المطبخ في حضارة الإنسان مرآة للوضع الاقتصادي؛ فكلما مالت الحياة إلى البدائية والبساطة أثّر ذلك في مطاعم الناس، وكلما مالت الحياة إلى التعقيد تلوّنت موائدهم. ولقد كان طعام العرب في البادية مشابهًا لحياتهم البريّة جافًّا وقاسيًا، قليل التزويق والمعالجة خاليا من التعقيد، فقائمة طعام العربي في باديته ليست إلا إحصاء لما يحيط به من النباتات والحيوانات.
وفي هذا المقال؛ ندعو القارئ ليذوق معنا -بـ”لسان” عقله- طيبات ما وقفنا عليه من مطالعات فنون الطهي عند المسلمين، ندعوه إلى مائدة تضم ألوانًا من الأخبار والأفكار المتعلقة بالمطبخ العربي وتطوره عبر القرون، من أيام الجاهلية وصولًا إلى آخر ما طالعناه من كتب الطبيخ في القرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي.
مائدة فقيرة
عاشت أغلبية العرب في بيئة صحراوية مجدبة؛ ولذلك فإن غاية ما عرفوه من صنعة الطعام: “الثريدُ” وهو خبز يُفتّ ويبلّ بالمرق ويوضع فوقه اللحم؛ والشواء الذي منه ما يُشوى على الحطب والفحم، ومنه ما يُشوى على الحَجَر المُحْمَى بالنار، وهذا الأخير يسمونه “المَرْضوف”.
ومن ذلك طائفة من الوجبات التي تتشابه في بساطتها كما تتشابه في الصيغ الصرفية لأسمائها، حتى قال فيها أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) في كتابه ‘فقه اللغة وسرّ العربية‘: “وأطعمة العرب على [وزن] ‘فعيلة‘ كالسخينة والعصيدة.. والحريرة”؛ وكذلك الهريسة و”المَضيرة” وهي طبخ اللحم باللبن الماضِر أي الحامض.
وأما “الحَريرة” فيُعرِّفها مجد الدين ابن الأثير (ت 606هـ/1209م) -في ‘النهاية في غريب الحديث والأثر‘- قائلا: “الحريرة: الحَسا المطبوخ من الدقيق والدسم والماء؛ وقد تكرر ذكر الحريرة في أحاديث الأطعمة والأدوية”. وقد تطورت الحريرة مع التحضّر حتى أصبحت بصورتها الحالية التي يتفنن فيها المغاربة ويقدمونها على موائد إفطارهم الرمضانية.
ومن تلك الأطعمة البسيطة أيضا “الخَزِيرة”؛ وعن طريقة تحضيرها والفرق بينها وبين العصيدة يقول ابن منظور (ت 711هـ/1311م) في ‘لسان العرب‘: “الخزيرة والخزير: اللحم.. يُؤخذ فيُقطّع صغارا في القِدْر، ثم يُطبخ بالماء الكثير والملح، فإذا أُمِيَت طبْخاً ذُرَّ عليه الدقيق فعُصِد به، ثم أُدِم بأيّ إدام شِيءَ. ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم، فإذا لم يكن فيها لحم فهي عصيدة”.
ولم يكن العرب يعدلون باللحم شيئًا إذا توفروا عليه، ويرون أن تناوله مع غيره تطويلٌ لا موجب له؛ فقد جاء في ‘محاضرات الأدباء‘ للراغب الأصفهاني (ت 502هـ/1108م) أنه “قُدّم إلى أعرابي خبز عليه لحم، فأكل اللحم وترك الخبز وقال: خذوا الطبق”!
ويروي ابن قتيبة الدِّينَوري (ت 276هـ/889م) -في ‘عيون الأخبار‘- أنه “قيل لأعرابي: ما لكم تأكلون اللحم وتدعون الثريد؟ فقال: لأن اللحم ظاعن (= راحل) والثريد باقٍ”!! وكان أطيب اللحم لديهم ما اختلط بعظم، حتى قال قائلهم إن “أطيب اللحم عُوّذُه، أي أطيبه ما ولي العظم كأنه عاذ به”؛ كما يقول الدينوري.
طعام اضطراري
ثم اعلم أن ما قدمنا ذكره من الأطعمة ليس من القائمة المعتادة وإنما هو طعام الموسرين من الحضر ومَن أخصبَ من أهل البادية، فإذا أجدبوا فإنهم يأكلون كلّ ما دبَّ ودَرَج؛ ففي ‘عيون الأخبار‘ أيضا أن مدنيا سأل أعرابيًا: “ما تأكلون وما تدَعُون؟ قال الأعرابي: نأكل ما دبّ ودَرَج، إلا أم حُبَيْن (= الحِرْباء)”! يقال إن الجوع أطيب التوابل؛ ولذلك ففي حالة الجدب يأكل العربي ما تيسر له، حيث يكون تناول الطعام سبيلًا للنجاة لا مادة للتفكّه.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ولتكرر مواسم الجدب؛ اكتسب العربي عاداتٍ غذائية فريدة، أولاها المبادرة في اللقم؛ فالدينوري يروي أنه سُئل أعرابي: “ما تُسمُّون المرق؟ قال السَّخين، قيل له فإذا برد، قال لا نتركه يبرد”!
كما أنهم كانوا يستقبحون أطعمة أنَفَةً منهم، ومن ذلك مخّ الخروف؛ فقد “قيل لأعرابيّ أتُحسِن أن تأكل الرأس؟ فقال: نعم، أبخص (= أقتلِع) عينيه، وأسحي (= أقشّر) خديْه، وأفكّ لحييْه (= فكّيْه)، وأرمي بالدماغ إلى من هو أحوج مني إليه”!
فإن أدركتكَ شفقةً عليهم –عزيزي القارئ- فأبشّرك بأنهم لم يكونوا يشعرون بتعاستهم، لأنهم لم يعرفوا غيرها، وإنما تجري التعاسة مع المقارنة ووجود البديل.
وقد سُئل أحد بني أسد عن معيشتهم في البادية، فأجاب سائله جواب الراضي: “طعامنا أطيب طعام وأهنؤه وأمْرَؤه (= أطيبه)، الغثّ (= نوع من الخبز)، والهَبِيد (= حب الحنظل)، والفَطْس (= حبّ الآس)، والعَنْكَثُ (= نبات)…، والعِلْهِز (= دم الجمل ووبره المشوي)، والعراجين (= نوع من الكمأة)، والضِّباب (= جمع ضبّ)، واليرابيع والقنافذ والحيات؛ فما أرى أن أحدًا أحسن منا عيشًا وأرضى بالًا”!!
