في عام 1229م، بعد توقيع معاهدة يافا بين السلطان الأيوبي الكامل، والإمبراطور فريدريك الثاني، انتقلت القدس (بيت المقدس) إلى أيدي الصليبيين، الذين حكموها بعد هذا التاريخ.
فهل أعطى السلطان الكامل القدس للإمبراطور فريدريك الثاني مقابل الحصول على دعمه لتثبيت قواعد حكمه؟ أم أن هذا القرار كان محاولة استراتيجية لقمع الحملة الصليبية السادسة؟ وما نتيجة معاهدة يافا تلك؟
اقرأ هذا التقرير، لتتضح لك الأمور أكثر.
قبل وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي بفترةٍ وجيزة وتحديداً في عام 1193م، قسَّم أراضي مملكته بين أقاربه، فخصَّص أهم المناطق والمدن الاستراتيجية، ومنها القدس، لبعض أبنائه، والمدن الأقل أهمية كانت من نصيب أشقائه وبقية أبنائه.
فأوصى لابنه “الملك الأفضل” بالسلطنة من بعده، وأن تكون له السلطة العليا والكلمة النافذة في الدولة الأيوبية كلها، لكن “الأفضل” لم يكن مؤهلاً لهذه المهمة، فحدث نزاع بينه وبين إخوته، واحتكم كل منهم إلى سيفه وقوته.
مِن الملك الأفضل إلى الملك العادل وأبنائه
انتهز الملك العادل، أخو صلاح الدين، هذه الفرصة، وتمكن من خلع الأبناء واحداً بعد الآخر، وأصبح حاكم الدولة الأيوبية بأكملها.
استعان “العادل” بأبنائه في إدارة الدولة، فأناب ابنه “الكامل محمد” في حكم مصر، وجعل ابنه “المعظّم عيسى” في دمشق، وأعطى “الأشرف موسى” حران، واحتفظ “العادل” لنفسه بالإشراف التام على جميع أنحاء دولته.
يعود الفضل في الارتباط بين أبناء “العادل” الثلاثة إلى التغلب على الحملة الصليبية الخامسة، لكن هذا الارتباط لم يستمر طويلاً، بسبب أطماع المعظَّم عيسى، الذي بدأ في محاربة إخوته وأقاربه، للحصول على أراضيهم.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
هاجم حماة، التي كانت لابن عمّه واستولى عليها، وهو ما أغضب أخويه الكامل والأشرف، وكان هذا بداية الخلاف بينهم.
طمع “المعظَّم” والفرقة بين الإخوة
عندما شعر “الأشرف” بخطر الخوارزمية الذين يهددون الدولة الأيوبية بكاملها، هرع إلى أخيه “المعظَّم” في دمشق، وطلب منه العمل سريعاً لمواجهة هذا الخطر.
لكنّ ردَّ “المعظم” كان هو القبض على أخيه “الأشرف” في دمشق، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تعهَّد له بتمكينه من الاستيلاء على حمص وحماة ثم مهاجمة أخيهما الثالث “الكامل” في مصر أيضاً.
بمجرَّد أن أفلت “الأشرف” من يد “المعظم” عاد في يمينه التي كان مكرهاً عليها، وذهب إلى “الكامل” وأخبره بكل ما ينويه “المعظم”.
تلك الانقسامات العميقة بين الإخوة كان من شأنها أن تضعف الدولة، وتمهد الطريق لعودة الصليبيين إلى القدس، خاصةً بعد أن لجأ كل منهم إلى قوى خارجية.
فقد لجأ الملك المعظم إلى الخوارزمية للتغلب على أخويه، ولجأ السلطان الكامل إلى الصليبيين والإمبراطور فريدريك الثاني، لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية التي هددته وهددت دولته، من ناحية أخيه “المعظم” أولاً، ثم الخوارزمية ثانياً.
