لاحظ كثيرون استخدام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من قبل مصطلح “الجيش المحمدي”، في وصف الأفراد المشاركين في بعض العمليات العسكرية التركية.
وبكن استخدام هذا المصطلح لم يقتصر على أردوغان وحده، بل يعد “الجيش المحمدي” تسميةً متداولةً في الإعلام التركي بشتّى أطيافه. فما قصة هذه التسمية؟ ولماذا تتم نسبة الجنود الأتراك إلى “محمد”؟ وأي “محمد”؟
يقول البعض إنّها نسبة للنبي محمّد، ما دفع الكثير من الناشطين العرب وغيرهم لانتقاد أردوغان، البعض الآخر يشير إلى أنّ التسمية جاءت بالانتساب للسلطان محمد الفاتح، الذي استطاع فتح القسطنطينية بخطة عسكرية بارعة عام 1453، ومن حينها أصبحت القسطنطينية “إسطنبول”، عاصمة الدولة الإسلامية الأقوى في وقتها.
مع البحث أكثر، تبيّن أنّ للتسمية جذوراً غير هذه، وتلك من التخمينات، وأقرب القصص للتصديق وللتوثيق أيضاً هي تلك التي ارتبطت بالقرن التاسع عشر، في عهد السلطان محمود الثاني، بينما ارتبطت التسمية الأخرى بإحدى المعارك على أرض دولةٍ عربيّة، أثناء الحرب العالمية الأولى.
شهيد الحرب العالمية الأولى على أرضٍ عربيّة الذي يتسمّى الجيش التركي باسمه
وفقاً لصحيفة Haberler التركية، فقد كانت تسمية “المحمديين” مرتبطة بالحرب العالمية الثانية، حيث ارتبط مصير الأتراك والعرب معاً في مواجهة العديد من القوات الاستعمارية الغربية، بدايةً من بريطانيا وفرنسا وصولاً إلى إيطاليا واليونان.
وفي إحدى المعارك المفصليّة في مدينة طبرق في ليبيا، عام 1911، بينما كان الأتراك والليبيون العرب في نفس الجبهة، في مواجهة المستعمر الإيطالي، استشهد جندي عثماني صغير اسمه محمّد، فالتفت الأونباشي “العريّف” إلى الضابط وأخبره أنّ محمّد استشهد “Kumandan Mehmet şehit düştü”، فقال الضابط “واه يا محيمد واه” (بالتركية: Vah Mehmetçik, vah)، ولفظ Mehmet تعني مُحمّد، بينما çik تأتي لتصغير الاسم، وهو لفظ يستخدم للتودُّد والحبّ، فتعني أيضاً أنّ القائد قال “آهٍ يا مُحمَّدِي آه”.
ويبدو من سياق الحادثة أنّ الضابط حزن على وفاة محمّد الصغير، وأصبح اسم “مهمتشيك أو محمدجيك” اسماً مشتهراً في الجيش التركي، وكذلك بين العرب في ذلك الوقت، عندما ظنّوا أنّ اسم الجندي الشهيد “مهمتشيك” وليس “محمد”. وكلّما استشهد جندي عثماني كانوا يقولون “استشهد محمّدي”، ومن حينها أطلق الأتراك على المجنّد في الجيش التركي اسم “مهمتشيك”، ويقال إنّ هذه التسمية اعتُمدت في السجلات الحربية للدولة العثمانية، وكذلك في الدولة التركية لاحقاً.
انتصر العرب والأتراك في تلك المعركة على القوات الإيطالية ببطولةٍ فذّة، رغم تفاوت الإمكانيات بينهم وبين الطليان، وهذه المعركة هي التي شهدت صعود نجم القائد التركي المستقبلي مصطفى كمال أتاتورك، الذي غيّر تاريخ تركيا بخبث شديد، وكذلك تاريخ المشرق الإسلامي بإنهاء الخلافة والانكفاء على الداخل بالاكتفاء بتركيا.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
“العساكر المنصورة المحمّدية”.. خطّة السلطان لتطوير الجيش العثماني
في بدايات نشوء الدولة العثمانية، لم يكن للدولة جيشٌ نظاميّ متماسك، وإنّما إقطاعات لبعض القبائل والأمراء الصغار، شريطة جاهزيتهم لدخول أي معركة تدخلها الدولة، فكّر أورخان بن عثمان بن أرطغرل في تنظيم جيشٍ نظاميّ، لكنّ الفكرة لم تطبّق بشكلها الكامل إلا في عهد ابنه مراد الأوّل، الذي أسّس الجيش الجديد المسمّى “انكشاريّة”.
