“وقع في هذه الديار وباء عظيم مسرِف زائد عن الحد…، والناس يمرّون.. فلا يرون إلا أسواقا فارغة وطرقات خالية وأبوابا مغلقة..، وخلت أكثر المساجد من الجماعات”!! بتلك الكلمات صوّر لنا الإمام المؤرخ ابن الجوزي (ت 597هـ) وباء فاحشا وقع سنة 449هـ، فشغل الدنيا حينها وملأ حياة الناس رعبا، كما فعل وباء فيروس “كورونا/ كوفيد 19”!
فقد أثّر هذا الوباء المستجدُّ على أدق تفاصيل عالَمنا؛ فأوقف أشغال البشر، وعطّل دراستهم، وأجّل أسفارهم، وأبطل خططهم، وباعد بينهم حين أقعدهم منعزلين في بيوتهم. غير أنّ المسلمين منهم ما اختلفوا ولا احتاروا في ذلك كلّه حيرتَهم في أمر صلاتهم (جُمُعاتٍ وجَمَاعاتٍ) التي عليها يجتمعون، ومساجدهم التي إليها يتوافدون في اليوم خمس مرات.
فبينما اتفقت أغلبية حكومات الدول الإسلامية -رغم خلافاتها السياسيّة- على إغلاق أماكن التجمع كلّها بما فيها المساجد ودُور العبادة، وبموافقة كثيرٍ من المجامع الفقهية ودُور الإفتاء؛ نازعت في الأمر طائفةٌ من الفقهاء والوعاظ. غير أن الجميع -مع ذلك- اتفقوا على عِظَم تعطيل المساجد على قلوب المسلمين، وخصوصًا صورة الكعبة المشرّفة وقد خلا صحنها من الطائفين والعاكفين والركّع السجود!
على أنّ كتب الفقه والتاريخ الإسلاميّ نقلت كثيرًا من الوقائع والأحداث التي تعطّلت فيها الصلوات جُمُعا وجماعات لأسبابٍ كثيرة كان الوباء أحدها، ولم يسلم من هذا التعطيل الحَرَمان المقدسان في مكة المكرمة والمدينة المشرّفة، ناهيكم عن ثالثهما في القدس الشريف. وغرضنا من هذا المقال هو تقصي أبرز تلك الوقائع واستعراض أهم أسبابها، دون الانشغال بتفاصيل النقاش الفقهي في الموضوع.
اعتزال فردي
على المستوى الفردي للشخص المسلم؛ ذكرت كتب الفقه كثيرًا من الأحوال التي يصحُّ فيها اعتزال المساجد والتغيّب عن حضور صلوات الجماعة والجمعة، إن خاف المسلم ضررًا على نفسه أو غيره، سواء كان منشأ ذلك الضرر مرضًا أو مخاوف أمنية أو كارثة بيئية أو حتى حرجًا نفسيًّا.
وقد توسّعت في تفاصيل ذلك كتب الفقه في جميع المذاهب؛ ومن أقدم من بينه الإمام الشافعيُّ (ت 204هـ) الذي ذكر صورًا عديدةً للأعذار الشرعية المغيِّبة عن الجمعة، فعدّ في مقدمتها الأمراض. ولعل أطرف ما ذكره منها هو التغيّب عن صلاة الجماعة خوفًا من المطاردة السياسية من قبل السلطة، فقال في كتابه ‘الأمّ‘: “إن كان خائفا إذا خرج إلى الجمعة أن يحبسه السلطان بغير حق كان له التخلف عن الجمعة”.
وألطفُ من ذلك بذل العذر للمصلي في ترك الجمعة لمن كان مدينًا مُعسِرًا لا يجدُ مالا لسداد دينه ويخافُ أن يباغته الدائن فيُحبَس بذلك؛ فقال الشافعي في ‘الأم‘ أيضا: “وإن كان تغيّبه عن غريم (= الدائن) لعُسرة وَسِعَه التخلّف عن الجمعة”. وبالعكس؛ أجاز فقهاء لصاحب الدين التغيب عن الجماعة إذا خشي اختفاء مدينه وفوات حقه، فقد استنبط الإمام بدر الدين العيني (ت 855هـ) -في ‘عمدة القاري شرح صحيح البخاري‘- من أحد أحاديث البخاري “جواز التخلف عن الجماعة [لـ]ـخوف فوات الغريم (= المدين)”.
وقد استجاز غير واحد من الأئمة الاعتزال خشية الفتنة عند حصول اضطرابٍ سياسيّ أو غيره، كما نقل الإمام الذهبيّ (ت 748هـ) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- عن الإمام التابعي مُطرّف بن عبد الله بن الشخّير (ت 95هـ) أنه كان إذا “هاج الناسُ (= اقتتلوا) يلزمُ قعر بيته، ولا يقرب لهم جمعة ولا جماعة حتى تنجلي [الفتنة]”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ولعلّ صنيع هذا الإمام الكبير في ترك الجمعة والجماعة -إذا خاف من ذلك ضررًا أكبر- أصلٌ في تركها لكلّ ما يمكن أن تترتب عليه مفسدةٌ عظيمة، وقد ورد عن الإمام مالك (ت 179هـ) شيءٌ يشبه هذا حين اعتكف في بيته “آخرَ عمره… [فـ]ـأقام ثماني عشرة سنة لم يخرج إلى المسجد” النبوي؛ حسب ما أورده القرطبيّ (ت 672هـ) في كتابه ‘التذكرة‘.
