عد الضجة التي أثارها إطلاق مسلسل “ممالك النار” الذي يتناول الفترة التاريخية التي دخل فيها العثمانيّون الشام ومصر، أصبح الوقوف على حقيقة بعض الشخصيات والمعارك الواردة في المسلسل احتياجاً، خصوصاً إذا ابتعدنا في الطرح والمناقشة عن الأسباب التي قد تجعل منتجي الأعمال التاريخيّة عادةً يخرجون عن السياق الحقيقي لبعض الأحداث لخدمة الزوايا الدراميّة البحتة. وفي هذا التقرير نتناول بالبحث والتدقيق الشخصيّة المثيرة للغاية: السلطان سليم الأول.
ولمعرفةٍ أكبر بأوضاع هذه المرحلة، عليك الاطلاع على هذه الخريطة التي تشرح لك وجود الممالك الكبرى الثلاث قبل التغيّر الذي سيحدثه سليم: السلطنة المملوكية، والدولة الصفوية، والدولة العثمانية.
الشاب “الصارم” أصغر إخوته يسيطر على السلطنة
أطلق على سليم وهو صغير لقب “ياووز” أو “يافوز” كما تنطق بالتركيّة وتعني بالعربية “صارم”، وتروي المصادر التركية والعربيّة على السّواء أنّ سليم كان مشاغباً في صغره، كثير الحركة، مهتمّاً بالفروسيّة والقتال، وهي الطّباع التي ستتخلّل سنين حكمه القليلة التي قضّاها في حروب ومعارك يعتبر بعضها أطول الحروب في تاريخ الدولة العثمانيّة كاملةً.
ولنعد معاً للوراء قليلاً لشرح بعض الظروف المحيطة، فقد توفي السلطان محمّد الفاتح تاركاً ولدين: الأكبر بايزيد الثاني، والأصغر: جمّ سلطان، وما إن توفِّي الفاتح حتّى نشب الخلاف بين الأخوين غير الشقيقين، فسيطر بايزيد على إسطنبول – العاصمة – والجزء الأوروبيّ من الدولة الوليدة، بينما سيطر أخوه جمّ على بعض المساحات في آسيا الصغرى، ولم تحسم الحرب بينهما لسنين طويلة.
استطاع بايزيد الذي كان يمتلك قيادة الجند الإنكشاريّة – العمود الفقري للدولة – هزيمة أخيه الصغير مراراً، هذا الأمير الأصغر وجد ملجأه ومبتغاه في الدولة المملوكية، وعاصمتها القاهرة، تحت قيادة السلطان القويّ حينها: السلطان الأشرف قايتباي.
الحماية التي قدّمها الأشرف قايتباي لجمّ أخو السلطان بايزيد الثاني، لم تتجاوز تقديم الضيافة والمال، لكنّ هذه الضيافة كانت بالطبع “تغيظ” العثمانيين إذا صحّ القول، فوجود أخٍ مطالبٍ بالعرش عند دولةٍ أخرى منافسة مدعاة للقلق الدائم، وقد تحقّق هذا القلق عندما اخترق جمّ الأراضي المملوكية في مصر والشام في إحدى حملاته على أخيه وهاجمه في الأناضول، لم يُكتب لجمّ الانتصار، ولاحقاً اقتيد أسيراً من قبل المسيحيين، حتّى وصل لأيادي بابا روما الذي حاول من خلاله الضغط على بايزيد، ولم ينفع الضغط فقتل جمّ لاحقاً في سجنه.
حكم بايزيد 31 عاماً أحكم خلالها سيطرته على كافة الأراضي العثمانية، وفي أواخر حكمه وزّع ولايات على أولاده الثلاثة، بالترتيب: أحمد الأكبر، وكركود، وسليم “الصارم”. ومع تقدّم السلطان في السنّ وتجاوزه الستين عاماً، قرر أن يتخلّى عن الحكم لابنه الأكبر أحمد، وكان أحمد على تواصلٍ مع الصفويّين (الفرس الذين اتخذوا تبريز عاصمةً لهم)، وقد دعمه الشاه إسماعيل الصفوي للوصول للحكم، لكنّ سليم الأصغر كان لديه رأيٌ آخر.
