لا شك أنه عندما تضع الحرب أوزارها يبدأ المنتصر في جمع الغنائم، والأسرى، ويبدأ المنتصر في التذكر فيما فعله به المهزوم المأسور في الحرب، من نكاية وتقتيل، وغالبا ما تتحكم في مثل هذه المواقف نزعة الانتقام والتشفي، وإذلال المهزوم أو الأسير، وهذا قانون قديم قالته ملكة سبأ، يقول تعالى على لسانها: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) النمل: 34.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أخلاقه مع الأسرى مثالا في الخلق الفاضل القويم، من حيث إحسانه وبره بهم، وحسن تعامله معهم، وإنسانيته في معاملتهم، فلا يجمع عليهم بين الأسر والذل والمهانة. فقد سن النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأسير عدة أمور، لم يسبق إليها، تدل على خلقه العظيم، وعلى مراعاته الجانب الإنساني في حياة الناس، وعلى احترام آدميتهم، وتكريمهم، كيف لا والله عز وجل يقول عن الإنسان في القرآن الكريم: (ولقد كرمنا بني آدم) الأسراء: 70. وإليكم بعض النماذج من إنسانية محمد صلى الله عليه وسلم مع الأسرى.
1ـ عدم تعذيب الأسير بإحكام وثاقه:
مما سنَّه النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأسير وهو في أسره: ألا يعذب بإحكام الوثاق للدرجة التي يتألم منه، فإن كان لا بد من ربطه، فالهدف منه عدم هربه، وليس تعذيبه وتألمه، فعندما أُسر العباس بن عبد المطلب في الأسارى يوم بدر، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنينه وهو في الوثاق، جعل النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام تلك الليلة، ولا يأخذه نوم، ففطن له رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله إنك لتؤرق منذ الليلة، فقال: العباس أوجعه الوثاق، فذلك أرقني، قال: أفلا أذهب فأرخي عنه شيئا؟ قال: إن شئت فعلت ذلك من قبل نفسك، فانطلق الأنصاري فأرخى عن وثاقه، فسكن وهدأ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد أرقه وأذهب النوم من عينه تألم أسير، وأنينه، ولم ينم ويهنأ بنومه إلا عندما هدأ الأسير، ونام.
2ـ إطعام الأسرى:
كما كان من سلوكه صلى الله عليه وسلم، وأمره بذلك من باب حق الأسير: أن يطعمه المسلمون، فعن أبي عزيز بن عمير قال: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “استوصوا بالأسارى خيراً”، وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم أكلوا التمر، وأطعموني الخبز؛ بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياهم. فالمسلم وأهل بيته، ترك للأسير خير الطعام، وأبقى لنفسه الأقل، مبالغا في إكرامه، لأنه بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تشريع لا يسعه إلا التنفيذ.
وكانت بنو عامر قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأسر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من ثقيف، وأخذوا ناقة كانت تسبق عليها الحاج، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُوثق، فقال: يا محمد! يا محمد! فعطف عليه، فقال: على ما أُحبس، وتؤخذ سابقة الحاج؟ قال: بجريرة حلفائك من بني عامر، وكانت بنو عامر من حلفاء ثقيف، ثم أجاز النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه أيضا يا محمد! فأجابه، فقال: إني مسلم، فقال: لو قلت ذلك وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح، قال: ثم أجاز النبي صلى الله عليه وسلم فناداه أيضا، فرجع إليه، فقال: أطعمني فإني جائع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه حاجتك؟ فأمر له بطعام”.
وعن الحسن البصري قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: “أحسن إليه” فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
4ـ كسوة الأسرى:
ولم يقف حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بالأسرى وإكرامهم عند حد الإطعام، وهم من حملوا عليه السيوف، وقاتلوه، وأرادوا قتله وقتل أصحابه، بل بلغت إنسانيته ورحمته بهم، أنه كان يكسو من لا كسوة له، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: “لما كان يوم بدر أُتي بأسارى، وأُتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم قميصا، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يُقْدَر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه”. ولذلك بعد مرور سنوات من هذه الحادثة، سينزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه عبد الله بن أبي، وذلك ردا لجميله السابق في عمه الأسير العباس بن عبد المطلب.
5ـ مراعاة نفسية الأسرى:
ومن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأسرى: ألا يفعل أمام الأسير فعلا يجرح شعوره، أو يثير نفسه، أو يصيبه بالألم، وإن كان الأسير مشركا، وعدوا له، فمن ذلك: أن امرأتين من يهود خيبر ـ بعد أن انتصر المسلمون عليهم، وانتهى الحصار ـ وقعتا في أسر بلال رضي الله عنه، فمضى بهما إلى مركز القيادة، مارا بميدان المعركة حيث سقطت جثث القتلى من اليهود، وكان لهذا المشهد أثره العميق في نفس إحدى الأسيرتين، فصاحت وأجهشت بالبكاء، وما أن علم النبي صلى الله عليه وسلم بسلوك بلال حتى استنكر فعلته، ووجه إليه اللوم العنيف قائلا له: “وهل نزعت منك الرحمة يا بلال! حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟!”.
يلومه على مروره بفتاتين على جثث القتلى، وهو منظر يؤلم، وبخاصة إذا كان المقتول من أهل المار، فعنفه صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل، فالواجب مراعاة شعور الأسير، لا إذلاله بدنيا ونفسيا.