وكذلك فعل بعض العلماء احتجاجا على إجبار السلطة العباسية أيام المأمون (ت 218هـ) للناس في مسألة ‘خلق القرآن‘؛ فابن أيبك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ) يقول -في ‘كنز الدرر وجامع الغرر‘- إنه في سنة 218هـ “كان ابتداء المحنة العظيمة وإظهار القول بخلق القرآن…، وقـُتل من خالف، واختفت العلماء والأئمة في منازلهم وامتنعوا من الصلوات في الجوامع، وقتل منهم خلق كثير”.
وعلى كلّ؛ فإن ترك الفرد الواحد أو العدد اليسير من الناس للجمعة والجماعة مختلفٌ كثيرًا عن إغلاق المساجد وتعطيل الناس كلهم للجمعة والجماعات، على أن هذا التعطيل الجماعي للمساجد -وإن لم يتناوله الفقهاء تناولهم للاعتزال الفردي- وقع مرارًا في التاريخ الإسلاميّ بدواع قهرية؛ وهذا ما نحاول تتبع أبرز وقائعه وأسبابه في الفقرات التالية
أوبئة مهلكة
وقعت الفاجعة الكبيرة في “طاعون عمواس” (= قرية فلسطينية كانت تقع على نحو 28 كم جنوب شرق يافا وهدمها المحتلون اليهود 1967م) الذي عمّ بلاد الشام سنة 18هـ، وأدى إلى وفاة عدد لا بأس به من الصحابة وأعيان التابعين فيها، واشتد البلاء بأهل الشام حتى “أقسم [الخليفة] عمر (ت 23هـ) ألا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيا الناس”؛ وفقا لرواية المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ) في كتابه ‘الكامل‘. ورغم ذلك فإن الأخبار عن تفاصيل الحياة اليومية –بما فيها إقامة صلوات الجُمَع والجماعات- شحيحةٌ جدًّا، لكنني وجدتُّ خبرًا مثيرًا بشأن نهاية تلك الفاجعة بـ”ارتفاع الطاعون”، وفق التعبير الدارج في الكتب التراثية.
فقد روى الإمام أحمد (ت 241هـ) -في مسنده- من حديث شهر بن حوشب (ت 112هـ) عن رابِّهِ (= زوج أمّه) أنّه كان قد شهد طاعون عمواس، فكان على قيادة الناس أبو عبيدة بن الجراح فمات بالطاعون، ثم معاذ بن جبل فمات به أيضًا؛ “فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص (ت 43هـ) فقام فينا خطيبا فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبّلوا منه في الجبال [وفي روايات أخرى: فتفرّقوا منه في رؤوس الجبال وبطون الأودية]. قال: فقال له أبو واثلة الهذلي: كذبتَ والله، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت شرٌّ من حماري هذا (يُعيّر عَمْرًا بتأخر إسلامه). قال [عمرو]: والله ما أرد عليك ما تقول، وأيْمُ الله لا نُقيم عليه! ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا عنه، ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو فوالله ما كرهه”.
والحقيقة أن الروايات متضاربة بشأن ما إن كان الناس أخذوا برأي عمرو بن العاص أم تركوه، لكن انتهاء الطاعون به منطقيٌّ جدًّا، والقول بـ”التفرّق في رؤوس الجبال والشِّعاب وبطون الأودية” متواترٌ عن عمرو بن العاص، وقد أخرجه من طرق كثيرة أبو جعفر الطبري (ت 310هـ) في ‘تهذيب الآثار‘، وابن خزيمة (ت 311هـ) وابن حبان (ت 354هـ) في صحيحيهما.
وبهذا يكون عمرو بن العاص -وفق علمنا- أوّل من نادى بالعزل (التفرّق/ التباعد) الجماعي لمواجهة الأوبئة، والتفرّق في رؤوس الجبال وبطون الأودية يحول -بلا شكّ- دون إقامة صلاة الجمعة والجماعات؛ إذ لا تجبُ شرعا إلا على أهل الأحياء والقرى والمدن والحواضر.
وفي ظلّ تضارب الروايات عن تطبيق الناس لرأي قائدهم عمرو بن العاص أو رفضهم له، لا يسعُنا أن نجزم بأن الصحابة الكرام -ومن معهم من التابعين- قد تركوا فعلا الجمعة والجماعة جراء وقوع الوباء، لكن لدينا على الأقل دعوةٌ ضمنيّة إلى ذلك منذ زمنهم.