كان سليم والياً على طرابزون، وقد أتاحت له ولايته لتلك المنطقة احتكاكه ببعض تحرّكات الدولة الصفوية الشيعيّة الرامية للتوسّع في الأناضول على حساب الدولة العثمانية، قرّر سليم إعلان العصيان على والده الذي رأى أنّه متخاذل عن مقاومة الصفويين وخطرهم الكبير على السلطنة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
استطاع جيش السلطنة هزيمة سليم الأوّل، لكنّه استطاع إعادة جيشه والتنسيق مع بعض قادة الجند الإنكشارية ليدعموه، دخل سليم إلى إسطنبول مُجبِراً أباه على التخلِّي عن العرش له وليس لأخيه الأكبر أحمد، وهنا بدأ أحمد في التمرُّد ومحاربة سليم.
استطاع سليم أن يهزم أخيه أحمد المدعوم من قبل الصفويين الشيعة، وعندما ضاقت الأرض بأحمد، حاول اللجوء للدولةِ المملوكيّة، وراسل السلطان الجديد قانصوه الغوري، الذي يبدو أنّه لم يرحّب بلجوئه، فلجأ للصفويّين، لكنّ ثلاثةً من أولاده التجأوا إلى مصر، وبالطبع كانت هذه الخطوة أحد أبرز نقاط الصراع مع المملكة المملوكيّة المترامية الأطراف، لكنّهُ صراعٌ مكتومٌ تحت الرّماد.
في غضون سنتين تقريباً كان السلطان سليم هو السلطان الأوحد للدولة العثمانيّة، بعدما انتصر في معاركه ضد أخويه، لكنّ السلطان “الصارم” لم يكن ليهدأ، فهذا الرجل الذي استطاع الإقدام على ما لم يكن غيره ليقدم عليه، استطاع زيادة رقعته دولته ضعفين عمّا كانت عليه.. وإليك التفاصيل.
أولى معاركه الكبرى: القضاء على الخطر الصفوي الشيعي
في الفترة التي كانت فيها المعارك تدور على أشدّها بين الأخوين بايزيد الثاني وجمّ، كانت قوّةٌ أخرى مخيفة تنشأ في الظلال، وعلى حدود الدولة العثمانيّة إلى الشرق: الدولة الصفويّة الشيعيّة. فقد بدأ إسماعيل شاه الصفوي تأسيس دولته التي ستستمرّ لاحقاً أكثر من قرنين، وستسبِّب للدولة العثمانية الكثير من المشكلات خلالهما.
كان إسماعيل الصفوي سليلاً لشيخٍ صوفيّ يدعى صفيّ الدين الأردبيلي الذي أسّس طريقته الصوفيّة السنيّة في منطقة أردبيل، ظلّت هذه الطريقة تهتمّ بالتصوّف والعبادة على المذهب السنِّي، وظلّت قيادتها تتناقل بالتوارث، حتّى غيّر أحد مشايخها مذهبها الشافعيّ واعتنق المذهب الجعفريّ، وبعد عدّة أجيال قرّر “الشيخ جنيد” أنّ تتحوّل الطريقة إلى العمل العسكري، فأصبح متصوفته الشيعة جنوداً وعساكر، وفي عهد ابنه “الشيخ حيدر” توسّعت الطريقة حتّى مهّدت الطريق لابنه إسماعيل الصفوي إعلان الدولة الصفويّة الشيعيّة في إيران ومذهبها الرسمي: الشيعي الاثنى عشري.