وقد وجد الشعوبيون من الفرس في هذا مطعنًا على العرب، حتى قال كاتبهم الوزير الساماني محمد بن أحمد الجَيْهاني (ت 375هـ/986م) إن العرب “يأكلون اليرابيع والضِّباب والجرذان والحيات..، وكأنهم قد سُلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أُهُبَ (= جلود) الخنازير، ولهذا كان كسرى يسمّي مَلِكَ العرب ‘سَكَان شاه‘، أي ملك الكلاب. وهذا لشبههم بالكلاب وجرائها والذئاب وأطلائها (= أولادها)”.
ردود مفحمة
وقد سطر لنا أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) ردًّا مُفحِمًا على صاحبنا الجيهانيّ الشُّعوبي؛ فقال: “أتُراه لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي الموامي كلُّ كسرى في الفرس، وكل قيصر في الروم، وكل بَلَهْوَر (= لقب ملوك الهند) كان بالهند، وكل خاقان (= لقب ملوك الترك) بالترك، ما كانوا يعدون هذه الأحوال، لأنه من جاع أكل ما وجد، وطعِم ما لحق، وشرب ما قدر عليه، حبًا للحياة وطلبًا للبقاء، وجزعًا من الموت وهربًا من الفناء…؛ أترى [كسرى] أنوشروان (ت 579م) إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبَرّ وَبَارٍ (= قبيلة يمنية) وسفوح طيبة ورمْل يَبْرين..، وجاع وعطش وعري، أما كان يأكل اليربوع والجرذان، وما كان يشرب بول الجمل.. وما أسِنَ في تلك الوهْدات؟!”؛ قلنا: بلى والله!
وقد سبق أبا حيان وعيُ بعض الأعراب بالزمن الحضاري في الجواب على هذه المقولات؛ ففي ‘أدب الكاتب‘ لأبي بكر الصولي (ت 339هـ/950م) خبر مناظرة بين فارسيّ وعربيّ عند الوزير العباسي الفارسي يحيى بن خالد البَرْمَكي (ت 190هـ/806م)، حيث يقول الفارسيّ: “ما احتجنا إليكم قطُّ في عمل ولا تسمية، ولقد ملكْتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم، حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم وما فيها على ما سمّينا، ما غيرتموه! فقال الأعرابي: اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة بعد ألف سنة كانت قبلها، [فإننا بعدها] لا نحتاج إليكم ولا إلى شيء كان لكم”!
ومع ذلك كله كان العربيّ عنيدًا كعادته في الدفاع عن ذائقته في الطعام، لا يعدم حيلة في الذبّ عنها؛ فقد حكى الدِّينَوَري أنه “أُدخِل أعرابي على كسرى ليتعجب من جفائه وجهله، فقال: له أي شيء أطيب لحمًا؟ فقال: الجمل..، فقال كسرى: كيف يكون الجمل أطيب من البَطّ والدجاج والفِراخ والدُّرّاج (= نوع من الطيور) والجِداء (= جمع جَدْي)؟ فقال الأعرابي: يُطبخ لحم الجمل بماء وملح، ويُطبخ ما ذكرتَ بماء وملح؛ حتى يُعرف فضل ما بين الطعمين”! وأنت إذا أكلت لحم الجمل بانت لك حجة صاحبنا الأعرابيّ، فإنه من أطيب اللحوم ويستقلُّ بنفسه عن التوابل والمطيبات.
وقد يلين مزاج العربيّ فيُفيد من زيارته لقصور الملوك، ويعود لقومه بوصفة طيّبة كحلوى “الفالوذَج”؛ فأول من نقلها إلى العرب -بعد أن تناولها على مائدة كسرى- الزعيم القرشي عبد الله بن جدعان (ت 592م)، فأخذ معه غلامًا من الفرس ليصنعها له في مكة فكان يعدّها ويدعو الناس إليها. وقد حفظ لنا وصفتها الشاعر أمية بن أبي الصلت (ت 5هـ/627م) في قوله في شعره إنها “لُباب البُرّ يُلْبَك بالشِّهاد”؛ فهي بُرّ يُخلط به العسل.
بيد أنه لم يكن يتقدم التمرَ عندهم شيءٌ من الحلويات لأنه لا توجد حلوى تتجاوز البطن وتصل إلى الكعب سواه، قال بعضهم: “تمرنا جرد فطس، يغيب فيه الضرس، كأن نواه ألسنة الطير، تضع الثمرة في فيك فتجد حلاوتها في كعبيْك”!
وقد بقيت هذه العقيدة الذوقية لدى الأعراب راسخة لا يزحزحها شيء؛ ففي ‘عيون الأخبار‘ عن الإمام اللغوي أبي عمرو بن العَلاء البصري (ت 158هـ/776م) أن الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م) قال “لجُلّاسه: ليكتب كل رجل في رقعة أحب الطعام إليه، ويجعله تحت مصلّاي (= سجادتي)؛ فإذا في الرقاع كلّها: الزبد بالتمر”!
وكان الإصرار على أكل بعض ألوان الطعام واعتيادها يوجب سخرية من أصحابها، وقد تشتهر قبيلة بأكلة فتعيَّر بها؛ فقد كانت قبيلة مُجاشع بن دارم تعاب بـ”الخَزيرة”، وهي -كما سبق ذكره- حَساء من لحم ودقيق، كما عُيّرت قريش بـ”السخينة” (= نوع من الحساء) حتى هجاهم حسان بن ثابت (ت 50هـ/671م) بقوله: زعمتْ سخينةُ أنْ ستَغلِب ربَّها ** ولَيُغْلَبَنّ مُغالِبُ الغَلّابِ!
نباتي فريد
لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم مولعًا بالطعام لكنه كان يستحسن بعض ألوانه كالدُّبّاء (= القرع)، فيما أخبر عنه أنس بن مالك (ت 93هـ/713م) رضي الله عنه؛ وكان يحب البطيخ والرُّطَب وربما جمع بينهما. فقد نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ/1448م) -في ‘فتح الباري‘ بسند وصفه بالضعف وعزاه لأبي نعيم الأصفهاني (ت 430هـ/1040م)- حديث أنس أن النبي ﷺ “كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه”.
وذهب ابن حجر إلى أن البطيخ المقصود في الحديث هو البطيخ الأصفر المسمى في الحجاز “الخِرْبِزَ”، وليس البطيخ الأخضر. ويرجّح هذا الذي ذهب إليه ما رواه أحمد (ت 241هـ/855م) -في مسنده- عن أنس رضي الله عنه بإسناد صحيح قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرطب والخِرْبِزَ”.
ويفيدنا الجاحظ (ت 255هـ/869م) بأن تسمية “الخِرْبِزَ” فارسية الأصل؛ فيقول -في ‘البيان والتبيين‘- إن “أهل المدينة لما نزل فيهم ناسٌ من الفُرس -في قديم الدهر- علقوا بألفاظ من ألفاظهم؛ ولذلك يسمون البطيخَ: الخِرْبِزَ”.