وسبب الاحتجاج على رأي عمرو من أبي واثلة الهُذليّ -وهو صحابيّ لا يُعرف إلا في هذه الرواية، وفي روايات أخرى أن صاحب الاعتراض هو شُرحبيل بن حسنة الذي مات بطاعون عمواس- هو تعارضه -حسب فهمه- مع الأمر النبويّ بعدم الفرار من الطاعون، لكنّ عمرًا فهم من الحديث –والله أعلم- أن النهي كان عن الفرار من الطاعون إلى بلدٍ آخر خشية أن يُنقل إليها الطاعون، ولم يكن نهيا عن الفرار منه إلى حيثُ لا يقيم أحد مثل قمم الجبال وبطون الأودية والشعاب.
جائحة مكية
وقد ذكرت كتب التاريخ الإسلاميّ تعطيل المساجد بسبب الأوبئة مرارًا، ولم يسلم من ذلك مكة المكرّمة نفسها والبيت الحرام؛ فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) -في كتابه ‘إنباء الغُمْر بأبناء العمر‘- ضمن وقائع سنة 827هـ، فقال: “وفي أوائل هذه السنة وقع بمكة وباء عظيم بحيث مات في كل يوم أربعون نفساً، وحصر من مات في ربيع الأول ألفاً وسبعمئة، ويقال إن إمام المقام (= مقام إبراهيم وكان أتباع المذهب الشافعي يقيمون عنده صلواتهم) لم يصل معه في تلك الأيام إلا اثنان، وبقية الأئمة [من المذاهب الأخرى] بطلوا [الصلاة] لعدم من يصلي معهم”.
ولا أدري إن كان هذا التعطيل شبه الكلي للصلاة بالحرم المكي وقع قهرًا بسبب الموت والمرض وانشغال الناس برعاية مرضاهم ودفن موتاهم، أم أحجم الناسُ عن التجمّع خوفًا من العدوى، وعدد الوفيات 1700 في شهرين أو ثلاثة لا يدلّ على أنّ الموت والمرض منعا الناس عن المساجد إلى هذه الدرجة؛ فالأرجح أنهم امتنعوا خشية العدوى.
وقبل ذلك بقرون؛ يخبرنا ابن عذاري المراكشي (ت 695هـ) -في ‘البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب‘- أنه وقع في تونس وباءٌ عظيم سنة 395هـ، فتسبب في “شدة عظيمة انكشف فيها الستور…، وغلت الأسعار، وعُدِم القوات…، وهلك فيه أكثر الناس من غني ومحتاج، فلا ترى متصرفا إلا في علاج أو عيادة مريض أو آخذا في جهاز ميت…، وخلت المساجد بمدينة القيروان”.
وبالأندلس وقع شبيهٌ بهذا؛ فقد ذكر الإمام الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- أحداث سنة 448هـ فقال: “وفيها كان القحط العظيم بالأندلس والوباء، ومات الخلق بإشبيلية بحيث إن المساجد بقيت مُغلقة ما لها من يصلي بها”. وذكر أيضا -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه في هذه السنة “كان القحط عظيما.. بالأندلس، وما عُهد قحط ولا وباء مثله بقرطبة، حتى بقيت المساجد مغلقة بلا مُصَلِّ، وسُمي عام الجوع الكبير”.
وفي السنة الموالية (سنة 449هـ)؛ يقدم لنا ابن الجوزي تفاصيل فظيعة عن وباء عظيم سريع الانتشار والقتل، تفشى فيما يعرف اليوم بآسيا الوسطى وأفنى فيها نحو مليونين من البشر، ثم انتشر غربا حتى قارب أرض العراق؛ فيقول: “وفي جمادى الآخرة (سنة 449هـ) ورد كتاب من تجار ما وراء النهر [بأنه] قد وقع في هذه الديار وباء عظيم مسرف زائد عن الحد، حتى إنه خرج من هذا الإقليم في يوم واحد ثمانية عشر ألف جنازة، وأحصي من مات -إلى أن كُتب هذا الكتاب- فكانوا ألف ألف وستمئة ألف وخمسين ألفا”!!
ويضيف هذا الإمام المؤرخ وكأنه يصف لنا أجواء عالمنا اليوم وقد خيّم عليه رعب “كورونا” فقضى عليه بالجمود والركود: “والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقا فارغة، وطرقات خالية، وأبوابا مغلقة…، وطويت التجارات وأمور الدنيا، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات والتجهيز والدفن…، وخلت أكثر المساجد من الجماعات”!!