كان إسماعيل طموحاً للغاية، وربّما يمكننا أن نقول إنّه كان سفاحاً، استطاع ضمّ العراق وأجزاء كبيرة من آسيا، وأرغم الكثير من السكّان السنّة على اعتناق المذهب الشيعي بالقوّة، بل إنّك ستفاجأ عندما تعرف أنّ إيران التي نعرفها الآن كانت سنيّة حتّى أدخل الشاه إسماعيل الصفويّ التشيُّع عليها، من خلال طريقته الدينيّة الشيعية ولاحقاً من خلال قوّته العسكريّة.
تذكر لنا المصادر التركية العديد من المذابح التي ارتكبها الشاه في المناطق السنيّة، ومع تحالفه مع القبائل التركيّة العلويّة في آسيا (قبائل القزلباش)، استطاع قضم جزءٍ مهم من الدولة العثمانيّة في وسط آسيا والأناضول، كانت بداية هذا في عام 1501م، عندما كان الشاب سليم الصغير نسبياً والياً على مدينة طرابزون التركيّة على قربٍ من تحرُّكات الشاه الصفويّ الطّموح.
كان السلطان العثمانيّ بايزيد الثاني في أواخر سني عمره، وربّما لم يكن يقدّر أبعاد وخطورة الدولة الصفويّة الناشئة على أطراف دولته، خصوصاً أنّ ابنه الأكبر على تواصل مع الشاه الصفوي، بل ونال دعمه ليصبح سلطاناً بعد أبيه، ومن هناك كان سليم يتميّز غيظاً ويرى أنّ أبيه يضيع الدولة من بين أيديهم وأنّ أخويه كليهما ليسا على قدر المسؤوليّة مثله.
وما إن تولّى سليم مقاليد الحكم وسيطر على دولته بالانتصار على أخويه في المعارك التي دارت بينهم، حتّى وجّه قبلته ناحية الشرق، فالسلطان الأربعينيّ يرى أنّ الخطر الرئيسيّ على دولته يتمحور حول الدولة الصفويّة، ليس فقط لأنّها الدولة الأخطر عليه، وإنّما لأنّ هناك مشتركات بينها وبين بعض القبائل التركيّة الشيعيّة التي اجتذبتها لها، وكذلك لفرضها للمذهب الشيعي الاثنى عشري قسراً على المسلمين السنّة، العمود الرئيسي للدولة العثمانية.
كانت البداية أن استفتى السلطان سليم الأوّل مفتي الدولة حمزة أفندي، فأصدر المفتي فتواه وهي محفوظةٌ في متحف طوب كابي بإسطنبول، يقول فيها: “إنّ طائفة القزلباش التي يرأسها إسماعيل بن أردبيل استخفّت بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلّم، وسنّته والدين الإسلامي وعلوم القرآن والقرآن المبين، وحقّرت من شأن ما استخفّت به كالقرآن الكريم وكتب الشريعة وأحرقتها.. ولأنّ هذه الطائفة كافرة وملحدة ومن أهل الفساد، إذن ينبغي قتالها والقضاء عليها”.
وأمر سليم بعدها بإحصاء الموجود على حدود الأناضول من هذه الطائفة، فكانوا أربعين ألفاً من القزلباش الصفويّين، فاستفتى في قتلهم وقتل الكثيرين منهم وزجّ البعض الآخر في السجون، وكان هذا القرار في نظر سليم أنّه رداً على ما فعله الشاه إسماعيل في أتباع السلطنة العثمانيّة السنّة، ومن هنا بدأت المراسلات الحادّة بين الشاه الطموح والسلطان الشاب.
أرسل سليم في بداية الأمر إلى إسماعيل يخبره بأنّه حاد عن الطريق الصحيح، وأنّه يجب أن يعود لطريق الإسلام الصحيح، وأنّه قد استصدر فتوى بقتله إذا لم يعد إلى رشده ويتخلّى عن مذهبه، ووفقاً للمصادر التركية فقد استهزأ الشاه الصفوي برسالة السلطان، وأرسل له علبةً فيها أفيون وهذا معناه أنّ السلطان تحت تأثير الأفيون وليس في كامل قواه العقلية، وقتل رسول السلطان سليم.