ولم يكن الطعام لديهم لسدّ الجوع والتفكّه فحسب، وإنما يدخل في بعض المعالجات الطبية والتجميلية، فربما استخدموا التمر مع بعض الثمار الأخرى لأغراض تسمين البنات، إذ كان من قواعدهم ما حكاه الإمام عامر الشَّعبي (ت 103هـ/722م) من أن “حلي النساء الشحم”؛ وفقا لياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) في ‘معجم الأدباء‘.
ولذا أخرج الإمام ابن ماجه (ت 273هـ/886م) عن أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ/679م) أنها قالت: “أرادت أمي [أن] تعالجني للسُّمنة لتُدخلني على النبي صلى الله عليه وسلم، فما استقام لها ذلك حتى أكلتُ الرطب بالقُـثّاء، فسمنتُ كأحسن سُمْنة”.
وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم سيرة العرب الأولى فلم يتكثّروا من الطعام، ولم يتفننوا في الطبيخ، وإنما كانوا يألفون ما يعتادونه؛ فالدينوري يروي عن أنس بن مالك أنه قال: “رأيت عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) يُلقى إليه الصاع من التمر فيأكله حتى حشفه”، أي رديئه. وفي ‘الطبقات الكبرى‘ لابن سعد (ت 230هـ/845م) عن عبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م): “رأيتُ عمرَ يتحلّب فُوه (= يسيل ريقه) فقلت له: ما شأنك؟ فقال: أشتهي جرادًا مَقليًّا”!
ووجدنا عند بعض أعلامهم برنامجًا غذائيًا خاصًا بهم؛ ففي كتاب ‘البخلاء‘ للجاحظ أن سيّد بني العنبر في الجاهلية عبد الله بن حبيب العنبري كان يقال له “آكل الخبز”، وعلَّلوا ذلك بأنه “كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن”. ومثله الصحابي عبد الله بن عبد الملك الغفاري (ت 8هـ/630م) الذي كان يُسمّى “آبي اللحم لأنه كان.. لا يأكل اللحمَ”، وهو أول من عرفناه من النباتيين العرب، فلم يكن يأكل اللحم كما يشير إلى ذلك اسمه.
قفزة الفتوح
كان للفتوح الإسلامية لبلاد الشام والعراق وما تبعها من احتكاك بالحضارات القديمة أثر كبير على ثقافة الطعام وطرق الطبيخ لدى العرب؛ فقد فتح العربي فمه -بعد فتحه لهذه الأمصار- ليطعم من طيبات ما فيها، وأخذت تتنامى ظاهرة جديدة هي الشَّرَه في الطعام.
ويرصد لنا كمال الدين الدَّمِيري (ت 808هـ/1405م) -في ‘حياة الحيوان الكبرى‘- هذه الحركة في عصر بني أمية فيقول: “لقد أخذوا بأطراف الحضارة منذ أيام بني أمية، وأولُ من قلّد الأعاجم بأسباب الترف والنعيم معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م)، فقد تنعّم فيما تنعم بمأكله ومشربه.. واحتذى به خلفاؤه من بعده”.
ونقل لنا المسعودي (ت 346هـ/957م) -في ‘مروج الذهب‘- عددَ وجبات أول ملوك بني أمية فقال: “كان معاوية يأكل في كل يوم خمس أكلات وآخرهن أغلظهن، ثم يقول يا غلام ارفع، فوالله ما شبعت ولكن مللت”!
ويزيد الإمام المحدّث ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- عدد وجبات معاوية بقوله إنه “لمّا صار إلى الشام أميرا كان يأكل في اليوم سبع مرات، يُجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا، ويقول: والله ما أشبع وإنما أعيا”! ثم يعلق الإمام قائلا: “وهذه نعمة ومَعِدة يرغب فيها كل الملوك”!!
وقد كانت لمعاوية قصص طريفة مع شهيته المفتوحة وضيوفه؛ فمن ذلك ما يحكيه الجاحظ -في ‘البخلاء‘- من أن معاوية كان يحب القبة (= الكبّة الأكلة السورية المعروفة)، وتغدى معه ذات يوم صَعْصَعَة بن صُوحان (ت 60هـ/681م) فتناولها من بين يديْ معاوية، فقال معاوية: إنك لبعيد النُّجْعة (= طلب الكلأ)، فقال صعصعة: من أجدب انتجع”!
وقد أورثت هذه الشهية ضررًا بصاحبها وغيّرت في رسوم الأمراء؛ فكان معاوية أول من يخطب جالسًا لزيادة وزنه، كما أنه أول من استحضر الأطباء على مائدته للإشراف الطبي عليها وتقديم المشورة الصحية، فكان طبيبه الخاص يقف بين يديه ويعاين الطعام وينهاه عمّا فيه مضرة له، ولكن شهية أمير المؤمنين لم تكن تحبّ الالتزام بالتعليمات الطبية باستمرار.
شهية مفتوحة
يروي أبو الفرَج المُعافَى بن زكريا النَّهْرَواني (ت 390هـ/1001م) -في ‘الجليس الصالح الكافي‘- أنه “حجَّ معاوية وكان عامله على المدينة مروان (بن الحَكَم المتوفى 65هـ/686م)؛ فلما ورد المدينة هيأ له مروان طعاماً فأكثر وجوّده، فلما حضر الغداء جاء متطببٌ نصراني لمعاوية فوقف وجعل إذا أتى لونٌ قال: كُلْ يا أمير المؤمنين من هذا، وإذا أتى لونٌ ظن أنه لا يوافقه، قال: لا تأكل من هذا.
فلما كان في بعض غدائهم، أقبل زنجيان مؤتزران بربطتين بيضاويْن يَدْلَحانِ (= يمشيان متثاقليْن) بجفنةٍ لها أربع حلقات مترعةً حيساً، فلما رآها معاوية استشرف (= تطلّع) لها وحسر عن ذراعيه، فقال له الطبيب: أي شيءٍ تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد والله أن أواقع ما ترى، قال الطبيب: أمزق ثيابي!
فقال معاوية: ولو مزقت بطنك، فجعل.. يقذف في جوفه حتى إذا نهل، قال: يا مروان! ما حَيْسُكم هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، عَجْوةٌ ناعمة، وإقَطَةٌ مُزَنِية، وسَمْنةٌ جُهَنية، قال: هذه والله الأشْفية (= جمع شِفاء) جُمعت، لا كما يقول هذا النصراني”!! وكان هذا حنينًا من معاوية إلى طعامه الذي ألفه في شبابه، ونوعا من نوستالجيا العربي بعد أن ملّ من ألوان الطبيخ الرومي في دمشق!
وكان من أعلام “الأَكَلة في صدر الإسلام” -كما سماهم المسعودي في ‘مروج الذهب- كلٌّ من الخليفتين: سليمان بن عبد الملك (ت 99هـ/719م) وهشام بن عبد الملك (ت 125هـ/744م)، والوالييْن: عُبيد الله بن زياد (ت 67هـ/687م) والحجاج بن يوسف.