أفراح مؤجلة
وبمصر انتشر الطاعون الكبير الذي وقع سنة 749هـ وعُرف في أوروبا باسم ‘الموت الأسود‘؛ وقد رصد المقريزي (ت 845) -في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- الآثار الاجتماعية لهذا الطاعون؛ فقال: “وبطلت الأفراح والأعراس من بين الناس فلم يُعرف أن أحدًا عمل فرحًا في مدة الوباء، ولا سُمع صوت غناء، وتعطّل الأذان من عدة مواضع، وبقي في الموضع المشهور بأذان واحد”. وذكر المؤرخ ابن تغري بردي (ت 872هـ) -في كتابه ‘النجوم الزاهرة‘- مثل ما ذكره المقريزيّ وزاد عليه بأنه “غُلقت أكثر المساجد والزوايا”.
وفي المقابل؛ سجلت كتب التاريخ مواجهة الناس للطاعون بالاجتماع في المساجد والتعبّد، فقد جاء في مخطوطة كتاب للقاضي المؤرخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن القرشي الدمشقي الشافعي (توفي بعد 780هـ) -بعنوان: ‘شفاء القلب المحزون في بيان ما يتعلق بالطاعون‘- أنه حدث طاعون كبير سنة 764هـ، فـ”كان الناس به على خير عظيم من إحياء الليل وصوم النهار، والصدقة والتوبة…، فهجرنا البيوت ولزمنا المساجد رجالنا وأطفالنا ونساؤنا”.
وكان للحافظ ابن حجر ملاحظةٌ ذكيّة حول انتشار الوباء بعد هذه التجمعات؛ فذكر -في ‘إنباء الغمر‘- أن طاعونًا وقع سنة 833هـ، وأن أحد رجال السلطة يُدعى شهاب الدين الشريف “جمع أربعين شريفاً اسم كل منهم محمد وفرّق فيهم مالاً، فقرأ (كذا؟ ولعلها: قرؤوا) بعد صلاة الجمعة بالجامع الأزهر ما تيسر من القرآن، فلما أن قرب العصر قاموا فدعوا وضجوا، وكثُر الناس معهم في ذلك، إلى أن صعد الأربعون إلى السطح فأذّنوا العصر جميعاً وانفضّوا، وكان بعض العجم قال للشريف إن هذا يدفع الطاعون”، ثم علّق ابن حجر بقوله: “ففعل ذلك، فما ازداد الطاعون إلا كثرة”!!
وقد كان لابن حجر ملحوظة ذكية أخرى بشأن تزايد الطاعون بعد قدوم الحجاج من الحجاز؛ فقد تحدث عن طاعون وقع بمصر سنة 848هـ، وكان يموت بسببه مئة إنسان ومئتان “ثم تزايد واشتد اشتعاله إلى أن دخل الحاج (= الحجاج) فتزايد أيضاً، ومات من أطفالهم ورقيقهم عدد جَمٌّ، ويقال إنه جاوز الألف في كل يوم”!! ولعل لاستقبال الحجاج وزيارتهم والحركة والاحتكاك الذي يحصل بقدومهم أثرٌ كبير في تفشّي الطاعون.
ومن ملحوظاته الذكيّة أيضا في هذا الموضوع ما قاله -في ‘إنباء الغُمر‘- من أن أحد الفقهاء رأى في الحجر المنزليّ -ولو كان بالاحتيال بالتمارض- وسيلةً للنجاة من الطاعون؛ ففي ترجمته للقاضي ابن أبي جرادة الحلبيّ الحنفي (ت 819هـ) أورد عنه خبرًا طريفًا، فقال: “ثم لما وقع الطاعون في هذه السنة ذُعر [القاضي] منه ذعرا شديدا، وصار دأبه أن يستوصف ما يدفعه ويستكثر من ذلك أدوية وأدعية ورُقًى، ثم تمارض لئلا يشاهِد ميتًا ولا يُدعى إلى جنازة لشدة خوفه من الموت، فقدر الله أنه سلِم من الطاعون”!
ومن القصص الطريفة في تاريخنا بخصوص الحجر المنزليّ واعتزال الناس ولو بمغادرة مدنهم؛ ما ذكره ابن الحنبليّ الحلبي (ت 971هـ) في كتابه ‘درّ الحبب في تاريخ حلب‘ في ترجمة تلميذه شاه محمد الدكني (ت 952هـ)، إذ قال إن والده لما “دخل الطاعون حلب فرّ بمن معه إلى بعض بساتينها، وكان يخاف الموت خوفا شديدا، فقدر الله [له] السلامة” حينها، لكن لم يلبث أن مات الوالد والولد في طاعون آخر!
كوارث داهمة
حصلت وقائع عديدة تعطّلت فيها الجماعات بالمساجد بسبب الكوارث الطبيعية حتى شمل ذلك البيت الحرام بمكة، بل إنه كان معروفًا به؛ فقد أفاد الأزرقيّ (ت 250هـ) -في ‘أخبار مكة‘- بأن باب بني شيبة الكبير كان يُسمّى “باب السيل، قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام (= مقام إبراهيم) عن موضعه، وربما نحّته إلى وجه الكعبة”.