تنازل “الكامل” عن بيت المقدس مقابل معاونة الصليبيين
طلب “الكامل” من فريدريك الثاني أن يحضر إلى الشام والساحل، ويعطيه في المقابل بيت المقدس وجميع فتوحات صلاح الدين في الساحل، لهذا أرسل “الكامل” إلى الإمبراطور مبعوثاً خاصاً هو الأمير فخر الدين يوسف.
البابوية تريد حرباً صليبية سادسة، والإمبراطور لا يستجيب
خرج فريدريك الثاني من بلاده محروماً من الكنيسة ومغضوباً عليه من البابوية، لأن البابا كان يريد وقتها حرباً صليبية سادسة، وهو ما لم يقم به فريدريك الثاني، الذي اعتمد على وعد “الكامل” له بالحصول على بيت المقدس مقابل ما يقدمه له من مساعدات ضد أخيه “الملك المعظم”.
لكنّ فريدريك أصيب بخيبة أمل شديدة عندما وصل إلى الشام، فوجد أن الموقف قد تغيّر بوفاة “المعظَّم”، واتفاق أخويه “الكامل” و”الأشرف” على اقتسام بلاده، وكان الملك الناصر داود ابن “المعظم” أضعف من أن يحمي ملك أبيه.
وهكذا استقر الوضع لـ “الكامل” دون مساعدة فريدريك، لكنه لم يكن على استعداد لاستعداء الصليبيين عليه بنكث عهده معهم، خاصةً أن خطر الخوارزمية ما زال على الأبواب. أما فريدريك الثاني، فقد كان يعرف أنه ليس أمامه سوى سلاح الدبلوماسية والمفاوضة، للحصول على بيت المقدس.
المطالبة بتنفيذ الوعد
بمجرّد وصول فريدريك الثاني إلى عكا، أرسل رسولين محمَّلين بالهدايا إلى “الملك الكامل”، يطالبه بتنفيذ وعده بتسليم بيت المقدس، إلا أن “الكامل” ردَّ بأنه كان سيسلم بيت المقدس ثمناً لمساعدة فريدريك له أمام أخيه “المعظم”، لكن الآن بعد أن تغيّر الوضع فلا داعي إلى دفع هذا الثمن، خاصةً أن هذا سيقلب جموع المسلمين عليه.
أصبح موقف فريدريك حرجاً، خصوصاً بعد أن علم أن البابا أصدر ضده قرار الحرمان مرةً أخرى، وأباح لرعاياه الاعتداء على ممتلكاته.
كما أشاعت البابوية نبأً بأن الإمبراطور قد مات، وادَّعى البابا لنفسه حق الوصاية على الإمبراطورية، كل هذا جعل فريدريك يشعر بضرورة عودته سريعاً، لكنه لم يستطع العودة خائباً دون الحصول على بيت المقدس، وهو ما دفعه لتكثيف جهوده الدبلوماسية للحصول على بيت المقدس.
خلال هذا، توجَّه فريدريك إلى يافا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1228م، وهو ما أثار قلق “الكامل”، الذي خشي من اتفاق الإمبراطور وبقية الجموع الصليبية بالشام على القيام بعمل حربي ضده. وعلى أية حال، فقد كان “الكامل” لا يريد استعداء الصليبيين، لكي لا يقع بين 3 أعداء: ابن أخيه “المعظم”، والخوارزمية والصليبيين، خاصةً أن الصليبيين والخوارزمية قوتان لا يستهان بهما.
كما أنه قد أبدى استعداده من قبلُ للتنازل عن بيت المقدس مقابل رحيل الصليبيين عن دمياط، المدينة المصرية التي استولوا عليها خلال الحرب الصليبية الخامسة، لكن الصليبيين رفضوا العرض.
اتفاقية يافا، والثمن: بيت المقدس
بعد الكثير من المفاوضات، وافق “الكامل” على عقد اتفاقية يافا مع فريدريك الثاني، وبمقتضى هذه الاتفاقية تقرر الصلح بين الطرفين مدة 10 سنوات، على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس وبيت لحم والناصرة، فضلاً عن صيدا بأكملها.