وكان أعتاهم في ذلك سليمان بن عبد الملك؛ فقد ذكر الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ترجمته له في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه “كان من الأكَلة حتى قيل إنه أكل مرة أربعين دجاجة، وقيل أكل مرة خروفا وست دجاجات وسبعين رمانة، ثم أتِي بمَكُّوكِ (= مِكيال) زبيبٍ طائفي فأكله”!! وفي ‘ربيع الأبرار‘ للزمخشري (ت 538هـ/1143م): “كان سليمان بن عبد الملك ثعباني الالتهام لقماني الالتقام، على أن جميع المروانية كانوا أمثالا في الأكل”!!
وربما نكّد عليه بعض ضيوفه خلوته بطعامه؛ ففي ‘العقد الفريد‘ لابن عبد ربه (ت 328هـ/940م): “نزل أعرابي على سليمان بن عبد الملك وأخذ يأكل معه، فلما جاء الفالوذج أخذ يُسرع فيه، فقال سليمان: أتدري ما تأكل يا أعرابي؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، إني لأجد ريقًا هنيًا ومُزْدَرَدًا (= ابتلاعا) لينًا، وأظنه الصراط المستقيم الذي ذكره الله في كتابه”! وقد مات سليمان هذا بالتخمة فيما يقال.
اقتباس حضاري
أما ما استفاده المطبخ العربي من الانفتاح على الحضارتين الرومانية والفارسية؛ فيلخصه لنا ما يرويه الدينوري عن الأصمعي (ت 216هـ/831م) حاكيا لنا حكم شيخ عربي كان متورطا في مفاضلة ذوقيّة بين مطبخ فارس ومطبخ الروم؛ فيقول: “اختصم رومي وفارسي في الطعام فحكّما بينهما شيخًا قد أكل طعام الخلفاء، فقال: أما الرومي فذهب بالحشْو والأحشاء، وأما الفارسي فذهبَ بالبارد والحلواء”!
ومن هذا يتحصل لدينا أن المطبخ الشامي متأثر بالرومي في كببه ومحاشيه، وأما الحلوى والبارد فهما إرث فارسي. ولذلك تجد معجم الحلويات العربي مليئا بالكلمات الفارسية؛ مثل: الجُلَّاب (بالجيم المصرية) وهو الورد المعقود بالسكر، واللَّوْزِينَجُ (= حلوى كالقطائف تُحشى بدُهن اللوز)، والخُشْكَنان وهو كعك من خالص الحنطة يُحشَى بالسكر والجوز أو اللوز.
وينقل ابن الفقيه الهَمَداني (ت 365هـ/977م) -في ‘كتاب البلدان‘- عن الإمام الشَّعبي ما يفيد بتوزع مهارات الطبخ بين مدن خراسان وفارس؛ ولذلك كان أهل هِرات “أحذق الناس بألوان الطبخ”، وعُرف سكان مَرْو بأنهم “أجود الناس خبزا ولهم ضروب منه لا توجد في غير بلدهم”، وأما أهل أصبهان “فهم أحذق الناس باتخاذ الحلوى”!
وبأخذه من تلك الروافد الحضارية الفارسية والرومية؛ انتقل المطبخ العربي نقلة نوعية مع خلافة العباسيين ليشهد أوج تميّزه وتفننه، ولئن كانت علاقة الأمويين مع الطعام علاقة المنهوم المقبل على ما لم يعهده لبساطة البيئة التي جاؤوا منها، فإن سلوك العباسيين كان أكثر تركيبًا مع محافظتهم على قوة الشهيّة.
فقد توجّه خلفاء بني هاشم إلى مقاربة الطعام مقاربة طبيّة بعد أن رأوا مصارع سليمان بن عبد الملك والأكَلة من بني مروان، وحفظوا قول الطبيب اليوناني جالينوس (ت 210م): “إن العلم بقُوى الأغذية قريب من أن يكون أنفع علوم الطب كلها”.
وهكذا أخذوا يستكتبون الأطباء ليضعوا تصانيف في صناعة الطعام ومنافعها الصحية وآداب تناولها؛ فقد ذكر النديم (ت 384هـ/995م) -في ‘الفهرست‘- عناوين 12 مؤلفا من كتب الطبخ، وأشار إلى أن هذا النوع من الكتب أُلِّف في القرنين الثاني والثالث إجابة لرغبة بعض الخلفاء، لفهم علاقة الأغذية بصحة الجسم.
خبرة موثَّقة
ومن أوائل الكتب الشاملة التي تناولت هذا الموضوع كتاب ‘منافع الأغذية ودفع مضارها‘ لأبي بكر الرازي (ت 311هـ/923م)، الذي لم يكن راضيًا عن إنتاج كلّ مَن سبقه مِن المؤلفين في هذا الباب، فانتقد الكتب المؤسسة له مثل كتابٍ “عمِلَه الفاضل جالينوس، فإنه سها وغلط في كثير من كتابه”.
وقد سبقه كتاب الطبيخ لابن ماسَوَيْه الصيدلاني (ت 243هـ/857م) ولكنه كان كتابًا تقليديًا لم يتجاوز عقلية الناقل الحافظ لما وجده من كتب يونان، فعرّض به الرازي في كتابه الذي أشرنا إليه آنفًا.
وفي القرن الرابع الهجري/الـ10 الميلادي؛ ألّف ابن سيّار الوراق (ت 368هـ/979م) كتابه المسمى ‘كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استُخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب‘؛ وقد وصلنا وطُبع.
ثم جاءت من بعد ذلك مجموعة صالحة من كتب هذا الفن ككتاب ابن جَزْلة البغدادي (ت 493هـ/1100م) ‘منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان‘ (مطبوع)، وهو كتاب في الطب يتناول خصائص الطعام؛ و‘منهاج الدكان ودستور الأعيان في أعمال وتراكيب الأدوية النافعة‘ لابن أبي نصر العطار اليهودي (القرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي).
وفي القرن نفسه؛ نجد عالم النبات ابن البيطار الأندلسي (ت 646هـ/1248م) يصنّف كتابه ‘الجامع لمفردات الأدوية والأغذية‘ (مطبوع)، وهو معجم طبي علاجي احتوى على 1400 مادة غذائية ودوائية.
وأما قواعد ترتيب المائدة وآداب الجلوس إليها فقد تنوعت الكتابات فيها بتفصيل يدعو إلى العجب، ويكفينا أن بدر الدين الغَزِّي (ت 984هـ/1576م) خصص كتابه ‘آداب المواكلة‘ لباب واحد منها هو “خروق الإتيكيت” التي ينبغي للآكلين تجنبها على المائدة؛ إذ ضمَّنه “جملة من العيوب التي من علمها كان خبيرا بآداب المؤاكلة، وعدتها أحد وثمانون عيبا”!!
