يرى المؤرخ الثقافي شهاب الدين القلقشندي (ت 821هـ) أن “غالب أسماء العرب منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه”، ومن ثم كان طبيعيا أن تنعكس الكثبان والصخور والحيوانات والنباتات على أسمائهم. وقد يبدو في الأمر محاكاة مباشرة لمكونات البيئة الطبيعية من حولهم، ولكن الحقيقة أن الأمر يتخطى ذلك إلى جوانب أخرى تجعل التسمية عند العرب بابا واسعا لكشف جانب من نظرتهم للحياة والإنسان والأخلاق والقدر والأديان والصراع وأنماط العيش.
ثم جاء الإسلام فدفع فلسفة التسمية في التفكير العربي إلى آفاق أرحب لتتلاءم مع مقتضيات التوحيد والشريعة والغيب، وخصال البر وقيم المجتمع العابر للقبيلة؛ كما نجد انعكاسات ذلك في الأسماء والكنى التي كانت مبعث اهتمام وتدخّل مباشر من النبي صلى الله عليه وسلم.
ويرى المؤرخ العراقي جواد علي (ت 1987م) –في كتابه ‘المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام‘- أن أسماء العرب “من الموضوعات التي لفتت إليها الأنظار، لما في كثير منها من غرابة وخروج على المألوف”، وقد أشار إلى اهتمام المستشرقين -من أمثال وليام روبرتسون سميث (ت 1894م)- بهذا الأمر وملاحظتهم له. ويقدم هذا المقال جولة في تاريخ أسماء العرب -جاهلية وإسلاما- تحاول أن تكشف ما وراءها من فلسفة عظيمة وتفاصيل لا تخطر على بال!
رصد مبكر
لمعرفة أهمية ثقافة الأسماء ووزنها عند العرب؛ ربما يكفينا أن نعلم أن أحد أقدم المؤلّفات العربية التي وصلتنا صُنع خصيصًا للبحث فيه، وهو كتابُ ‘الاشتقاق‘ لابن دُرَيد الأزدي (ت 321هـ)؛ فقد قال في مقدّمته: “وكان الذي حدانا على إنشاء هذا الكتاب أن قوماً ممن يطعن على اللسان العربي، وينسب أهله إلى التسمية بما لا أصل له في لغتهم، وإلى ادعاء ما لم يقع عليه اصطلاح من أوليتهم؛ عَدّوا أسماء جهلوا اشتقاقها ولم ينفُذ علمهم في الفحص عنها”.
وجعل ابن دُرَيد يردّ على هذا الادّعاء –الباطل في رأيه- بنقد الرواية التي استند إليها الطاعنون، وهي أن الخليل بن أحمد الفراهيديّ (ت 170هـ) سأل أبا الدُّقَيْش الكلابيّ –وهو أعرابيّ مشهور من أعلام القرن الثاني الهجري و”كان أفصح الناس”- عن معنى ‘الدُّقَيْش‘ (= تصغير الدَّقَش وهو دُويبة رقطاء صغيرة) الذي يتكنّى به؛ فأجابه: “لا أدري! إنما هي أسماء نسمعها ولا نعرفُ معانيَها. وهذا غلط على الخليل، وادعاء على أبي الدقيش”.
وقد خالف ابنَ دُرَيد في رأيه ذلك اللغويُّ الكبير أحمد بن فارس الرازي (ت 395هـ) فعلّق –في كتابه ‘مقاييس اللغة‘- على كلام هذا الأعرابي قائلا: “وما أقربَ هذا الكلام من الصدق”! ثم انطلق ابن دُرَيد يشرح فلسفة التسمية عند العرب ويوضّح مذاهبهم في ذلك؛ في كلام طويل سيأتي بعضُه في أثناء هذه المقالة.
وإذا كان أبو الدقيش الكلابي يرى أن “الأسماء والكُنى علامات”؛ فإن أسماء العرب –في الحقيقة- تعبيرٌ عن بيئتهم التي كانوا يحيون فيها، ومن خلالها وحدها يمكنك أن تتخيّل كثيرًا من تفاصيل حياتهم، وتركّب صورةً لا بأس بها لهذه البيئة. ولذلك قال القلقشندي في كتابه ‘نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب‘: “غالب أسماء العرب منقولة عما يدور في خزانة خيالهم مما يخالطونه ويجاورونه، إما من الوحوش كأسد ونمر، وإما من النبات كنَبت وحنظلة، وإما من الحشرات كحيّة وحنش، وإما من أجزاء الأرض كفِهر وصَخر”.