وفي إحدى الرسائل تواعد الاثنان على القتال في معركةٍ حاسمة وأرسل السلطان سليم رسالةً يقول فيها: “إن كنت رجلاً فقابلني في الميدان”، وكانت هذه المعركة التي غيّرت تاريخ هذه المنطقة مرةً أخرى: معركة جالديران عام 1514، بعد تولّي سليم السلطنة بسنتين فقط.
معركة جالديران الحاسمة
وفقاً لما يذكره لنا كتاب “تاريخ الدولة العثمانية منذ نشأتها حتّى نهاية العصر الذهبي”، فقد بدأ سليم مسيرته الطويلة الشاقّة من إسطنبول إلى عقر دار الدولة الصفويّة، وفي طريقه إلى جالديران استطاع مدّ سيطرته على ما قابله من مدنٍ وولايات صفويّة، لكنّ شاه الفرس استخدم آلية “الأرض المحروقة” وهي أن يدمّر الأراضي التي ينسحب منها قبل أن يدخلها العثمانيّون، وصل الجيش العثماني في أغسطس/آب 1514 إلى سهل جالديران بعد مسيرة 2500 كم، وفي اليوم التالي بدأت المعركة الحاسمة، معركة الشاه الطموح جداً، والسلطان الشّاب الذي لم يسترح يوماً على كرسيّ عرشه لكثرة معاركه وحروبه.
دارت المعركة، وكان النصر فيها حليفاً للسلطان سليم الأوّل، ليس هذا فقط، بل إنّ الشاه نفسه قد جُرح، وهرب من ساحة المعركة بصعوبة، وأسرت إحدى زوجاته، وقُتِل العديد من قادته، وبهزيمة الشاه تقهقر إلى مدينة تبريز التي كانت عاصمته، لكنّ سليماً قرّر أن يدخل تبريز، وبالفعل استطاع دخولها والسيطرة عليها بعدما هرب الشاه منها هروباً سريعاً.
بهذا الانتصار الضخم استطاع سليم أن يثبت قوّته، ويوطّد حكمه، ويرجع ما أُخذ من دولته في عهد أبيه ويضم أراضي جديدة أيضاً. ومع الغنائم الضخمة التي غنمها جنده والأراضي التي وقعت تحت سيطرته زادت شعبيته لدى الجنود الإنكشاريّة أكثر، وأصبح متفرغاً أكثر ليناوش، أو لنقل ليدخل في مغامرةٍ جسورةٍ أخرى: حرب المماليك والعثمانيين القادمة التي ستغيّر فعلياً تاريخ المنطقة طيلة خمسة قرون.
حرب المماليك والعثمانيين.. بين السلطان الشاب والسلطان المُحنّك
كانت الدولة المملوكيّة التي نشأت في مصر على أنقاض الدولة الأيوبيّة وتوسّعت حتّى ضمّت إلى مصر النوبة وشمال السودان وأراضي الحجاز واليمن وكامل الشام وبعض الإمارات التركمانيّة التي تقع على الحدود مع الدولة العثمانيّة، كانت أراضيها ضعف ونصف أراضي الدولة العثمانيّة، وكذلك كانت الدولة تشيخ، فقد مرّ عليها أكثر من قرنين ونصف من الزمان، استطاعت خلالهما مدّ نفوذها على كلّ هذه الرقعة الضخمة، بعدما طردت الصليبيين نهائياً وإلى الأبد من ديار المسلمين، وبعدما قضت على الخطر المغوليّ في معركة عين جالوت الشهيرة.
تأسست دولة المماليك في الوقت الذي كان فيه آباء العثمانيين مجرّد قبيلة صغيرة تسعى من خلال قائدها الشهير أرطغرل بن سليمان لتأسيس إمارةٍ صغيرةٍ على حدود الدولة البيزنطيّة، لكنّ الدولة العثمانيّة التي تأسست حقيقةً مع عثمان بن أرطغرل عام 1299 – بعد تأسيس المماليك دولتهم عام 1250 – كانت قد بدأت تشبُّ عن الطوق بعد صراعاتٍ عديدة خاضتها في الأناضول وأوروبا حتّى تثبِّت أقدامها على أراضيها.