كان أطفال الدول المنهزمة الذي يأخذون ضمن سبايا الحرب يتحوّلون تحتّ التدريب والتعليم الديني لعسكرٍ ولاؤه التام للسلطان، فليس للانكشاريين عائلة سوى الجيش الذي يضمّهم من مناطق مختلفة في أوروبا والأناضول، ولا يعرفون سوى حماية السلطان و “الدولة العليّة”، وللتأكيد على مبادئهم ارتبطوا أيضاً بالطريقة الصوفية البكتاشية التي أنشأتهم على الدين الإسلامي.
كان الجيش الانكشاري يعتبر أقوى قوّى عسكريّة في العالم، وقد أقلق أوروبا أكثر من قرنين من الزّمان، لكنّ المصالح الاقتصادية بدأت تدخل رويداً رويداً للجيش الأقوى في العالم، ومع تضارب المصالح الاقتصادية تضاربت أيضاً المصالح السياسية، فأصبح الانكشاريون لهم اليد العليا في السلطنة، وكان بأيديهم أحياناً تنصيب سلطان أو خلعه أو حتّى قتله تماماً وتولية ابنه الصغير!
أقلق هذا الوضع السلاطين العثمانيين المتلاحقين، وحاول أكثر من واحدٍ منهم إصلاح هذا الجيش الذي تمرّد، لكنّهم فشلوا تماماً، حتّى جاء السلطان محمود الثاني إلى كرسيّ السلطنة عام 1808، وبدأ رحلة القضاء على الانكشارية بخطّةٍ أخرى: أن يخلق لهم البديل.
وبدأ بالفعل بإنشاء مجموعاتٍ عسكريةٍ أخرى، فأصبحت هناك فرق عسكرية أخرى موالية للسلطان، من ضمنها القوّات البحرية على سبيل المثال. ثار الانكشاريون على أي محاولات إصلاح أو تهميش لهم، فبينما كانت جيوش أوروبا تتطوّر عسكرياً كان الانكشاريون يمتنعون عن حمل البنادق، وقد أشعلوا حريقاً ضخماً في إسطنبول لإجبار السلطان على النزول على مطالبهم.
لكن ما علاقة كل هذا بالجيش المحمّدي؟
لنكمل إذن، بعدما وضعناكم في السياق التاريخيّ، فقد استطاع السلطان محمود الثاني بسعة صدر وصبرٍ طويل أن يُنهي الانكشارية بعد 18 عاماً من تولية السلطنة، في حادثةٍ شهيرة تسمّى الواقعة الخيرية، التي وقعت يوم 9 من ذي القعدة 1240 هـ – 25 يونيو/حزيران 1826، عندما اجتمع الانكشاريون في أكبر ميادين إسطنبول ليتمردوا على السلطان.
هنا أمر محمود الثاني وحدات المدفعية الموالية له بالتمركز في الأماكن الحيوية وحول ميادين العاصمة، ولمّا لم يمتثل الانكشاريون سحقتهم قوات المدفعية، وحينما لاذوا بثكناتهم دكّوها بالمدافع أيضاً فتحوّلت لمقابر جماعية لهم، بعد هذه الواقعة أنهى السلطان بمرسوم رسمي الفرقة الانكشارية، وهنا بزغ الجيش الجديد: “العساكر المنصورة المحمّديّة”.
كانت العساكر المنصورة المحمدية أكثر تنظيماً وتطوراً من الانكشاريين، ليس هذا فحسب، بل كان ولاؤها للدولة فعلاً، وليس للمصالح الاقتصادية كالانكشاريين في آخر عهدهم، غير أنّ هذا الاسم تغيّر مع تولي السلطان عبدالمجيد الأول السلطنة عام 1839م.
ويبدو أنّ أقرب الروايات إلى الواقع هي القصّة الأولى، التي ارتبطت بجندي عثماني استُشهد على أرضٍ عربيّة، فأصبح اسم المنتمين للجيش العثماني والتركي من بعدها “مهمتشي” أي: محمّدي.