وبخصوص بيت المقدس، فقد تقرر أن تبقى المدينة على ما هي عليه، وألا يجدَّد سورها، وأن تكون سائر قرى القدس للمسلمين، لا حكم فيها للفرنج، وأن الحرم بما يحويه من الصخرة والمسجد الأقصى يكون بأيدي المسلمين، ولا يدخله الفرنجة إلا للزيارة، ويتولاه المسلمون ويقيمون فيه شعائر الإسلام من الأذان والصلاة.
وهكذا استطاع فريدريك مع ضعف إمكاناته، أن يحقق مكاسب ضخمة عجزت عنها جهود ريتشارد قلب الأسد بإمكاناته الضخمة، دون أن يدخل معركة أو يخسر رجلاً واحداً.
أرسل السلطان “الكامل” بأن ينادى في القدس بخروج المسلمين منه وتسليمه إلى الفرنج، وهكذا تسلم الصليبيون بيت المقدس، دون ثمن تقريباً.
تبعات اتفاقية يافا
كان الأمر بالغ الصعوبة على المسلمين، فقد استعظم المسلمون الأمر ووجدوا فيه الكثير من الهوان والتألم، فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل كما يقول المقريزي، فأراد “الكامل” تهوين الأمر، بأن قال إنه لم يسمح للصليبيين إلا بالكنائس، وإن المسجد ما زال قائماً على حاله، وما زالت تقام فيه شعائر الإسلام.
لم يرُق الأمر لبعض الصليبيين أيضاً، الذين رأوا أن كرامة المسيحية تقتضي أن يؤخذ بيت المقدس من المسلمين بحدّ السيف.
خصوصاً أن أخذ بيت المقدس بالطريقة السلمية أعطى المسلمين الحق في الاحتفاظ بالكثير من الحقوق مثل استبقاء المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهي أشياء ما كانت ستتم لهم لو أن فريدريك الثاني قد جاء بحربٍ صليبية سادسة كما كانت تريد البابوية.
في 17 مارس/آذار عام 1229م، دخل فريدريك الثاني المدينة المقدسة ليتسلّمها من يد القاضي شمس الدين، قاضي نابلس، الذي أرسله “الكامل” مع الإمبراطور في خدمته. وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة، ليتوَّج ملكاً على بيت المقدس.
لم تستطع البابوية طويلاً أن تقلل من شأن العمل الذي قام به فريدريك الثاني، فاضطرت إلى الاعتراف أخيراً بما حققه الإمبراطور من كسب للمسيحية، وعقدت معه صلح سان جرمانو عام 1230م، والذي بمقتضاه رُفع قرار الحرمان عن الإمبراطور.
وفاة السلطان “الكامل” واسترداد المسلمين بيت المقدس
توفى السلطان “الكامل” عام 1238م، في قلعة دمشق، بعد حكمٍ تجاوز 20 عاماً، وكان قد عهد بالمُلك من بعده إلى ابنه الصالح نجم الدين أيوب، وهو الأمر الذي أغضب بقية أمراء الأيوبيين، وفي مقدمتهم أخوه “الأشرف موسى”.
أما بيت المقدس، فبعد الأعوام العشرة كما كانت تنص الاتفاقية، تمكن “الملك الصالح” من استعادته من الصليبيين الذين كانوا ينوون خرق الاتفاقية، وأعاد القدس مرة أخرى، مستعيناً بالخوارزميين الفارين من وجه الزحف المغولي، ويقال أيضاً إن من تمكَّن من استرداد بيت المقدس بعد انتهاء الوقت المنصوص عليه في الاتفاقية هو الملك الناصر داود ابن المعظم، الذي نجح في استرداد القدس بعد حصار الصليبيين إياه 21 يوماً، ليبدأ الصليبيون بعد هذا تجهيز الحملة الصليبية السابعة.