حاضنة فنية
وقد فات ابن النديم أن يشير إلى أن المؤلفين في فن الطبيخ كانوا يتعاملون معه تعاملا فنيًا، لاشتغال كثير من مؤلفيه بالفنون الجميلة، وهذا ما نجده عند سرد أسمائهم؛ فهذا ‘كتاب الطبيخ‘ للحارث بن بُسْخُنَّر (ت بعد 170هـ/786م) وهو من مغني الخليفة العباسي هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)، و‘كتاب الطبيخ‘ للأديب علي بن يحيى المنجِّم (ت 215هـ/830م).
وكذلك ‘كتاب الطبيخ‘ لإبراهيم بن المهدي (223هـ/838م) وهو أخو هارون الرشيد لأبيه وكان من كبار الموسيقيين، و‘كتاب الطبيخ‘ لإبراهيم الصُّولي الكاتب والشاعر (243هـ/857م)، وكتابا ‘الطبيخ‘ و‘فضائل السِّكْبَاج‘ (= لحم يُطبخ بالخلّ والتوابل) كلاهما لجَحْظة البَرْمَكي (ت 324هـ/936م) وهو شاعر ومغنٍّ.
وقد بلغ الترف والسرف غايتهما في الموائد وإعداد الطعام أيام حكم بني العباس؛ فكانت نفقة بعضهم على مطبخه تقارب ميزانية بعض وزاراتنا العربية اليوم، حيث كانت “قائمة الطعام” (منيو – Menu) لدى الرشيد تشتمل على ثلاثين لونًا من الطعام في اليوم الواحد، وكان ينفق عليها يوميا 10 آلاف درهم (= اليوم 12000 دولار أميركي تقريبا)؛ حسبما ذكره المسعودي في ‘مروج الذهب‘.
ولما تزوج الرشيد ابنة عمه زُبيدة بنت جعفر (ت 216هـ/831م)؛ أنفق خمسة وخمسين مليون درهم (= اليوم 68 مليون دولار أميركي تقريبا) على وليمة العرس؛ كما يقول قاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) في ‘وفيات الأعيان‘.
وكانت نفقة ابنه الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م) اليومية ستة آلاف دينار (= اليوم مليون دولار أميركي تقريبا) ينفق منها مبلغًا كبيرا على مطابخه، ويكفي أن تعرف أن مائدته ربما احتوت على 300 نوع من الطعام!!
تفنُّن واسع
فقد نقل مؤرخ الخلفاء العباسيين ابن طَيْفُور المَرْوَزي (ت 280هـ/893م) -في تاريخه ‘كتاب بغداد‘- شهادة عالم بغدادي اسمه جعفر بن محمد الأنماطي (ت بعد 218هـ/833م) قال إنه تغدى يوما مع المأمون بحضرة عشرات من العلماء دعاهم المأمون إلى مجلسه ومائدته.
ووصف الأنماطي هذا مائدة المأمون قائلا: “فظننتُ أنه وُضع على المائدة أكثر من ثلاثمئة لون، فكلما وُضع لون نظر المأمون إليه فقال: هذا يصلح لكذا وهذا نافع لكذا”!! وابن طيفور هذا يصفه الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- بأنه “من أهل الفهم المذكورين بالعلم”.
وينقل لنا مؤلف ‘الرسالة البغدادية‘ صورة واضحة وشاعريّة لموائد بغداد في القرن الرابع الهجري؛ فيقول: “فنرى الرغيف الذي رُشّت عليه الحبة السوداء حتى أصبح كالبدر منقطًا بالنجوم، واللقمة منه تُبلغ القلبَ مُنى شهوته، والجبن الذي تدمع عين آكله من حرافته كأنه فارق أحبابه، والجوز الذي طعمه أحلى وألذّ من العافية في البدن، والمائدة التي كأنها عروس مجليّة”.
وقد صرتُ -بعد قراءة هذا الوصف- ألتمس العذر لوالي البصرة ابن دِهْقانة العباسي (القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي) في قوله الذي أورده الشابُشْتي (ت 388هـ/999م) في كتابه ‘الدِّيارات‘: “قد أكَلتُ حتى زَمِنْتُ (= ضعفتُ)، وأريد [أن] آكل حتى أموت”!
وعلى سعة الخيارات كان اختلاف الأذواق؛ فوجدنا المأمون يميل إلى لحم الغنم، وقد قال يوماً لكاتبه الحسن بن سهْل (ت 236هـ/850م): نظرتُ في اللذات فوجدتها كلها مملولة خلا سبعة؛ قال الحسن: وما السبعة يا أمير المؤمنين؟ قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد…” إلخ؛ وفقا للإمام الطرطوشي المالكي (ت 520هـ/1126م) في ‘سراج الملوك‘.
وكان المأمون متشبعًا بثقافة الطعام وخصائصه الصحية كما مرّ في خبر الأنماطي، وكان خبيرا بالأوقات المناسبة لتناول أصنافه؛ قال ابن طيفور: “بلغني أن المأمون قال لأبي كامل الطباخ يوماً..: اتخذ لنا رؤوس حملان تكون غداءنا غداً…، وقال: إن من آيين (= قواعد تناولها) الرؤوس أن تؤكل في الشتاء خاصة، وأن يُبكِّر آكلها عليها، وألا يُخلط بها غيرها، ولا يُستعمل بعقبها الماء”.
ذوق خاص
ويبدو أن المأمون كان مختلفًا عن أسرته وذوق الطبقة المترفة بتفضيله للحم الغنم؛ فالجاحظ يقول -في ‘الحيوان‘- إن “ملوكنا [العباسيين] وأهل العيش منا لا يرغبون في شيء من اللُّحْمان رغبتهم في الدجاج..، وهم يأكلون الرواعي كما يأكلون المسمَّنات”.
ثم علَّلَ الجاحظ رغبتَهم في الدجاج بكونها “أكثر اللحوم تصرُّفا لأنها تطيب شواء.. وتطيب طبيخا”، فهي تدخل في وصفات مطبخية كثيرة.
وقد بالغوا في استجادة الدجاج واستطعامه، حتى إن فراريجهم كانت “تُعلَف الجوزَ المقشَّر وتُسقى اللبنَ الحليب” ليكون ذلك زيادة في جودة لحمها؛ كما يخبرنا ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ/1269م) في ‘طبقات الأطباء‘.
ولم يكن بعض الوزراء يحتكر لذة الطعام دون الناس؛ فكان بعضهم يستلذّ بإطعامه كما يلتذّ بتناوله. ولذا نقل أبو إسحق الصابئ (ت 384هـ/995م) -في ‘كتاب الوزراء‘- أن الوزير العباسي ابن الفُرات (ت 327هـ/939م) كان عنده مطبخان أحدهما للخاصة والآخر للعامة، ويقدَّم للأخير تسعون رأسًا من الغنم وثلاثون جديًا ومئات الدجاج.
