وأما تمسك الوهابية مشبهة هذا العصر وخوارجه في إثبات المكان لله تعالى وأنه في السماء بقوله تعالى {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ} فهو مردود لقيام الدليل العقلي والنقلي على خلافه فوجب رد الآية إلى قوله تعالى {ليس كمثله شىء} فقد قال الإمام أبو حيان في تفسيره: الرفع نقل من سفل إلى علو و {إلي} إضافة تشريف والمعنى إلى سمائي ومقر ملائكتي، وقد علم أن البارئ تعالى ليس في جهة، وقد تعلق بهذا المشبهة في ثبوت المكان لـه تعالى، وقيل إلى مكان لا يملك الحكم فيه في الحقيقة ولا في الظاهر إلا أنا بخلاف الأرض فإنه قد يتولى المخلوقون فيها الأحكام ظاهرا، وقيل إلى محل ثوابك، قال ابن عباس رفعه إلى السماء سماء الدنيا فهو فيها يسبح مع الملائكة.اهـ.
وفي كتاب الغنية في أصول الدين لأبي سعيد المتولي: وأما قوله تعالى {ورافعك إليَّ} معناه إلى كرامتي ورحمتي. قال الإمام الفخر الرازي: والمشبهة يتمسكون بهذه الآية في إثبات المكان لله تعالى وأنه في السماء، وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب أي التفسير الكبير بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ على التأويل وهو من وجوه:
الوجه الأول: أن المراد إلى محل كرامتي، وجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله {إني ذاهب إلى ربي} وإنما ذهب إبراهيم صلى الله عليه وسلم من العراق إلى الشام.
الوجه الثاني: في التأويل أن يكون قوله {ورافعك إلي} معناه أنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله، لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السموات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله. اهـ. وقال الرازي أيضا في تفسيره: وأما قولـه تعالى {بل رفعه الله إليه} المراد الرفع إلى موضع لا يجري فيه حكم غير الله تعالى كقوله {وإلى الله ترجع الأمور} وقال تعالى {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله} وكانت الهجرة في ذلك الوقت إلى المدينة وقال إبراهيم {إني ذاهب إلى ربي سيهدين}.اهـ
ثم إن من أصرح الأدلة العقلية على استحالة كونه في جهة فضلا عن كونه في مكان أن جملة العالم ليس في مكان وإلا لزم التسلسل وهذا محال وقد قال الإمام عبد الغني النابلسي: ومجموع الكائنات كلها لا مكان لها ولا حيز لها فكيف الله تعالى يكون له مكان أو حيّز تعالى الله عن ذلك.اهـ ومثله قال أبو الحسن الأشعري. وقد نقل الاجماع على إحالة كونه في جهة الفقيه المالكي محمد بن أحمد ميارة في كتابه الدر الثمين حيث قال: وأما الاجماع فأجمع أهل الحق قاطبة على أن الله لا جهة له فلا فوق ولا تحت ولا شمال ولا خلف.اهـ
أما تمسك المشبهة لإثبات الحيز والجهة لله بقوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وقوله {تعرج الملائكة والروح إليه} فهو باطل للبراهين العقلية والنقلية على تنـزه الله عن ذلك. قال ابن جهبل: الصعود كيف يكون حقيقة في الكلام؟ مع أن الصعود في الحقيقة من صفات الأجسام فليس المراد إلا القبول.اهـ
أخرج البيهقي في الأسماء من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} الكلام الطيب ذكر الله تعالى، والعمل الصالح أداء فرائضه، فمن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رُد كلامه على عمله فكان أولى به. وعن مجاهد قال العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب، قلت -أي البيهقي- صعود الكلم الطيب والصدقة الطيبة إلى السماء عبارة عن حسن القبول لهما، وعروج الملائكة يكون إلى مقامهم إلى السماء، وإنما وقعت العبارة عن ذلك بالصعود والعروج إلى الله تعالى على معنى قول الله عزَّ وجلَّ {ءأمنتم من في السماء} وقد ذكرنا أن معناه من فوق السماء على العرش، كما قال {فسيحوا في الأرض} أي فوق الأرض فقد قال {يخافون ربهم من فوقهم} وقال {الرحمن على العرش استوى} فهو على ما تقدم عن السلف في التفويض وعن الأئمة بعدهم في التأويل.اهـ
