إنْ بحثنا عن أكبر المتاحف العُثمانية خارج تركيا، فلن نجدها في إحدى الدول الإسلامية، بل في ألمانيا، وتحديداً في مدينة درسدن “عاصمة الشرق”، التي يكثر فيها اليوم أنصار الحركات المُعادية للمُسلمين مثل “بيغيدا”، بعد أن كانت من أكثر المُدن احتفاء بالحضارة الإسلاميّة في الماضي، فكانت وما زالت تفتخر بالكثير من البضائع التي اشتراها ملوكها من بلاد المسلمين ومن الممالك العثمانية تحديداً!
ليس المتحف “العثماني” وحده فيها، ففيها مبنى “ينيدتسي”، الذي يراه كل من يدخل المدينة قادماً من العاصمة برلين، وما يميِّزه أنه مبني على الطراز الإسلامي، وتحديداً على الطراز المملوكي، في مسجد وضريح “خاير بيك” في القاهرة، وفيها “الغرفة الدمشقيّة” وهي تحفّة فنيّة نادرة ومميزة عمرها 200 عام، وتجسّد فنّ العمارة الداخليّة أيام الخلافة العثمانية، كما يحتوي قصر “البريشتسبيرغ” على “حمام تركي” مُصمم على الطراز الأندلسي، ويبدو كأنه قطعة من قصر الحمراء، ويعتبر من أجمل المعالم السياحيّة في درسدن.
حكاية المدينة مع الشرق لا يُمكن فهمها دُون العودة إلى أيام حصار فيينا، وانبهار الجيوش الأوروبية “المسيحية” بالقوّات العثمانيّة في تلك الأيام، وقدراتهم في القِتال كما ملابسهم، وحتى الموسيقى التي كان الجيش الانكشاري يعزفها، والتي أصبحت لاحقاً مصدر إلهام للموسيقار النمساوي الشهير “موتسارت”، لكثرة ما سمعه من جدّه عنها، فألّف معزوفته الشهيرة “Alla Turca” في القرن الثامن عشر، وهو القرن الذي شهد أكبر انبهار للغرب بالحضارة العثمانية، وهو ما يُعرف في الأدبيّات الأوروبيّة بالهوس التركي (Turkomanie)، أو حُب الأتراك (Türkophilie) والموضة التركية (Türkenmode).
في مدينة درسدن بلغت الموضة العُثمانية أوجّها في عهد الأمير السكسوني “أوغست القوي”، حيث يُحكى أن الأمير حين أراد تزويج ابنه عام 1719 جعل مجموعة من الشباب ممن ترتدي الزي الانكشاري، ويطلقون الشارب التركي تؤدي عرضاً موسيقياً، وكذلك السفينة التي أحضرت العروس كانت مستلهمة من الشكل العُماني، ولكن المثير أكثر أن الخيمة التي استقبل “أوغست القوي” العروسين فيها كانت عثمانية، وهذه الخيمة توجد لها شبيهة اليوم في المتحف العثماني، إن لم تكن هي نفسها!
للخيام العثمانية في المتحف تقديرٌ خاص جداً، فقد تم ترميم أقدم خيام المتحف على يد 34 خيّاطة ألمانية ماهرة، وقد استمرَّ الترميم منذ عام 1994 إلى عام 2009، وأما التكاليف فقد بلغت حوالي 3.6 مليون يورو، نعم 3.6 مليون يورو، فالخيمة ضخمة جداً، وحجمها أشبه بحجم منزل صغير، فارتفاعها 6 أمتار، وعرضها 8 أمتار، أما الطول فيصل إلى 20 متراً، وقد تم تطريزها وزخرفتها، بحيث تجد من يدخلها يشعر وكأنها في الجنّة، أو كأنها في عالم “ألف ليلة وليلة” كما يُحب الألمان أن يصفوها عند دخولهم إليها.
