في الأندلس قصصٌ كثيرة، للنجاح والصعود السياسي والمالي وغيرهما، وأيضاً قصص وحكايات كثيرة عن سقوط الأندلس نفسها، لكنّ إحدى أكثر القصص عبرةً وجمالاً قصة المنصور بن أبي عامر، مؤسس الدولة العامرية، الذي كانت دولة المسلمين في الأندلس في عهده في أفضل مراحلها ازدهاراً وتقدماً، لكنّه تسبّب أيضاً -بتفرده بالسلطة- في سقوط الدولة، ممهداً -دون أن يعرف- لسقوط الأندلس بعدها.
البداية من ريف الأندلس
كان محمّد بن أبي عامر رجلاً فقيراً في الجزيرة الخضراء بريف الأندلس، وفد إلى قرطبة، حاضرة الخلافة الإسلامية في الأندلس، حاملاً معه القليل من المال والكثير من الأحلام والطموح الذي إمّا أن يتحقِّق وإما أن يوصل صاحبه إلى الموت.
كانت دولة الأمويين في الأندلس قد نضجت وأصبحت قويّة مهابةً من الممالك الإسلامية والمسيحية على السواء، ذلك أنّ عبدالرحمن الناصر قد استطاع بعد إعلانه الخلافة الأموية في الأندلس عام 316 هـ، وبعدما أصبح أول خليفة للأندلس، أن يحافظ على الدولة كاملةً دون أن ينقص منها دويلةً أو إمارةً واحدة.
حكم عبدالرحمن الناصر 50 عاماً استطاع خلالها أن يوطّد حكم الأمويين في الأندلس وأن يضمّ كل مناطق التمردات التي خرجت على جدّه “عبدالله” ويخضعها لسيطرته، اعتبر المؤرخون عبدالرحمن الناصر أحد أعظم الخلفاء في الأندلس، بما استطاع تحقيقه لدولته.
كان عبدالرحمن الناصر شاباً صغيراً عندما توفي جده، كان جده عبدالله يحب أباه ويحبه كثيراً، وبعد مقتل أبيه أصبح ربيباً لدى جده وهو الذي أنشأه كما يحبّ، وبعد وفاته بايعه أعمامه عام 300 هـ وهو ابن 22 عاماً فقط، ووفقاً لما يذكره بعض المؤرخين لم يبايعه أعمامه حباً وإنما خوفاً من أن يديروا دولةً مفككة مزقتها التمردات والثورات، فنهض عبدالرحمن بالدولة واستطاع أن يمكن نفسه فيها، وحكم لمدة 50 عاماً.
الثغرة التي بدأ من خلالها محمد بن أبي عامر صعوده
مع وفاة الناصر، أصبح ابنه الحكم المستنصر بالله خليفة للمسلمين في الأندلس، كان الحكم محباً للعلم والمعرفة جامعاً للكتب، حتى يقال إن مكتبته تجاوزت ربع مليون كتاب، في عهد الحكم المستنصر بالله، كان محمّد بن أبي عامر كاتباً مغموراً، لكنه يجيد الحديث وحلو الكلام.
بدأ حياته بدكانٍ افتتحه أمام قصر الزهراء، مقرّ الحكم في قرطبة، وما لبث أن بدأت شهرته تتسع في دوائر السلطة بكتابات رشيقة الكلمات بديعة العبارات، فلفت الأنظار، فرشحه أحد كبار القضاة لحاجب الخليفة جعفر بن عثمان المصحفيّ، الذي رشحه لاحقاً للخليفة نفسه ليصبح وكيلاً لابنه عبدالرحمن بن الحكم، وولي العهد القادم.
مع إثباته كفاءته وقدرته أعطاه الحكم عدّة مهام أخرى، فتولّى دار السكّة وقضاء إشبيلية لاحقاً، ثمّ توفّّي ابنُ الخليفة وولي عهده: عبدالرحمن، فاستبقاه الخليفة في أعماله، إلى أن رزق طفلًا آخر فأصبح وكيله أيضاً، ثمّ جعله الخليفة قائداً للشرطة الوسطى، ثم قاضياً لقضاة المغرب وغيرها من المناصب التي زادت ابن أبي عامر سلطاناً فوق سلطانه.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
بداية الصعود الكبير
مع مرض الخليفة الحكم، كان ابن أبي عامر يكتسب ثقته بمرور الأيّام، وتوفي الحكم وابنه هشام في سن الثانية عشرة فقط، وبدأت المعارك والصراعات على السلطة.