وقد بوب البخاري بابا في صحيحه فقال باب قول الله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه} وقوله جلَّ ذكره {إليه يصعد الكلم الطيب} قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال الفراء معناه أن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب أي يتقبل الكلام الطيب إذا كان معه عمل صالح. وقال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الرد على الجهمية المجسمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا يحتاج إلى مكان يستقر فيه فقد كان ولا مكان، وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف، ومعنى الارتفاع إليه اعتلاؤه مع تنـزيهه عن المكان.اهـ ثم قال الحافظ ابن حجر: الحديث الخامس حديث أبي ذر في قوله تعالى {والشمس تجري لمستقر لها} قال ابن المنير جميع الأحاديث في هذه الترجمة مطابقة لها إلا حديث ابن عباس فليس فيه إلا قوله [رب العرش] ومطابقته والله أعلم من جهة أنه نبه على بطلان قول من أثبت الجهة أخذا من قوله {ذي المعارج} ففهمَ أن العلو الفوقي مضاف إلى الله تعالى، فبين المصنف أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء والجهة التي يصدق عليها أنها عرش كل منهما مخلوق مربوب مُحدَث وقد كان الله قبل ذلك وغيره فحدثت هذه الأمكنة وقِدَمُه يُحيلُ وصفه بالتحيز فيها. والله أعلم.اهـ
وقال القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري: باب قول الله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه} أي إلى عرشه أو إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء لأنها محل بره وكرامته، وقوله جل ذكره {إليه يصعد الكلم الطيب} أي إلى محل القبول والرضا وكل ما اتصف بالقبول وصف بالرفعة والصعود.اهـ
قال الإمام الرازي في أساس التقديس: وأما قوله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه} فنقول ليس المراد من حرف “إلى” في قوله {اليه} المكان، بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده، ونظيره قوله تعالى {وإليه يرجع الأمر كله} والمراد انتهاء أهل الثواب إلى منازل العز والكرامة كقول إبراهيم {إني ذاهب إلى ربي سيهدين} ويكون هذا إشارة إلى أن دار الثواب أعلى الأمكنة وأرفعها بالنسبة إلى أكثر المخلوقات.اهـ
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرءان ما نصه {تعرج} أي تصعد في المعارج التي جعلها الله تعالى {إليه} أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء لأنها محل بِرّه وكرامته وقيل هو كقول إبراهيم {إني ذاهب إلى ربي سيهدين} أي إلى الموضع الذي أمرني به.اهـ ومثله قال العلامة أبو حيان في تفسيره البحر.اهـ
قال العلامة نظام الدين النيسابوري في تفسيره غرائب القرءان ورغائب الفرقان ما نصه: ولا استدلال لأهل التشبيه في لفظ المعارج، وقوله {إليه} إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العز والكرامة.اهـ
قال الإمام بدر الدين بن جماعة في إيضاح الدليل ما نصه: فإن قيل قصة المعراج تدل على الجهة والحيز. قلنا: قصة المعراج أريد بها والله أعلم أن يريه الله تعالى أنواع مخلوقاته وعجائب مصنوعاته في العالم العلوي والسفلي تكميلا لصفاته وتحقيقا لمشاهدته لآياته ولذلك قال تعالى {لنريه من ءاياتنا}. فإن قيل {إليه يصعد الكلم الطيب}. وهذا ظاهر في الجهة وكذلك قوله تعالى {تعرج الملائكة والروح إليه} وقوله {ثم يعرج إليه} الآية. قلنا: ليس المراد بالغاية هنا غاية المكان بل غاية انتهاء الأمور إليه كقوله تعالى {ألا إلى الله تصير الأمور}، {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا لـه} {وتوبوا إليه} وهو كثير فالمراد الانتهاء إلى ما أعده الله لعباده والملائكة من الثواب والكرامة والمنـزلة.اهـ
وفي شرح العقائد النسفية للشيخ سعد الدين التفتازاني [ولا يتمكن في مكان ولا يجري عليه زمان] لأن التمكن عبارة عن نفوذ بُعد في بـُعد ءاخر متوهم أو متحقق يسمونه المكان والـبُـعد عبارة عن امتداد قائم بالجسم أو بنفسه عند القائلين بوجود الخلاء و الله تعالى منـزه عن الإمتداد والمقدار لاستلزامه التجزؤ، وأما الدليل على عدم التحيز فهو أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزم قدم الحيز أو لا فيكون محلا للحوادث و كلا ذلك مستحيل، و أيضا إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهيا أو يزيد عليه فيكون متجزئا وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا علو ولا سفل ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء. اهـ