التأثير البيئي
لكن الأمر يبدو أعمق من أن يكون مجرّد تعبيرٍ عن بيئة العرب المحسوسة، بل هو ممتدٌّ إلى ما وراء ذلك من أحوالهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية. فلما كانوا لا ينفكّون عن القتال وشنّ الغارات، غلبت على أسمائهم “تسميةُ أبنائهم بمكروه الأسماء”؛ كما يقول القلقشنديّ. ويقصد بالمكروه هنا المُهاب المخيف، أو ما دلّ على الشجاعة والقوة والفروسية والقسوة والخشونة.
وكما تقول مريم الدرع -في مقدمة تحقيقها لـ‘تهذيب جمهرة النسب‘ لأبي عُبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفي 224هـ، مع تصّرف كثير وإضافة- فإن العرب كان “من أسمائهم غالب وغلّاب وظالم وعارم ومُنازل ومقاتل وثابت، وسَمَّوا في مثل هذا الباب: مُسهِرا ومُؤرِّقا ومُصبِّحا وطارقا، وسمّوا بالسباع ترهيبا لأعدائهم، نحو: ليث وفراس وضِرْغام ودُريد وباسل ووَرْد، وبما غلظ من الشجر نحو طَلحة وسَمُرة وسَلَمة وقتادة وهَرَاسَة، كل ذلك شجر له شوك..، وسمَّوا بما غلظ من الأرض وخشن لمسه وموطئه مثل حَجَر وجَنْدَل وجَرْوَل، ويلحقه التسمية بأسماء الحرب وأدواتها، كتسميتهم: حربًا وسيفًا وسهمًا وكنانةً وأدهم وكُميتًا”.
وفي ذلك كلّه دلالات لا تخفى على طبيعة الحياة القاسية التي كان القومُ يعيشونها، في معارك لا ينقشع غُبار إحداها حتى تقوم أخرى.
وقد روى ابن دُريد في ‘الاشتقاق‘ بإسناده عن العُتبيّ (وهو غالبا: محمد بن عبد الله السفياني النسّابة الشاعر المتوفى 228هـ) أنه سُئل: “ما بال العرب سمّت أبناءَها بالأسماء المستشنعة، وسمّت عبيدها بالأسماء المستحسنة؟ فقال: لأنها سمّت أبناءها لأعدائها، وسمّت عبيدها لأنفسها”.
ورغم أن هذه الحكاية رُويت في أكثر المصادر عن أبي الدّقيش الأعرابيّ، فإنني لا أظنُّ ذلك إلا وهمًا، وبعض المصادر أوردت أن الجواب لأعرابي سأله العتبي؛ والله أعلم. على أن مما يعزز صدقية مضمون هذه القصة -مهما كان مصدرها- أن المؤرخ النسابة محمد بن سعد الزهري (ت 230هـ) روى -في كتابه ‘الطبقات الكبرى‘- أن عبد الله بن عباس (ت 68هـ) “كان يسمي عبيده أسماء العرب: عكرمة وسميع وكُرَيب”.
ومن تسميتهم: “هاشمًا ومُطعمًا” وأشباهها نُدرك إشارات إلى الفقر والجوع اللذين كانت تعانيهما القبائل العربية في صحرائها، وعِظَم قدر من يُساهم في إزالتهما والحدّ من آثارهما. فهاشم هو الذي يَهْشِمُ الثريد للناس بيده ويُطعمهم، وجَدُّ النبي صلى الله عليه وسلم هاشم بن عبد المطلب كان “يُسمَّى ‘عَمْراً‘، وهو أَول من ثرَد الثَّريدَ وهَشَمه فسُمّي هاشِماً”؛ كما يقول ابن منظور (ت 711هـ) في ‘لسان العرب‘. ولذلك خلدت له العرب هذه المأثرة حين قال شاعرهم يمدحه: عَمْرُو العُلا هَشَمَ الثَّريدَ لِقَومه ** ورِجالُ مكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجافُ!