ونقل الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن ملِك فارس عمرو بن الليث الصَّفّار (ت 289هـ/902م) قوله: “كان مطبخي يُحمل على ستمئة جمل”! وأما أخوه -الذي تولى المملكة قبله- يعقوب بن ليث الصفّار (ت 256هـ/870م) فكانت القُدُور في مطبخه تتسع إحداها لأربع من الماعز!
ومن طقوس الطعام التي تفنن فيها ملوك بني العباس إجراؤهم لمسابقات الطبيخ ومشاركتهم فيها أحيانا، ويحكي لنا المسعودي (ت 346هـ/957م) -في ‘مروج الذهب‘- مسابقة طريفة في ذلك كان من المشاركين فيها المأمون وولي عهده المعتصم (ت 227هـ/842م).
سرّ عريق
وقد يشتهي أحدنا “طعام الشوارع” (STREET FOOD) ويرى له مزيّة على طبخ البيت أو المطعم مع ورود مخاطر عدم النظافة فيه، لكنْ ثمة سرٌّ في أكل الشوارع قديم لم نهتدِ إليه منذ أيام المتوكل (ت 247هـ/861م) وإلى اليوم.
فقد روى المسعودي عن الوزير العباسي الفتح بن خاقان (ت 247هـ/861م) أنه قال: “كنت عند المتوكل وقد عزم على الصبوح بالجعفري (= أحد قصوره)، وقد وَجَّه خلف الندماء والمغنين، قال: فجعلنا نطوف وهو متكئ علي وأنا أحادثه، حتى وصلنا إلى موضع يشرف منه على الخليج، فدعا بكرسي فقعد عليه وأقبل يحادثني، إذْ بصُر بسفينة مشدودة بالقُرْب من شاطئ الخليج، ومَلّاح بين يديه قدر كبيرة يطبخ فيها سِكْبَاجاً من لحم بقر، وقد فاحت روائحها، فقال: يا فتحُ، رائحة قِدر سكباج واللّه! ويحك، أما ترى ما أطيب رائحتها! عليَّ بها على حالها.
فبادر الفراشون فانتزعوها من بين يدي الملاحين..، وجاءوا المتوكل بالقدر تفور كهيئتها، فوُضعت بين أيدينا، فاستطاب ريحها واستحسن لونها، ودعا برغيف فكسر منه كسرة ودفعها إليَّ، وأخذ هو منه مثلها، وأكَل كل واحد منا ثلاث لُقم، وأقبل الندماء والمغنون، فجعل يلقم كل واحد منهم لقمة من القدر، وأقبل الطعام ووُضعت الموائد.
فلما فرغ [المتوكل] من أكله أمر بتلك القدر ففرغت وغُسلت بين يديه، وأمر أن تُملأ دراهم، فجيء بَبَدرة (= ألف دينار ذهبي/عشرة آلاف درهم فضي) ففُرغت فيها، فَفَضَلَ من الدراهم مقدار ألفيْ درهم، فقال لخادم كان بين يديه: خذ هذه القدر فامض بها حتى تدفعها لأصحاب السفينة، وقل لهم: هذا ثمن ما أكلنا من قدركم، وادفع إلى مَنْ طبخها ما فضل من هذه البَدْرَة منِ الدراهم هِبَةً له على تجويده طبخها. قال الفتح: فكان المتوكل كثيراً ما يقول إذا ذُكر قِدر الملّاح: ما أكلتُ أحسن من سكباج أصحاب السفينة في ذلك اليوم”!!
ويخبرنا المسعودي أيضا أن الخليفة العباسي المستكفي (ت 338هـ/949م) جلس يومًا فجعل “قائمة طعام” (منيو – Menu) مائدته ما يرد في محفوظ جلسائه من أوصاف الطعام في الشعر، وقال: “هاتوا، ما الذي أعَدَّه كل واحد منكم” من أنواع الأطعمة المفضلة عنده؟ فليس نأكل اليوم إلا ما تصفون؛ فوُصفت له كوامخ (= نوع من الإدام) من شعر ابن المعتز (ت 296هـ/907م)، و”سلّة بَوارِد” (= بُقول تطبخ بمواد حامضة) من شعر أبي الفتح الرملي المعروف بـ‘كَشاجم‘ (ت 360هـ/971م)، وسنبوسج (أو السنبوسك/ السنبوسق = السنبوسة) من شعر لإسحق إبراهيم الموصلي (ت 235هـ/849م).
وقد جدّت أمور أيام العباسيين في المطبخ وتنوّعت المواد المحضّرة للأكل، مثل زيت النارجيل الذي كان يطيّب به الأرز؛ كما يفيدنا الثعالبي (ت 429هـ/1039م) في ‘يتيمة الدهر‘. ويصف لنا ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) -في رحلته- طريقة استخراج هذا الزيت؛ فيقول إن أصحابها “يأخذون النارجيل بعد نضوجه وسقوطه من شجره فيزيلون قشره ويقطعونه قطعا ويُجعل في الشمس، فإذا ذبُل طبخوه في القدور واستخرجوا زيته”.
نظافة غذائية
وقد اهتموا ببيئة صنع الطعام ونظافة العاملين فيها؛ فأوجبوا على الطباخ قص أظافره وغسل يديه على الدوام، وغسل قدوره مرات حتى بلغ الحال ببعضهم ألا يرى الطبخ في قِدر الفخار مرتين، ويرى استبدالها كل يوم لتنقيتها من رواسب الطعام المفسدة للطبخ والضارة بالصحة؛ كما يقول ابن سَيّار في ‘كتاب الطبيخ‘. وحكى علاء الدين الغُزولي (ت 815هـ/1412م) -في ‘مطالع البدور‘- أن أحدهم كان يطيل غسل يده ويقول: “حُكم اليد أن يكون زمانُ غسلها بمقدار زمان أكلها”.
وموضوع النظافة ينقلنا إلى الهيئة الرسمية التي كانت تخصَّص لمراقبة الجودة والنظافة في أسواق المسلمين وهي جهاز “الحِسْبة”، فكان من فروعها قسم مختص بمراقبة الصناعات الغذائية لحماية صحة المستهلكين بعد أن أوجب العلماء أن “يكون على الخبّازين والطباخين محتسِب”؛ كما يقول الإمام ابن القَيِّم (ت 751هـ/1350م) في ‘إعلام الموَّقِّعين عن رب العالمين‘. ولذا نجد في كتب “المحتسِبين” تفاصيل وافية عن أحوال المطاعم العامة وأفران الخبز التي يطعم منها عوام الناس.
ومن هؤلاء المحتسبين جلال الدين الشَّيْزَري الشافعي (ت 590هـ/1194م) الذي تولى رئاسة الحِسْبة في وقته، وكتب كتابه الماتع ‘نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة‘، الذي يضعنا في قلب أسواق الشام في القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي وخاصة المطاعم، إذ خصص قرابة نصف أبواب الكتاب (15 بابا) لأصحاب المهن المرتبطة بالطعام صناعةً وتمويناً.