ومع الدولة التي بدأت تشيخ في العاصمة القاهرة، كانت الدولة الأخرى التي بدت شابةً تتوسّع على حسابها، وقد بدأ هذا التوسُّع -وفق كتاب “العثمانيون في التاريخ والحضارة” لمؤلفه المؤرخ المصري محمد حرب- أثناء عودة سليم الأوّل من حربه مع الدولة الصفويّة.
كانت المراسلات قد بدأت منذ فترة بين السلطان قانصوه الغوري والسلطان سليم الأول، عندما طلب منه سليم أن ينضمّ له -باعتبارهما على المذهب السنيّ- ليحاربا الشاه الصفويّ الشيعيّ، وعلى الجانب الآخر فقط أرسل الشاه إلى السلطان قانصوه الغوري يدعوه لمساعدته لحرب “ابن عثمان”، لكنّ السلطان المملوكيّ المخضرم -وكان في الستينات من عمره- آثر أن يقف على الحياد بينهما، فما الضرر عليه إن انتظر النتيجة حتّى يميل لأحدهما؟
علينا أن نتذكّر هنا ما ذكرناه سابقاً من أنّ ثلاثة أولاد لأخي سليم الأكبر، الأمير أحمد، قد هربوا إلى مصر في عهد قانصوه الغوري، وإن رفض الغوري أن يستقبل أحمد كي لا يثير حنق سليم كثيراً، فيكفي لجوء أولاده الثلاثة للقاهرة.
على أنّ ما يبدو أنّ السلطان قانصوه كان ليفرح أكثر لو انتهت المعركة بهزيمة سليم، أو على الأقل بخسائر بين الدولتين الصغيرتين نسبياً مقارنةً بمملكته العجوز الواسعة، فلو أنّ سليماً وإسماعيل تقاتلا وخسر كليهما خسائر فادحة فمن سيكون منتصراً أكثر من السلطان العجوز المخضرم؟
عندما انتصر سليم الأوّل في معركة جالديران أرسل إلى السلطان قانصوه الغوري يبشّره بالنصر على الشاه إسماعيل، وقد ردّ الغوريّ على رسالته بفرحٍ عارم وإن أخفى ضيقاً من انتصاره الذي جعل قوّته تضاهي الآن قوّة الغوري، وهكذا كانت الحرب بين الغوري وسليم حرباً دبلوماسيةً مكتومة، قبل أن تنفجر.
غير أنّ السجلّات تذكر لنا أنّ خاير بك، والي الغوري على حلب، كانت بينه وبين سليم الأوّل مراسلاتٌ عديدة، قبل حتّى انطلاق سليم إلى معركته الحاسمة مع الصفويين، فقد كان خاير بك هو المكلّف من قبل الغوري وواليه على الشام أن يتواصل مع سليم، باعتباره على الحدود مع الدولة العثمانيّة، لكنّ خاير بك الذي عرف لاحقاً عند المؤرخين المصريين بالخائن، وقد ثبتت خيانته بالفعل وسنذكر ذلك لاحقاً، كانت له صلاتٌ أقوى مع السلطان سليم.
وقد أرسل خاير بك رسالة طويلة قبيل المعركة الحاسمة إلى سليم بك يخبره فيها بالتالي: “والمملوك واقفٌ على أثبت قدمٍ لما يردُ عليه من المراسم والخَدَم ليفوز بقضائها وامتثالها بالسمع والطاعة”، ويؤكّد لسليم في نفس الرسالة أنّ “المملكتين مملكةٌ واحدة”، والرسالة محفوظة في متحف طوب كابي في إسطنبول.
من خلال مراسلات خاير بك مع السلطان سليم الأوّل، يبدو لنا أنّ السلطان سليم قد بدأ بـ “فتح خطّ” مع أحد أهمّ الشخصيات في السلطنة المملوكية المترامية.