كان ابن أبي عامر في صفّ الخليفة الصغير، لا لشيء إلا لأنّه أستاذه وسيستطيع من خلاله أن يحكم الخلافة كلها، استمال كذلك الحاجب المصحفيّ إلى جانبه، بينما كان على الطرف الآخر عمّ الطفل الصغير هشام، المغيرة بن عبدالرحمن الناصر، وكان يدعمه الفتيان الصقالبة وهم فتيان متنفّذون في القصر ولديهم قوة حرس خاصة للخليفة.
استطاع ابن أبي عامر بمناوراتٍ عديدة أن ينفذ خطّته، فاعتلى هشام بن الحكم كرسيّ الخلافة، وقضى ابن أبي عامر بيده على المغيرة ولاحقاً قضى على فتيان الصقالبة بالطبع، وبهذا خلت الساحة له وللمصحفيّ ولحليفهما قائد الجيوش: غالب الناصريّ.
قصة الحب المثيرة! والتخلّص من المنافسين
قَبل المصحفيّ وغيره من رجال الدولة، كانت صبح البشكنشيّة، أمّ الخليفة الطفل، حامية ابن أبي عامر وداعمته الأولى، حتّى بدأت الألسنة تتحاكى بعشقهما وقصة حبهما، وراج الأمرُ بين العامّة كما راج بين الخاصة ورجال الدولة أيضاً، لكنّ صبح هي الوصية على الخليفة وابن أبي عامر قائد الشرطة ودار السكة وهو الآن أحد القادة الذين يخرجون لملاقاة جيوش الصليبيين ويعود منتصراً دائماً.
مع الانتصارات التي صارت أمراً ملتصقاً بابن أبي عامر، بدأ خطته للاستفراد بالسلطة كاملةً، وإزاحة منافسيه – أصدقائه السابقين.
كان هناك شخصٌ آخر بعيدٌ عن العاصمة لكنه مؤثِّر بشكلٍ كبير على مجريات الأمور، وهو غالب الناصريّ قائد الجيوش المرابطة على الحدود مع المسيحيين، استطاع محمد بن أبي عامر أن يصبح قائداً لجيش العاصمة، واتّحد مع غالب الناصري وخرجا معاً في إحدى الغزوات وغنما معاً غنائم هائلة، ثمّ طلب ابن أبي عامر يد ابنة غالب للزواج، فقوّى ذلك موقفه.
لاحقاً طلب من أمِّ الخليفة استصدار مرسومٍ بعزل جعفر المصحفيّ من الحجابة ومن حكم العاصمة وتوليته مكانه، وهو ما حصل بالفعل.
استفرد ابن أبي عامر بالدولة تماماً، ثمّ لاحقاً تنكّر لغالب الناصري وحاربه، واستطاع أن يغلبه بعدما تحالف غالب مع المسيحيين فضعفت صورته أمام العامّة، وأصبح ابن أبي عامر الرجل الأوحد في الخلافة الأندلسية، لكن ماذا عن المرأة الواحدة في الخلافة؟ هل سيظلان معاً أم سينقلب أحدهما على الآخر موليين قلبيهما لعلاقة الحب التي جمعتهما؟!
الحبّ أم السلطة؟
لم يعد لمحمد بن أبي عامر منافس في كامل الخلافة، فهو الآن قائد الجيش وحاكم قرطبة والحاجب، وحليفته هي أمّ الخليفة والوصيّة عليه، وربما حبيبته وفقاً للعديد من الروايات التاريخية، فمن سيختار محمّد؟ هل سيختار حبه ويظل في هذه المرتبة من السلطة أم يكمل ولن يوقفه أحدٌ سوى قلبه؟
يبدو أنّ محمد بن أبي عامر اختار السلطة على الحب، فقد عزل الخليفة الشاب نفسه، ووضع على قصره حرسه الخاص، وأشاع بين العامّة أنّ الخليفة قرر التفرغ للعبادة تاركاً أمور الدولة والناس لمربيه وحاجبه وقائد جيشه وصاحب السلطات الكاملة في دولة الخلافة في الأندلس: محمد بن أبي عامر.
