه في الأفران لساعات طويلة، وقد كانت الغابات في السابق متاحة مجانا لساكني المناطق الجبلية، غير أن وزارة الزراعة حرصت منذ سنوات على تنظيم استغلال الغابات، فأصبحت هذه العائلات تضطر لتأجير أجزاء منها من أجل هذا العمل الموسمي الذي يدر عليهم أموالا قليلة رغم صعوبة المهمة ورغم غلاء الصنوبر الحلبي في الأسواق، بسبب الوسطاء الذين يشترونه من سكان الغابات ويخزنونه ثم يبيعونه قبل موعد المولد النبوي بأضعاف السعر.
وترتبط عصيدة “الزقوقو” أيضا بقصة تاريخية، حيث تروي الحكاية الشعبية أن التونسيون استعملو الصنوبر الحلبي أول مرة كمادة غذائية في عام 1846، أو كما يسميه الآباء والأجداد “عام المجاعة”، حيث ارتبط استهلاكه بثورة علي بن غذاهم التي قامت ضد البايات بسبب انتشار الفقر والمجاعة، والتجأ حينها السكان إلى دقيق الصنوبر بدلا من القمح والشعير الذي لم يكن متاحا حينها.
وفي القرن الماضي كان طبق “الزقوقو” أكلة محدودة الانتشار لا يعرفها إلا سكان المناطق الجبلية، حيث يقدم مهروسا مع زيت الزيتون للنفساء أو مقليا مع حبات القمح.
وتوضح المكلفة بالبحوث في المعهد الوطني للتراث والدكتورة في علم اجتماع التغذية سنية مليح الحمزاوي في تصريح لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن التاريخ لم يكتب بشكل دقيق تاريخ اعتماد هذه الأكلة، لكن بحسب الموروث الشفوي، فأول ظهور لعصيدة “الزقوقو” كان عام 1939، وهي على الأرجح أكلة تونسية صرفة.
وتضيف: ” هناك عادات غذائية أخرى مترسخة في احتفالاتنا بالمولد النبوي مثل طهي العصيدة البيضاء أو عصيدة العادة والسنة كما يسميها البعض، وهي عصيدة من الدقيق تحلى بالعسل أو السكر، فكل ما هو حلو يعد رمزا للاحتفال في موروثنا”.
وتحدثنا الباحثة: “جرت العادة أن تطبخ النسوة العصيدة صباح المولد وأن يزغردن عندما تجهز، وبذلك تعلن سيدة المنزل انطلاق الاحتفال بالمولد، على أن يؤكل طبق العصيدة في منتصف النهار بشرط اجتماع كل أفراد العائلة، بما يعنيه ذلك من لم للشمل وتجديد للعلاقات الاجتماعية”.
وتضيف سنية الحمزاوي: “ومن العادات الموروثة أيضا أن يتذوق كل شخص 7 عصائد، لذلك تتبادل العائلات الأطباق المملوءة فيما بينها”.
واليوم، الطبق المميز لذكرى المولد النبوي في جل محافظات تونس هو عصيدة دقيق الزقوقو، الذي تستهلك منه البلاد سنويا 300 طن يتم تحويلها إلى مرطبات احتفالية فاخرة.
وتقول خبيرة التغذية مريم توكابري في تصريح لموقع “سكاي نيوز عربية”، إن الفوائد الغذائية للصنوبر الجبلي عديدة، فهو غني بالألياف التي تسهل عملية الهضم، ويحتوي على فيتامينات “ب” المفيدة للجهاز العصبي، كما يحتوي على مادة “أوميغا 3” المقوية للقلب والشرايين، فضلا عن الزنك الذي يعزز المناعة، والبروتينات النباتية التي تساهم في تجدد خلايا الجسم.
وتضيف الخبيرة: “طريقة الطهي تقلل فائدة الفيتامينات بفعل تأثير الحرارة، لكن تبقى قيمته الغذائية ثابتة خاصة لو تم التقليل من السكر”.
ويحافظ التونسيون على الاحتفال رغم ظروف الحجر الصحي، وقد جرت العادة أن يتحول مئات الآلاف إلى محافظة القيروان للاحتفال بالمولد النبوي الشريف في ساحة جامع عقبة بن نافع الأثري حيث تقام ليال من المدائح والأذكار أو التجمع في جامع الزيتونة المعمور في قلب المدينة العتيقة.
واعتاد المصلون على تبادل التهاني وأطباق العصيدة صبيحة المولد، غير أن وباء كورونا هذا العام حرم الجميع هذه العادات، لكنهم يأملون أن يعود تراث المولد إلى البلاد بعد زوال شبح الوباء وعودة الحياة إلى سالف عهدها.
المصدر: سكاي نيوز
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website