نعود إلى بدايات الصدام وحرب المماليك والعثمانيين. كانت هناك إمارة تركمانيّة اسمها “ذو القادر” بين الدولة العثمانية والدولة المملوكيّة، وكانت هذه الإمارة الصغيرة تدين بولائها للسلطان المملوكيّ، وعندما أراد سليم غزو الفرس طلب من علاء الدين ذو القادر، أمير هذه الإمارة، أن يساعده بالإمدادات، وهو ما رفضه علاء الدين، وأثناء عودة سليم الأوّل قتل علاء الدين وأخذ إمارته الصغيرة، وبهذا بدأ التحرّش والاحتكاك رسمياً بين الدولتين.
سار السلطان المحنّك قانصوه الغوري على رأس جيشه إلى حلب، احتراساً ممّا كان يدبِّر سليم الأوّل، فقد كانت الحرب المخابراتيّة بين السلطانين على أشدّها، ورغم أنّ السلطان سليم تبادل عدّة رسائل مع السلطان قانصوه الغوري، واصفاً إياه “والدي” لفارق السنّ بينهما، إلا أنّ هذا يؤكد الصراع بينهما ولا ينفيه، فقد كانت التحرّكات على الأرض تنبأ بالعاصفة القادمة.
وصل لأيادي المخابرات العثمانية رسالةً تؤكد الودّ بين الشاه الصفوي والسلطان الغوري، بينما وصلت آخر أخبار سليم إلى المخابرات المملوكية التي أكّدت للسلطان حشود سليم الأوّل العسكرية، وعلى هذا الأساس تحرّك الرجلان.
وقعت معركة مرج دابق على مشارف حلب في 8 أغسطس/آب عام 1516، بين الجيشين الكبيرين: المملوكيّ بقيادة السلطان قانصوه الغوري، والعثماني بقيادة السلطان سليم الأوّل، ودارت الدائرة على السلطان المحنّك لصالح السلطان الشاب الطموح الذي لا يهدأ، لكنّ ثنايا المعركة تكشفُ لنا الكثير.
فقد أشاع خاير بك وقد كان قائد الجناح الأيسر للجيش، الذي ذكرنا منذ قليل مراسلاته مع السلطان سليم، إشاعتين: الأولى: أنّ السلطان الغوري أمر مماليكه الخاصين ألّا يدخلوا المعركة كي يضحّي بالمماليك القديمة، فانسحب المماليك الكبار من المعركة، والثانية: أنّ السلطان قانصوه الغوري قد قُتل، فخارت هزيمة الجُند!
وقد قتل السلطان الغوري بالفعل لكن بعد الإشاعة، ولا تذكر لنا كتب التاريخ كيف قتل أو مات الغوري، لكنّ المؤرّخ المصري محمد حرب يذكر لنا أنّ العثمانيين أكرموه بعد وفاته، فأقاموا عليه صلاة الجنازة ودفنوه في مشارف حلب.
كما يؤكد لنا د. أحمد فؤاد متولي المؤرخ المصري أيضاً حادثةً تذكرها المصادر التركيّة بأنّ السلطان سليماً لمّا دخل حلب ودعي له في صلاة الجمعة ذكر الخطيب أنّه “مالك الحرمين الشريفين”، فنهض سليم من مكانه قائلاً أثناء الخطبة: “من أنا لأكون مالك للحرمين؟ إنني أفتخر بأن أكون خادم الحرمين لا مالكهما”، وإن كانت المصادر التركية تمتلئ ببعض المبالغة من أنّ السلطان قام وبكى قبل أن يقول كلمته تلك.
لم تنتهِ الحرب بين المماليك والعثمانيين بسقوط قانصوه الغوري، فقد كان هناك سلطانٌ شاب، عيّنه المماليك بعد وفاة عمّه قانصوه الغوري، كان طموحاً كسليم، يصغره بأربع سنواتٍ فقط، وسيصبح أسطورةً سيُعجب بها سليم نفسه، ذلك هو السلطان طومان باي.