يذكر لنا الشيزري شروط الجودة والنظافة لدى الخبازين فيقول: “ينبغي أن تُرفع سقائف حوانيتهم، ويُجعل في سقوف الأفران مَنافِس (= مداخن) واسعة يخرج منها الدخان لئلا يتضرر بذلك المسلمون، وإذا فرغ الخبّاز من إحمائه مسح داخل التنور بخرقة نظيفة..، ويأمرهم المحتسِب بنظافة أوعية الماء وتغطيتها، وغسيل المعاجن ونظافتها، وما يغطى به الخبز، وما يُحمل عليه”.
ويضيف أنه من لوازم نظافة الطعام وإكرامه أن “لا يعجن العجّان بقدميه ولا بركبتيه ولا بمرفقيه لأن في ذلك مهانة للطعام، وربما قطر من عرقه.. فلا يعجن إلا وعليه مِلْعَبَةٌ (= ثوب بلا كُمٍّ) أو بِشْتٌ (= عباءة صوف) مقطوع الأكمام، ويكون ملثّمًا (= يلبس كمّامة) لأنه ربما عطس أو تكلم فسقط شيء من بصاقه في العجين، ويشدّ على جبينه عصابة بيضاء لئلا يعرق فيسقط شيء منه في العجين، ويحلق شعر ذراعيه لئلا يسقط منه شيء في العجين…”.
رقابة دقيقة
وقد كانت الرقابة دقيقة على المطاعم فشملت مكافحة أنواع الغش في الغذاء، وفرض إجراءات نظافة صارمة للأواني التي يحضّر فيها الطعام، ونظافة صانعه، وسلامة المواد والمكونات من الغش والخلط، وتخصيص الأفران والتنانير لكل نوع من الطعام، فلا يخبز الخبز في تنور يُشوى فيه السمك، وأوجبوا تغيير زيت القلي.
كما فرض مسؤولو جهاز الحسبة على الخبازين الذين يوفرون خدمة “توصيل الخبز” إلى المنازل (Delivery) أن “يكون غلمانهم وأجراؤهم صبيانا دون البلوغ، لأنهم يدخلون بيوت الناس وعلى نسائهم”؛ وفقا للشيزري.
ويظهر لنا من كتاب الشيزري أن عموم الأطعمة -من خبز وحلويات ولحوم ونحوها- كانت تباع بالوزن، ولذلك كانوا يشدّدون الرقابة على دقة الموازين؛ ففي باب الحسبة على الشوائين يقول: “ينبغي على المحتسب أن يزن عليهم الحملان قبل إنزالها [في] التنور ويكتبها في دفتره، ثم يعيدها إلى الوزن بعد إخراجها، فإن كان الشواء قد نقص منه الثلث فقد تناهى نضجه..، ويعتبره (= يختبره) عند وزنه وهو لحمٌ لئلا يُخْفوا فيه صنج الحديد وثقاقيل الرصاص، وعلامة نضج الشواء أن يجذب الكتف بسرعة فإن جاءت فقد انتهى في النضج، وأيضًا يُشقّ الوَرِكَ فإن ظهر فيه عروق حمر ونزل منها ماء اللحم فهو نيْءٌ”.
وينبّه الشيزريُّ المحتسِبين إلى ضرورة منع أصحاب المطاعم من الخلط في طبخ اللحوم “فلا تُطبخ لحوم الضأن ولا لحوم الإبل مع لحوم البقر، لئلا يأكلها ناقِهٌ (= متماثل للشفاء) من المرض فتكون سببًا لنكسه (= انتكاس صحته)”.
كما يرشدهم إلى أساليب غش صنّاع النقانق الذين يخلطون اللحم بالكلى والبصل والتوابل، “ومنهم من يحشو السنبوسك بلحوم السمك المشوية والتوابل، ومنهم من يغشها بالباقلا.. المقشور وبياض البصل. ويُعرف جميع ذلك بأن يشق [المحتسب] النقانق قبل قليها، فيظهر ما فيها للعين”.
غش كيميائي
ويشير الشيزري إلى نوع متقدّم من الغشّ تدخل فيه صنعة الكيمياء الغذائية التي ذكرها الفيلسوف الطبيب يعقوب الكندي (ت 256هـ/870م) في كتابه الغريب العنوان في زمانه ‘كيمياء الطبائخ‘.
ومن ذلك “ألوان لحم تُبطخ من غير لحم، وقلْيْ كبود من غير كبود، ونقانق من غير لحم، وعجّة من غير بيض، وحلاوة من غير عسل ولا سكّر، وأنواع من غير عناصرها يطول شرحها”. وقد أضرب الشيزري عن ذكرها مبررًا ذلك بقوله: “ولولا أني أخاف أن أنبّه مَنْ لا دين له على غشّ الأطعمة لذكرتُ من ذلك جُمَلًا كثيرة”!!
ولم يكن الطبخ مقتصرًا على الذكور فحسب، وإنما كانت الجواري يبرعن فيه ولا سيما في عهد الفاطميين؛ حيث يذكر لنا المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘السلوك في أخبار الملوك‘- وجود الجواري الطباخات في قصورهم، ويقول: “ولهنّ في الطبخ صناعة عجيبة ورئاسة متقدمة”. ويضيف أنه كانت في دار أحد أصدقائه جاريتان “تُحسن كل واحدة منهما ثمانين لونًا من التَّقالي (= جمع تقلية: المقليات) سوى بقية ألوان الطعام”!
ويشهد على تميز الطباخات المصريات وتفننهن أيضا أنه لما أراد ملكُ ديار بكر نصرُ الدولة أحمد بن مروان ابن دُوسْتك الكردي (ت 453هـ/1062م) أن يبلغ طهاتُه مستوى رفيعًا في إجادة صنعة الطِّباخة لم يرسلهم إلى بغداد مع قربها الجغرافي من بلاده، بل “أرسل طباخين إلى الديار المصرية، وغَرِم (= أنفق) على إرسالهم جملة وافرة [من المال] حتى تعلموا الطبخ من هناك”؛ طبقا للمؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) في كتابه ‘الكامل‘.
بيد أن أبا العلاء المعري (ت 449هـ/1058م) كان يرى ألا مزيد على كفاءة طهاة حلب؛ فقد ذكر -في ‘رسالة الغفران‘- أنهم سيتكفلون بمطبخ الجنة حين ينادي المنادي فيها: “أحضِروا في الجنة من الطهاة الساكنين في حلب على مرّ الأزمان”!
حضور رمضاني
وتخبرنا كتب الطبيخ أن موائدنا الرمضانية عريقة النسب في مطابخ المسلمين؛ حيث نجد في كتاب ‘الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب‘ لابن العَديم (ت 660هـ/1262م) ذكرا لمكونات السُّفْرة الرمضانية، مثل القطايف والحريرة والكسكس المغربي والسنبوسة ولقمة القاضي (= اللقيمات)، و”السُّوبِية” التي قال عنها مجد الدين ابن الأثير -في كتابه ‘النهاية‘- إنها “نبيذ.. يُتخذ من الحنطة، وكثيرا ما يشربه أهل مصر”. وهي مشروب رمضانيّ ما زال عند أهل الحجاز إلى اليوم.