في المتحف هناك خيمتان، بالإضافة إلى حوالي 1000 قطعة فنيّة موزعة في قاعات شبه مُظلمة، لا يُرى فيها إلا التُّحف المُضاءة بشكل يجعلها تبدو وكأنها صُنعت منذ وقت قريب، مع أن بعضها صُنع قبل 400 عام، وأكثرها قبل أكثرها صُنعت بأيدي عثماني، وبعضها يعود في تاريخها إلى ما قبل 400 عام، إلا أن أكثر ما يميّزها غير تاريخ تصنيعها هي أنها لم تكن من غنائم الحروب بين العثمانيين والجيوش الأوروبيّة، ولكنها هدايا كان يتهادى بها ملوك أوروبا فيما بينهم، أو حتى كهدايا من المُسلمين أنفسهم، وبلا شك فإن الكثير منها عبارة عن مشتريات من إسطنبول.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
الكثير من هذه المشتريات تعود إلى البعثة السكسونية التي انطلقت عام 1712 برئاسة يوهان جورج شبيغل إلى إسطنبول، بهدف شراء بعض التُّحف والسلع التي كانت تتميز بها إسطنبول في ذلك الوقت، كالأسلحة الفاخرة والخيام العثمانية كما الخيول العربية والجمال، بالإضافة إلى بعض السجّاد والأثاث، وكذلك الملابس والأحذيّة كما الآلات الموسيقية، بل وحتى الحلوى العُثمانية اللذيذة أيضاً.
في زاوية من زوايا المتحف يُمكن للمتجوّل أن يرى بيوت الأسلحة الكثيرة المُنتشرة في المعرض، والتي يحتوي الكثير منها على كتابات بالحروف العربيّة، كالبارودة الطويلة التي تُرى عند المدخل ومكتوب عليها بخط صغير “عمل حاجي حسين” وقد يكون اسمع صانعها، وفي زاوية أخرى سيف يُسمى “سيف ديلينغر”، يجذب الأنظار ليس لأنه يحوي عدداً من حجارة الياقوت التي جعلته أغلى سيوف المتحف، بل إن من يتأمله سيجد عليه آية قرآنية كُتبت بالذهب، ولن يستصعب من يعرف قراءة العربية أنها “آية الكُرسي”.
أعجب سيوف المتحف هو “ذو الفقار” أو “سيف النبي مُحمد ﷺ” وهو ليس السيف الأصلي، ولكنه تقليد عنه، وإلى جانب السيوف فإن لتجهيزات الخيل أهميّة واضحة، والعديد منها لم تصنع بالصورة بأيد عثمانية، ولكن على الطراز العثماني، كما هناك العديد من الرايات كراية الجيش الانكشاري وراية البحريّة العثمانية التي تحتوي ضمن رموزها على “يد فاطمة”، بنت الرسول، هذا غير الرايات الضخمة التي تحمل أسماء الخلفاء الراشدين وشيئاً من الآيات القرآنية.
إلى جانب أضخم رايات المتحف، هناك تُحفة فريدة من نوعها هي قفطان عُثماني أحمر فاقع، يُرى أن هناك 100 قفطان مثله كانت في ملكيّة القصر منذ حوالي 300 عام، ولكن أغلبها فُقدت مع الزمن، وإلى جانب القفطان يُرى زوجان من الأحذية الفاخرة التي كان قد تم شراؤها من إسطنبول، كغيرها من المقتنيات النادرة مثل “المطهرة”، التي كانت تُحفظ فيها المياه عند السفر، أو حتى ظرف فاخر توضع فيه الرسائل، وكذلك حقيبة مميزة للأمراء والسفراء.
بالإضافة إلى كل ذلك هنا زاوية إلكترونيّة تُعرض فيها معلومات لمن يرغب في التوسع في فهم فترة “الموضة التركيّة”، ومن ضمن هذه الأمور “كتاب الأتراك” (Türkenbuch) الذي كتبه دافيد أونغناد من رحلته الاستكشافية بأمر من القيصر النمساوي بين عام 1573 و1578، ودوّن فيه ملاحظاته حول الحياة والعادات والتقاليد في الدولة العثمانية، مع الكثير من الرسومات التوضيحية، ومع أن الكثير من أجزاء الكتب قد ضاعت مع الزمن أو خربت، إلا أن بعض أجزائه لا تزال باقيّة حتى اليوم، وبعضها تُعرض مع الشروحات في حواسيب المعرض فقط.
ختاماً فإن أجمل ما في هذا المتحف أنه يؤكد بأنه “الفخامة العُثمانية” لا يُمكن حصرها في شاورما “الدونر” التركية التي يعشقها الألمان، فهناك مثل هذا المتحف وغيرها من المتحف والمعالم مثل مسجد شفتسنجن الأحمر، ومتحف “الغنائم التركية” في كارلسروهي وغيرها، مما لم أكن شخصياً لأعرفها، لولا مؤسسة “آسونيا” (Asunya) التي تعمل على التعريف بالتراث العثماني بين المسلمين في ألمانيا.