بالطبع لم يرُق هذا لصبح، فهي أيضاً تريد ما لها من السلطة والتصرّف في الأمور، فراسلت أحد أمراء المغرب وحاولت تهريب الأموال له ليستطيع العبور إلى الأندلس وحمايتها وابنها من سلطان حبيبها ابن أبي عامر، لكنّ ابن أبي عامر لم يكن ليفوّت مثل هذه الفرصة، فقد علم بها من خلال عيونه في القصر واستطاع إفشال المخطط واستغلاله.
عزل أم الخليفة ورفع يدها عن التصرُّف في أموال القصر، ويئست هي من محاولة استرداد ملك ابنها الذي أضاعته بتحالفها مع الرجل الذي أحبته، بعدها بفترة تسمّى ابن أبي عامر بلقبٍ لم يسبقه أحدٌ إليه من رجال الدولة: “الملك المنصور”.
ودعي له على المنابر بعد الخليفة، كما صكّت النقود باسمه إلى جانب الخليفة بالطبع. أصبح ابن أبي عامر الملك الحقيقي، الأوحد، والمستفرد بالحكم في الأندلس قاطبةً، لكنّه ليس من النسل الأمويّ، ويحتاجُ لشرعيةٍ أخرى يستطيع أن يبرر بها استبداده بالحكم، وماذا غير الجهاد يعطيه هذه الشرعية؟
غزا ابن أبي عامر خمسين غزوة، ويقال أربعاً وخمسين غزوة لم يُهزم في واحدةٍ منها أبداً!
زاده هذا شرعيةً ليس فقط أمام العامّة من الناس، وإنما أمام البيت الأمويّ نفسه، المنكفئ على ذاته، المهزوم من جرّاء تحالف صُبح مع ابن أبي عامر، وأيضاً مع منافسيه في أرجاء الإمبراطورية الواسعة.
النهاية غير متوقعة للدولة العامرية
بدأ ابن أبي عامر خطته ليكمل نسله من بعده المُلك داخل دولة الخلافة، فهو الآن مؤسس دولةٍ داخل الدولة. حاول أحد أبنائه الانقلاب عليه، فأفشل الانقلاب، وقتل ابنه وأرسل رأسه للخليفةِ الشّاب، وتوطّدت صورة وسلطة ابن أبي عامر أكثر عند منافسيه وحلفائه على السواء.
لاحقاً ومع ثبات مُلكه، أعطى لابنه عبدالملك حجابة الخليفة، وأعطى لابنه الآخر عبدالرحمن الوزارة، وعندما توفّي بعدما أصبح ملكاً لمدة عشر سنوات، ورثه ابنه عبدالملك، الذي سار على نهج أبيه في عزل الخليفة وإدارة أمور الدولة كاملةً لوحده، إلى أن توفي بعد سبع سنوات فقط، فورثها من بعده أخوه الذي يبدو أنّه كان أحمق لم يرث من أبيه شيئاً، فقُتل بعد فترةٍ من الانقلابات والتمردات التي قامت ضده، وبعد أن قرر عزل الخليفة تماماً وتسمية نفسه خليفةً بديلاً عنه.
كانت بداية هذه التمردات، نهايةً للدولة الإسلامية الموحدة في الأندلس، فقد ثار العامة على ابن محمد بن أبي عامر ودمروا المدينة التي بناها الملك المنصور نفسه وأسماها “الزاهرة” لتصبح مدينةً إداريةً موازية ومنافسةً لمدينة الزهراء مقرّ الخلافة الأساسيّ، وبعد هذا التدمير تصارع العديد من أمراء الأمويين على الخلافة، وانتهت بالتقسيم الكامل لتصبح 22 دويلة في الأندلس، ويبدأ عصر ملوك الطوائف الذي انتهى بدخول دولة المرابطين للأندلس لحماية المسلمين من ممالك المسيحيين.