ومثله ‘مُطْعِم‘ و‘جَفْنَة‘؛ فـ”العرب كانت تسمي السيد المِطْعام جفنة؛ لأنه يضعها ويطعم الناس فيها فسُمي باسمها”؛ كما يقول أبو عُبيد أحمد بن محمد الهروي (ت 401هـ) في ‘كتاب الغريبين في القرآن والحديث‘. وينقل شيخه أبو منصور الأزهري (ت 370هـ) -في كتابه ‘تهذيب اللغة‘- عن اللغوي أبي العباس ثعلب (ت 291هـ) أن “العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا”. وفي كل ذلك إشارةٌ إلى طبيعة النظام الاقتصاديّ الذي كان يعتمدُ في جانبٍ منه على عطاء ذوي الغنى والجود، وحمل القادر على الكسب لغيره ممن لا يُحسنه ولا يقدر عليه.
وقريبٌ من ذلك تسميتهم نجدة ومُنقذًا، ففيه تبيانٌ للأخلاق التي كان المُجتمع يحضُّ عليها، ويعتمدُ على شيوعها والتمسك بها. ومنها تسميتهم عفيفًا وطاهرًا وغيرها مما يحتاجُه المجتمع للتماسك والتلاحم واجتناب أسباب الاختلاف والشقاق، وأهميّة العِرض وقيمته لديهم. ومنها تسميتهم كثيرًا ومُنجبًا في الرجال، وولّادةً في النساء؛ مما يدلّ على قيمة العُنصر البشريّ وأثر كثرته ووفرته في حياتهم.
ولم يكن الطبُّ في جزيرة العرب والعالم كلّه في أحسن أحواله قديمًا، فلذلك سمَّوا حيًّا ومعمَّرًا وسالمًا وسليمًا، فكانت الحياة والسلامة -في حد ذاتهما- إنجازًا وغنيمة، بل لعلّ تسميتهم شيبة وشيباناً لا تبعُد من هذا المعنى، إذْ لمّا كان الموتُ مستشريًا في الصِّغار لضعف الطب، والقتلُ مستشريًا في الكبار بسبب الاقتتال والصراع المجتمعي؛ كان محظوظًا من يبلغ سنّ المشيب! فكأنهم كانوا يتفاءلون للمولود بأن يكبر ويجلل البياضُ رأسَه فيُسمّونه شيبة، ويكون معنى اسم شيبة كمعنى مُعمَّر.
ثم إنهم كانوا أمّة أميّة لا تكتب ولا تحسب، فكان جلّ علمهم حكمة يُؤْتَاهَا الواحد منهم فيقضي بها بين المتنازعين، ولذلك كان فيهم: حكيمٌ وأبو الحكم وعقيل، وغيرها من الأسماء الدالّة على هذا المعنى. وفي كثيرٍ من الأحيان كانت العربُ تُسمّي بأقرب صُدفة، وهو ما يفسِّر غرابة بعض الأسماء التي نُقلت عنهم، غير أنهم كانوا يتفاءلون بتلك الأسماء، ويتكلّفون في ذلك فُهُومًا عجيبة.
يقول الجاحظ (ت 255هـ) في كتابه ‘الحيوان‘: “والعرب إنّما كانت تسمّي بكلب وحمار وحجر وجُعْل وحنظلة وقرد، على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا وُلد له ذكر خرج يتعرّض لزجْر الطير والفأل، فإن سمع إنسانا يقول حَجَرا -أو رأى حجرا- سمّى ابنه به وتفاءل فيه الشدّة والصلابة والبقاء والصبر، وأنّه يحطم ما لقيـ[ـه]. وكذلك إن سمع إنسانا يقول ذئبا -أو رأى ذئبا- تأوّل فيه الفطنة.. والمكر والكسب. وإن كان حمارا تأوّل فيه طول العمر والوقاحة والقوّة والجَلَد. وإن كان كلبا تأوّل فيه الحراسة واليقظة وبُعْدَ الصوت والكسب”.