طومان باي.. آخر سلاطين المماليك وقائد آخر معركة ضد العثمانيين
لا يبدو أنّ السلطان سليم الأوّل كان راغباً في اكتمال غزوه بالوصول للقاهرة، بما في ذلك من مشقةٍ وخسائر وتكلفةٍ ماليّةٍ كبيرة، فماذا يريد أكثر من قتل السلطان المحنّك وإنهاء دولته، سوى خضوع بقيّة بلاده لسلطانه وتأدية الجزية السنوية وبقيّة الواجبات التي يؤدونها للسلطان؟ من هذا المنطلق أرسل رسالةً لطومان باي يطلب منه فيها التسليم بسلطانه عليه، وأن يحكم مصر باسم السلطان سليم الأوّل، مقابل جزيةٍ سنويّة.
كان طومان باي ابن أخي السلطان قانصوه الغوري، وقد نصّبه المماليك سلطاناً على المملكة، فقتل رسل السلطان سليم الأوّل، وكانت الرسالة واضحة: اقطع الطريق من حلب إلى القاهرة، فلم تنتهِ السلطنة المملوكية بعد!
وهكذا، سار جيش سليم رغم المشقّة والتكاليف إلى مصر، ووقعت معركة الريدانيّة الشهيرة، التي انتصر فيها سليم الأوّل بسبب خيانة جان بردي الغزالي والي غزّة أيضاً، والذي يبدو أنّ خاير بك قد منّاه وأوقعه في شباك الخيانة، وقعت معركة الريدانيّة في مصر وانهزم المماليك.
لكن يبدو أنّ طومان باي كان من عجينةٍ غير التي كان منها عمّه قانصوه نفسه، أو أمراؤه الخونة، فيذكر لنا ابن إياس -المؤرخ المصري- في كتابه المهمّ “بدائع الزهور في وقائع الدهور” أنّ السلطان طومان باي عندما رأى تخاذل أمرائه، وأنّ الدائرة تدور عليه بسبب المدافع العثمانيّة المتقدّمة عن مدافعه، وبسبب خيانة جان بردي الغزالي، قرّر قراراً شجاعاً: أن يقود بنفسه مجموعةً انتحاريةً لقتل السلطان سليم وإنهاء هذا الصراع الملحميّ.
استطاع طومان باي أن يخترق المعسكر العثمانيّ بالفعل، لكنّه قتل الصدر الأعظم سنان باشا، ظاناً منه أنّه هو السلطان، لكنّه استفاق في اليوم التالي دون هزيمة العثمانيين أو تراجعهم. وهرب طومان باي بعد هزيمة الريدانيّة، وبدأ طورٌ آخر من أطوار الصراع: حرب الشوارع.
جمع طومان باي ما تبقّى من المماليك، واستقبل المتطوعين من الأهالي، وبدأ حرب شوارع مع القوات العثمانية في شوارع القاهرة التي يعرفها جيداً. استمرّت المعركة أربعة أيّامٍ كاملة، ويبدو من كلام المؤرخين المصريين في تلك الفترة أنّ العثمانيين خسروا كثيراً، وربما خامر البعض الأمل في الفوز عليهم وانسحابهم، لكنّ العثمانيين صعدوا على الأسطح والمآذن وأمطروا المماليك ببنادقهم، وكانت هذه الخطوة هي التي قضت على مقاومة طومان باي الأخيرة.
هرب طومان باي من القاهرة، وناوش العثمانيين مرةً أخرى فهُزم، وحين لجأ لأحد المشايخ البدو، استدلّ عليه السلطان العثمانيّ، وتروي لنا المصادر بعضاً من تفاصيل هذا اللقاء الدراميّ: عاتب السلطان سليم الأوّل السلطان طومان باي على قتله للرسل العثمانيين، فأخبره طومان باي بأنّه لم يأمر بذلك، وإنما فعل ذلك قادة المماليك.