أما ‘كتاب الطبيخ‘ لمحمد بن حسن البغدادي (ت 637هـ/1239م) فنجد فيه وصفة قديمة لما يسمى اليوم في المطبخ الحديث “الطبخ البطيء” (SLOW COOKING)، وهو ترك الطبق فترة طويلة على النار أو في الفرن.
وأطرف ما وقفت عليه -عند البغدادي هذا- أن الطبخة الفرنسية المسماة “لحم البقر بالبورغينيون” (bœuf bourguignon) -والتي يُطبخ فيها لحم العجل بالطريقة الفرنسية لمدة ست ساعات- كانت معروفة في وطننا العربي منذ ما قبل القرن السابع الهجري/الـ13 الميلادي.
هذا رغم أن هذه الطبخة لم تصل إلى العالم الجديد (الأميركتين) إلا في نهايات القرن العشرين، عندما أدخلتها للمطبخ الأميركي عميلة وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) جوليا تشايلد (ت 1425هـ/2004م) حين توجهت للطبخ في آخر حياتها.
ويطلعنا البغدادي على الاسم القديم لهذه الأكلة وهو “سكباج تنوري”، وطريقة تحضيرها: “أن يقطع اللحم ويُلقى في القِدر، وتجعل معه الأبازير (= البهارات) والتوابل، ويُحَلّ الدِّبس بالخل (الغربيون اليوم يضعون فيه نبيذ العنب بدلًا من الخلّ)، ويُصبغ ذلك جميعه بالزعفران، ثم يُعدل ملحها، وتُحط في التنور مغطاةَ الرأس من أول الليل إلى بكرة، ثم تُرفع”.
مطبخ زريابي
وفي المطبخ الأندلسي خلال القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي؛ نجد وصفة “الدجاج المُسحّب” (Boneless chicken) التي جاءت إشارة لها في مخطوط أندلسي مجهول المؤلف يعود إلى القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي، وقد نشره المستشرق الإسباني أمبروزيو ميراندا تحت عنوان ‘كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين‘.
ففي هذا الكتاب ورد ذكر للآلات التي ينبغي أن تتوفر لدى الطباخ، مثل: المِهراس الذي يُستحسن أن يكون من الرخام أو الخشب، أما النحاس فإنه يُفسد بعض المدقوقات من الطعام كالملح والثوم والكزبرة الرطبة والبصل والخردل.. لأن النحاس عرضة للصدأ والتغيّر. كما يُتخذ من الخشب الصلب المغارف والملاعق، واللوح الذي يقطّع عليه اللحم، ولوح الحلوى والكعك، وينبغي أن يكون أملس في غاية الصقالة.
كما نجد في هذا المخطوط الأندلسي تفضيل الأندلسيين لطريقة تقديم الطعام منجَّمًا أي طبقًا بعد الطبق، دون أن تجمع كل الأطباق والأصناف على المائدة مرة واحدة. ويذكر أن الألوان المقدمة على المائدة الأندلسية كانت تصل إلى سبعة ألوان وخاصة في ولائم الأعراس؛ وكانت يبتدأ فيها بالبقوليات، ويتوسط بالمخلل والمعسل، ثم يفصل بينها لون آخر، ويُختَم بالمعسّل.
ثم يقول: “وقد كان كثير من أكابر الناس وأتباعهم رسموا أن يوضع على كل مائدة بين يديْ الرجال ألوان مفردة لون بعد لون آخر مرتبة، وهو لعمري أحسن من أن يجعل أغضِرة (= أواني خزفية) كثيرة كلها على المائدة، وأجمل وأكثر تأدبًا وأطرف، وهي طريقة أهل الأندلس والغرب ورؤسائهم وخواصهم وذوي الفضل من أهلها، من أيام عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) وبني أمية إلى هلم”. ونحن نرى أن هذا التقليد لم يزل معمولًا به في بلاد المغرب، مع اختلاف في عدد الأصناف.
ولا ينبغي أن نغادر المطبخ الأندلسي والغربي -الذي سنختم به هذه الجولة التاريخية داخل عالم الطبيخ في الحضارة الإسلامية- قبل أن نأتي على ذكر الدور التأسيسي في تطوير هذا المطبخ وتأثيثه بأفانين الطهي، وهو الدور الذي اضطلع به الموسيقار العراقي زِرْياب الموصلي (ت 243هـ/857م) منذ وصوله إلى الأندلس سنة 206هـ/821م، وربما يكون هو أصل ترتيب المائدة الذي ذكره المؤلف الأندلسي المجهول.
فقد قال المقري (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب‘- إن زرياب أجاد من “مهارة الخدمة الملوكية ما لم يُجده أحد من أهل صناعته [الغنائية]، حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه واستحسنه من أطعمته، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبا إليه معلوما به: فمن ذلك… مما اخترعوه من الطبيخ: اللونُ المسمى عندهم بالتفايا، وهو مصطنع بماء الكزبرة الرطبة محلى بالسنبوسق والكباب، ويليه عندهم لون التَّقْلية المنسوبة إلى زرياب”.
ويضيف المقري أن “مما أخذه عنه الناس بالأندلس تفضيله آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة، وإيثاره فَرْشَ أنْطاع (= جمع نَِطْع: البساط) الأَدِيم (= الجلد) اللينة الناعمة على ملاحف الكتان، واختياره سُفَر (= جمع سُفْرة) الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية، إذ الوَضَر (= الوسخ) يزول عن الأديم بأقل مسحة”.
وعدّد لنا المستشرق ليفي بروفنسال (ت 1376هـ/1956م) -في كتابه ‘تاريخ إسبانية المسلمة‘- طائفة من “آيين الطعام” وآداب المائدة التي جاء بها زرياب معه من بغداد؛ فقال: “علَّم زرياب أهالي قرطبة إعداد المآكل البغدادية الأكثر تعقيدًا، وترتيب أطباق الوجبة على الموائد الأنيقة، فأفتى بألا يقدم الطعام دفعة واحدة، أو كيفما اتفق، بل يجب البدء بالحساء، وتتبعه أطباق اللحوم والطيور المطيبة بالتوابل الحارة، ثم الأطباق المحلّاة، فالحلوى المصنوعة من الجوز واللوز والعسل، أو الفاكهة المجففة المعطرة المحشوة بالفستق والبُنْدق، ونصح بتغطية موائد الطعام بأغطية من الجلد الناعم الرقيق بدلًا من شراشف الكتان الخشنة، وبيّن أن الكؤوس الزجاجة الفاخرة آنق من آنية الذهب والفضة”.