وقال العلامة محمد المنتصر بالله الكتانيّ (ت 1419هـ) في تفسيره للقرآن (الآية 27 من سورة الحج): “وأذكر منذ بضع سنين أن سيولًا جاءت [الحرم المكي] فارتفع الماء إلى أن وصل إلى أبواب الكعبة، فتوقفت الصلاة في الحرم يومين، وعز على الكثيرين أن يروا الكعبة لا يطوف بها أحد، فنزلوا يطوفون سابحين عائمين وقد أغراهم بعض من أخذ يطوف وهو يحسن السباحة والعوم، فلما نزل بعضهم -ممن لا يعرف السباحة- غرقوا وماتوا، فاضطر المسؤولون أن يمنعوا الطواف لأن الناس تعرضوا للموت”.
وذكر الشيخ محمد الصباغ المالكي المكّي (ت 1321هـ) -في كتابه ‘تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام‘- أخبار كثيرٍ من السيول التي اجتاحت البيت الحرام وتسببت في تعطيل الصلوات به، بل تسببت في تهدم الكعبة أحيانًا، غير أن التعطيل لم يكن يطول فكان يحدّه بسبع صلوات أو غير ذلك. ومن ذلك أنه “جاء سيل عظيم سنة ثلاث وثمانين [وتسعمئة]… حتى بلغ المطاف ووصل إلى قفل البيت الشريف، وبقي الماء يومًا وليلة…، وتعطلت [صلاة] الجماعة سبعة أوقات (= صلوات)”.
أما في غير مكة؛ فيذكر الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت 774هـ) أنه في سنة 647هـ “طغى الماء ببغداد حتى أتلف شيئا كثيرا من المحالّ والدُّور الشهيرة، وتعذرت الجُمَع في أكثر الجوامع بسبب ذلك سوى ثلاثة جوامع”. وتحدث ابن الفُوَطي (ت 723هـ) -في ‘الحوادث الجامعة‘- عن غرق بغداد أيضا سنة 653هـ، فقال: “وتهدمت الجوامع والمساجد كجامع المنصور وهو أول جامع وُضع ببغداد… وجامع المهدي بالرصافة… وجامع السلطان وجامع القصر… وبعض مسجد قمرية بالجانب الغربي… وعدة مساجد”. ولا ريب أن ذلك سينتج عنه تعطل الصلاة في هذه المساجد.
كما ذكر الحسن بن محمد العباسي الصفدي (ت بعد 717هـ) -في ‘نزهة المالك والمملوك‘- أنه وقع في سنة 717هـ سيلٌ عَرِم بمدينة بعلبكّ اللبنانية، وتسبب في هدم المساجد وتعطيل الصلاة بها. وذكر في وصفه أنه “ما مرّ على شيء في طريقه إلاّ جعله خاويًا…، فخرّب المساكن وأذهب الأموال، وغرّق الرجال والحريم والأطفال…، ثم لم يزل حتى دخل الجامع الأعظم…. وتهدّمت المساجد وتعطّلت الصلوات”.
فتن مجتمعية
تعطّلت الجُمع والجماعات مرارًا في تاريخنا بسبب الفتن بين أتباع الأديان والطوائف والفِرَق والمذاهب، ولعل هذا السبب هو أقبحُ الأسباب المؤدية إلى تعطيل الصلوات، إذ إنه يضيع الدِّين بدعوى الحرص عليه. ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- ضمن أحداث سنة 403هـ.
قال: “وفي شوال توفيت زوجة بعض رؤساء النصارى [ببغداد]، فخرجت النوائح والصلبان معها جهارًا، فأنكر ذلك بعض الهاشميين، فضربه بعض غلمان ذلك الرئيس النصراني بدبوس في رأسه فشجه، فثار المسلمون بهم فانهزموا حتى لجؤوا إلى كنيسة لهم هناك، فدخلت العامة إليها فنهبوا ما فيها…، وتتبعوا النصارى في البلد…، وانتشرت الفتنة ببغداد…، وعُطلت الجُمُع في بعض الأيام”. وهكذا تبدأ الفتنة بمناوشة صغيرة ثم تنتهي بقتال واسع ونهبٍ وعدوان، فيقود ذلك إلى تعطيل للدنيا والدين!
كما حصلت حادثة مماثلة بين المسلمين واليهود تعطلت بسببها الجمعة بمناطق من بغداد؛ فابن كثير يروي أنه في سنة 573هـ “جرت فتنة عظيمة بين اليهود والعامة ببغداد…، ولما كان يوم الجمعة منعت العامة إقامة الخطبة في بعض الجوامع، وخرجوا من فورهم فنهبوا سوق العطارين الذي فيه اليهود، وذهبوا إلى كنيسة اليهود فنهبوها، ولم يتمكن الشُّرَط (= الشرطة) من ردهم”.