يقال إنّ السلطان سليم فكّر في العفو عنه، لكنّ الصدر الأعظم وبعض القادة مثل خاير بك الخائن أبلغوه بأنّه لن يستقرّ له حكم مصر إن عفى عن طومان باي، فقد استطاع طومان باي أن يصبح بطلاً أسطورياً خلال مقاومته للعثمانيين، وهذا خطرٌ على سليم نفسه.
ربّما أعجب سليم بطومان باي، وربما رأى فيه نفسه، فالفارق بينهما أربعة سنوات فقط، وكلاهما لديه خلاف فيما يبدو مع نهج سابقيهما، هذا خلافٌ مع أبيه وهذا خلافٌ مع عمّه، وربّما فكّر سليم الأوّل لو أنّ السلطنة المملوكية كانت تحت حكم طومان وليس قانصوه الغوري، هل كان يستطيع هزيمته؟ وفي النهاية فازت حاشية سليم بقراره: قتل طومان باي وتعليق جثمانه على باب زويلة.
في هذا السياق من المهم أن نذكر أنّ خاير بك الخائن نال من السلطان سليم حكم مصر، واستمرّ حكمه أربع سنوات، اعتبرها جمهور المؤرخين المصريين من أسوأ سنين الحكم، ولم ينسوا أنّه لولا خيانة هذا الرجل ربما ما وقعت السلطنة العجوز التي قاربت الثلاثة قرون.
استقرار الدولة وتمهيد السلطان سليم الأول لغزو أوروبا
بهزيمة الدولة الصفويّة في معركة سهل جالديران، استطاع سليم أن يضمّ ما يساوي نصف مملكة والده، وبانتصاره في معركتي مرج دابق والريدانية فقد ضمّ ضعف ونصف مساحة دولته، فقد كانت السلطنة المملوكية أكبر من الدولة العثمانيّة، وبهذا ففي عام 1517 كانت الدولة العثمانية قد ازدادت ضعفين على أملاكها.
أثناء عودته إلى إسطنبول، التي تركها تحت حكم ابنه الوحيد سليمان، جاءته فكرةٌ عجيبة: أن يحوِّل اللغة الرسمية للدولة كاملةً إلى اللغة العربية، وأن يجعل كامل رعاياه مسلمين، غصباً أو عبر الدعوة والتعليم! وربّما هذا الموقف يخبرنا أنّ سليم لم يكن مفكراً لكنّه كان عسكرياً من طرازٍ خاص، وشاعر يكتب بالعربية والتركية والفارسية في آن!
رفض المفتي فكرة سليم الأوّل، وأخبره أنّ حرية العقيدة أمرٌ منتهٍ، كما عارض أيضاً تحويل لغة الدولة للعربية. وتوفي سليم بعد حربه مع المماليك بثلاث سنواتٍ فقط.
سمّاه الفرنسيون “الرهيب”، والعثمانيون “الصارم” أو “القاطع”، والبريطانيون “العابس”، وكلّ هذه الأوصاف تعطينا مؤشراً عن كيف رآه أعداؤه ومناصروه على السواء، فقد كان شخصاً مختلفاً، حكم فقط 8 سنوات، وخلالهما ضاعف رقعة دولته ضعفين.
هزم مملكةً ناشئة في الشرق وقضى على مملكة استمرت قرابة ثلاثة قرون في الجنوب، ومن خلال هذه التوسعات وتأمين حدوده الجنوبية والشرقية في آن، فتح لابنه آفاقاً أرحب للغزو وتوسيع رقعة دولته، ولكن هذه المرة في الجهة المقابلة: في أوروبا.
وسيصل ابنه سليمان القانوني حتّى أسوار مدينة فيينا النمساوية، التي سيفشل في فتحها، لتصبح الدولة في عهده إمبراطوريةً كبرى، تخشاها بلاد المشرق المسلمة وترهبها بلاد أوروبا كاملةً.