وكما كانت الفتنة بين المسلمين والنصارى سببًا في ضياع الجُمع، فكذلك الأمر في بعض جولات الفتنة بين السنة والشيعة الكثيرة في تاريخنا؛ فقد ذكر الحافظ ابن الجوزي -في كتابه ‘المنتظم‘- من أحداث سنة 349هـ أنه “وقعت فتنة بين السنة والشيعة في القنطرة الجديدة [ببغداد]، وتعطلت الجمعة من الغد في جميع المساجد الجامعة في الجانبين سوى مسجد براثا (= مسجد للشيعة)، فإن الصلاة تمت فيه”.
بل إن تعطيل الجماعات وقع أحيانا جراء فتن التعصب المذهبي بين أبناء الطائفة الواحدة؛
فابن كثير يذكر أيضا أنه في سنة 447هـ “وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة [ببغداد]، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجُمُعة ولا الجماعات”!!
حروب مدمرة
وتعطيل الصلوات والعبادات في بيوت الله بسبب الحرب لم تسلم منه حتى البقاع المقدّسة لدى المسلمين؛ ولعلّ أقدم ما ذُكر في ذلك هو ما وقع إثر قمع ثورة أهل المدينة سنة 63هـ على أيدي قوات يزيد بن معاوية (ت 64هـ)، يقول القاضي عياض (ت 544هـ) -في ‘إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم‘- واصفا ما صنعه جيشُ يزيد بالمدينة وأهلها: “فهَزَموا (= جنود يزيد) أهل المدينة وقتلوهم واستباحوهم ثلاثة أيام، وقُتل فيها عدة من بقية الصحابة وأبناء المهاجرين والأنصار، وعُطّلت الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأيام و[توقف] الأذان فيه”!!
أما أشهر ما جرى على البيت الحرام بمكة فهو ما تسبب فيه أبو طاهر الجنّابيّ القرمطيّ (ت 332هـ)؛ إذ دَهَم بجيشه جموعَ الحُجّاج يوم التروية من سنة 317هـ فأفسد حجّهم ذلك العام، وقتل آلافًا من الناس في صحن المسجد الحرام، واقتلع الحجر الأسود ورجع به إلى عاصمة دُويلته هَجَر (كانت بمنطقة الأحساء الآن شرقيّ السعوديّة). قال الإمام الذهبيّ في ‘تاريخ الإسلام‘: “ولم يقف أحدٌ تِلْكَ السنة وقفة” عرفة، وبذلك تعطل حج المسلمين الذي هو أهم عندهم من صلوات الجماعات.
وقد سبقت جريمةَ القرامطة هذه حادثة شبيهة بها؛ فالمؤرخ عبد الملك العصامي المكي (ت 1111هـ) يذكر -في ‘سمط النجوم العوالي‘- أنه في سنة 250هـ دخل مكةَ الثائر العلويّ إسماعيلُ بن يوسف الأخيضر المُلقّب بالسّفّاك (ت 252هـ)، فهرب منها واليها المنصّب من الخليفة العباسي ببغداد، ونهب إسماعيلُ المذكور داره وأخذ أموال الناس، ثم “عَمَدَ إلى الكعبة الشريفة فأخذ كسوتها وما جدد في خزانتها من الأموال…، ونهب مكة وأحرق بعضها ثم خرج منها بعد مقامه بها خمسين يوما”.
وبعد ذلك قصد إسماعيل السفاك “المدينة الشريفة فتوارى عنه عاملها (= الوالي العباسي)، فظلم أهلها وأخرب دورهم، وعُطلت الجماعة من مسجده عليه الصلاة والسلام أكثر من نصف شهر، ثم رجع إلى مكة فحصر أهلها حتى ماتوا جوعا وعطشا…، ووافى الموقف (= موسم الحج) والناس بعرفات فقتل من الحجاج نحوا من ألف ومئة نفس، فهرب الحجاج ولم يقف بعرفة أحد ليلا ولا نهارا سوى إسماعيل وعسكره”!
وإذا كانت المدينة نالت نصيبًا من أذى إسماعيل السفاك هذا؛ فإنها قد تعطلّ مسجدُها ثانيةً على يد الثائريْن العلوييْن محمّد وعلي ابنيْ الحسين ابن جعفر الصادق، فقد اقتحما بجيشهما المدينة المنوّرة سنة 271هـ وعاثا فيها فسادًا. قال ابن كثير الدمشقي في ‘البداية والنهاية‘: “فقتلا خلقا من أهلها وأخذا أموالا جزيلة، وتعطلت الصلوات في المسجد النبوي أربع جُمَع لم يحضر الناس فيه جمعة ولا جماعة؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون”. ونقل المؤرخ ابن الأثير قصيدةً للفضل بن العباس العلوي في حزنه لأجل ذلك، مطلعُها: أخرِبت دارُ هجرة المصطفى البَـ ** ــرِّ فأبكى خرابُها المسلمينا!
وقبل نحو قرن من الآن؛ تعطّلت الصلوات في المسجد النبويّ أواخر الحرب العالمية الأولى، فقد ذكر مؤلفو كتاب ‘معلمو المسجد النبوي‘ في ترجمة الشيخ ألفا هاشم (ت 1349هـ) أنه كان حينها إمام المسجد النبوي، وأنه عندما اشتد حصار قوات الشريف حسين بن علي (ت 1931م) للمدينة “اتخذ [واليها العثماني] فخري باشا (ت 1948م) من المسجد النبوي الشريف ثكنة للجنود والأسلحة، واتخذ من منائر المسجد النبوي الشريف أبراجا للمراقبة، [فـ]ـتعطلت الصلوات ولم يُرفع الأذان من المنائر لفترة”!!
غزاة وطغاة
وفي غير مكة والمدينة من حواضر العالم الإسلاميّ؛ تعطّلت الجُمع والجماعات بسبب الحرب مرارًا، ولعلّ المسجد الأقصى كان أكثر مساجد الإسلام عُرضةً للانتهاك والتعطيل، فقد تعطّلت الصلاة فيه تحت حكم الصليبيين نحوًا من تسعين عاما بدءا من سنة 492هـ، وافتتحوا عهدهم فيها بمذبحة عظيمة. يقول ابن الأثير -في ‘الكامل‘- واصفا المذبحة: “وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف”!
ويُشبه ذلك ما جرى لمساجد الأندلس بعد اجتياح النصارى الإسبان لحواضرها الكبرى بدءا من مطلع القرن السابع؛ فقد نقل مؤرخ الأندلس عبد الله عنان (ت 1986م) -في كتابه ‘دولة الإسلام في الأندلس‘- عن كتاب ‘أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر‘ الذي ألّفه شخص مجهول كان يوثّق مشاهدات عصره؛ أن الإسبان تراجعوا عن تعهداتهم في معاهدة تسليم غرناطة القاضية باحترام الحرية الدينية للمسلمين، “فأغلِقت المساجد وحُظر على المسلمين إقامة شعائرهم، وانتُهكت عقائدهم وشريعتهم”.
ومن أهمّ ما يُذكر تاريخيا -في هذا الصدد- حادثتان، هما اجتياح المغول لبغداد بقيادة هولاكو سنة 656هـ، ثم غزو التتار لدمشق سنة 803هـ بقيادة القائد الأوزبكي تيمورلنك (ت 807هـ).
والفظائعُ التي ارتكبها المغول عند دخول بغداد أشهرُ من أن تُروى، غير أنّ موضوع مقالتنا فيها هو ما ذكره ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- حين قال: “وقُـتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجُمعَات مدة شهور ببغداد”!!
ويصفُ معاصره الإمام السبكيّ (ت 771هـ) -في ‘طبقات الشافعيّة‘- هذه المأساة وصفًا مؤثرًا، فيقول: “وأخذت بغداد على يد هولاكو..، وقُتل أمير المؤمنين وبَعده سائر المسلمين، ورُفع الصليب.. وسُمع الناقوس آونة من «بيوت أذِن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه»…، وخربت الجوامع وعُطّلت المساجد…: ثم انقضت تلك البلاد وأهلها ** فكأنها وكأنهم أحلام”!!
ويخبرنا ابن خلدون (ت 808هـ) -في تاريخه- أنه عندما غزا القائد التتري محمود قازان (ت 703هـ) بجيوشه الشام سنة 699هـ؛ دخلوا دمشق فعاثوا فيها نهبا وسلبا، واقتحموا “جامع بني أمية… فانتهكوا حرمة المسجد بكل محرّم من غير استثناء.. وامتُهن القضاة والخطباء وعُطّلت الجماعات والجمعة”! وذلك رغم أن قازان هذا كان من جيل التتار الذين أسلموا!!
وأما اجتياح تيمورلنك لدمشق فلم يكن أقلّ وحشيّة وبشاعة، مع أنه كان يدّعي الإسلام واصطلح مع أهلها على فديةٍ يدفعونها ليسلموا من القتل والسلب، لكنه انقلب على الاتفاق ونهبها وخربها وأحرق بعضها، و”شُغل الناس عن الدين والدُّنيا بما هم فيه…، فتعطلت سائر الجوامع والمساجد من إعلان الأذان وإقامة الصلاة”؛ على حدّ تعبير المقريزيّ في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘.
وقد عاصر ابن خلدون تلك الأيام حيث كان وقتها في زيارة لدمشق قابل خلالها تيمورلنك، وذكر كثيرًا من فظاعاته هو ورجاله التي تسبب بعضها في إحراق الجامع الأموي مما أدى إلى تعطل الصلوات فيه، فذكر -في كتاب رحلته- إضرامهم النار بالممتلكات “فلم تزل تتوقّد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه فسال رصاصه وتهدّمت سقفه وحوائطه، وكان أمرا بلغ مبالغه في الشّناعة والقبح”.
وفي وصف تلك الأحداث؛ يقول مجير الدين العليمي المقدسيّ (ت 928هـ) في كتابه ‘التاريخ المعتبر في أخبار من غبر‘: “ولم تقم الجمعة في الجامع الأموي إلا مرة واحدة، وهي الجمعة الأولى من استيلاء التتار على البلد”!
اضطراب واحتجاج
وكما تسببت الحروب في تعطيل الجُمَع والجماعات؛ فإن حوادث الاضطراب السياسيّ والفراغ الأمنيّ أدت إلى مثل ذلك، فقد ذكر ابن شاهين الملطي (ت 920هـ) -في ‘نيل الأمل في ذيل الدول‘- أنه وقعت في أحد أيام الجمعة سنة 802هـ فتنة كبيرة بين أمراء المماليك “ارتجّت منها القاهرة…، فغُلقت أبواب الجوامع واختصر الخطباء وأوجزوا في الصلاة، ولم يُخطب في بعض الجوامع، بل ولا صُلي في بعض أيضا، وخرج الناس في ذعر وأغلقت الأسواق”.
وبمصر أيضا حصل اضطرابٌ أمني هائل ترك الناس بسببه صلاة الجمعة وأغلِقت المساجد؛ فالمؤرخ الجَبَرْتي (ت 1237هـ) يخبرنا -في ‘عجائب الآثار‘- أنه في سنة 1230هـ جرت محاولة انقلاب عسكريّ فاشلة على والي مصر العثماني محمّد علي باشا (ت 1265هـ)، تسببت في انفلات أمني عظيم. قال الجبرتيّ: “وكان هذا الحادث -الذي لم نسمع بنظيره في دولة من الدول- في ظرف خمس ساعات، وذلك من قبيل صلاة الجمعة إلى قُبيل العصر، [فـ]ـحصل للناس [في] هذه المدة اليسيرة من الانزعاج والخوف الشديد، ونهب الأموال.. ما لا يوصف، ولم تُصلّ الجمعة في ذلك اليوم وأغلِقت المساجد…، وأخذ الناس حذرهم ولبسوا أسلحتهم”.
وفي الغرب الإسلامي؛ يروي المؤرخ المغربي أبو العباس الناصري (ت 1315هـ) -في كتابه ‘الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى‘- أنه “لما قُـتل السلطان عبد الملك بن زيدان (السّعدي سلطان المغرب المتوفى 1040هـ)… بويع أخوه الوليد بن زيدان…، وعظمت الفتن بفاس حتى عُطلت الجمعة والتراويح من جامع القرويين مدة، ولم يصلِّ به ليلة القدر إلا رجل واحد من شدة الهول والحروب”!
وذكر ابن عذاري المراكشي -في ‘البيان المغرب‘- أنه “لمّا رحل بنو عُبيد (= الفاطميون) إلى مصر [قادمين من تونس]، لم تزل ملوك صنهاجة يخطبون لهم بأفريقية (= تونس) ويذكرون أسماءهم على المنابر…، حتى قطع أهل القيروان صلاة الجمعة فرارًا من دعوتهم، وتبديعًا لإقامتها بأسمائهم، فكان بعضُهم إذا بلغ المسجد قال سرًّا: اللهم اشهد! اللهم اشهد! ثم ينصرف فيصلي ظهرا أربعًا، إلى أن تناهى الحال حتى لم يحضر الجمعة من أهل القيروان أحد! فتعطلت الجمعة دهراً”!! وقد ذكر أن الخطبة للفاطميين بقيت إلى سنة 440هـ، ثم قُطعت وأحرقت أعلامهم.
وهنا موقفٌ عجيب وطريفٌ من أهل القيروان الذين كانوا على عداوةٍ شديدةٍ للفاطميين؛ فقد وسعهم أن يتركوا الجمعة احتجاجًا وصيانةً لدينهم ولأنفسهم عن سماع الثناء على من يرونهم حكاما ظَلَمة وضُلالاً، وأما أنهم كانوا إذا مرّوا بالجوامع يقولون: اللهم اشهد! فهو لكونهم يستعظمون أمر الجمعة ويحبُّون شهودها، ولم يمنعهم إلا الدعاء لمن لا يرضون دينه من الحكام.
وفي خاتمة هذا الاستعراض التاريخيّ الموجز لحوادث تعطل صلوات الجماعة في مساجد المسلمين؛ نعلمُ أنّ ما يجري علينا اليوم من إيقاف للجُمَع والجماعات -خشية المساهمة في نشر وباء “كورونا/ كوفيد 19”- ليس استثناءً تاريخيًّا غير مسبوق، وأنّه جرت نظائره في تاريخ أمتنا لأسباب كثيرة، بعضُها يُشبه ما نحن فيه من دواع صحية، وبعضُها أقلّ منه ضرورةً وقهرًا، وبعضُها أعظمُ منه خطرا بكثير. ثم إن هذه الغُمّة -وإن طالت- لا بدّ منتهية كما انتهت قبلها حروب وكروب، وسيعود إلى المساجد عُمّارُها المحبّون، وإلى المحاريب عُشّاقها المشتاقون!