ويبدو أن تسمية الصّدفة هذه بقيت في العرب حتى زمنٍ قريب، ثم اتّسعت لتشمل الشهور والأيام، ولم تكن منتشرةً في القديم؛ فالمؤرّخ العُمانيّ سالم بن حمود الإباضيّ (ت 1414هـ) يقول في كتابه ‘إسعاف الأعيان بأنساب أهل عُمَان‘: “اعلمْ أن غالب تسميات العرب منقولة من أحوال ترِد بهم، كحرب لمن يولد في الحرب، وحارب كذلك، وربيعة من يولد في الربيع أو [يوم] الأربعاء، أو خميس لمن يولد يوم الخميس، وجمعة لمن يولد يوم الجمعة… وكذلك: شعبان ورمضان ورجب لمن يولد في هذه الأشهر”.
الأثر الإسلامي
وإذا كان الإسلام قد قلب واقع العرب رأسًا على عقب، فإنّ أثره في الأسماء كان أوضح من غيره، وقد كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلّم فلسفةٌ خاصّة في تسمية الأعلام، لم تكن مقتصرةً على المواليد بل تعدّتها إلى الكبار، خاصّة إذا دخلوا في الإسلام.
وتبديلُ الاسم عند الدخول في الإسلام تصرّفٌ نبويٌّ غاية في الرمزيّة، فالإنسان إذا أسلم، كأنما وُلد من جديد فاستحقّ اسمًا جديدًا، ويكون الاسم النبويُّ عادةً مخالفًا لما دأب عليه العربُ من التسمية بالأسماء القاسية الخشنة، أو تلك التي لها دلالة وثنية، أو تحمل فألا سيئا أو معنى غير محبَّب. وقد عقد البخاريّ (ت 256هـ) –في صحيحه- أبوابًا عدّة للتسمية مثل: “باب أحبّ الأسماء إلى الله”، وباب “تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه”.
وروى بإسناده إلى سعيد بن المسيّب (ت 93هـ) أن جدَّه ‘حَزْنًا‘ قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: «ما اسمك؟» قال: اسمي حَزْنٌ [ومعناه: الصعب]، قال: «بل أنت سهل»، قال: ما أنا بمغيِّر اسما سمّانيه أبي. وجاء في بعض رواياته أنّ حَزْنًا هذا قال: “إنّما السهولة للحمار”! فكره تغيير اسمه.
وكأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد أن يهيّئ العرب لحياة جديدة غير حياة الاقتتال والتنازع والقساوة، ويؤيّد ذلك ما ذكره أبو داود السجستاني (ت 275هـ) -في سننه- من أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم “سمّى حربًا سِلمًا”.
وقد ذكر أبو داود مع هذا معانيَ أخرى تُجْمل الفلسفة النبويّة في اختيار الأسماء، وذلك في: “باب في تغيير الاسم القبيح”؛ قال فيه: “وغيَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم اسمَ العاصِ وعزيزٍ وعَتَلَةَ وشَيطانٍ والحَكَمِ وغُرابٍ وحُبابٍ، وشهابٍ فسماه هشاماً، وسمّى المضطجع المنبعث”.
ولم يقتصر هذا التغيير على الرجال فقط بل تعداهم إلى النساء؛ فقد ذكر أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ) -في كتابه ‘معرفة الصحابة‘- أن جميلة بنت ثابت أم عاصم بن عمر بن الخطاب “كانت تُسمَّى ‘عاصية‘ فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‘جميلة‘”، وعلق الأصفهاني -ملاحظا الفلسفة النبوية هنا- فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم “كان يتفاءل بالاسم”! وقال ابن سعد -في ‘الطبقات الكبرى‘- إن الصحابية مطيعة بنت النعمان الأنصارية “كان اسمها ‘عاصية‘ فسماها رسول الله ‘مطيعة‘”.
بل إن النبي كان يغير الأسماء التي توحي بتزكية النفس ومدحها، ومن أدلة ذلك ونماذجه ما رواه مسلم -في صحيحه- عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي ‘برة‘، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم، إن الله أعلم بأهل البر منكم»، فقالوا: بم نسميها؟ قال: «سموها زينب».
وإذا كان التغيير هنا حصل في اسم مولودة صغيرة، فإنه شمل غيرها من البالغات من باب أولى؛ حتى ولو كانت من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة أيضا ما أورده ابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ) -في ‘الاستيعاب في معرفة الأصحاب‘- من أن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث الخزاعية (ت 57هـ) “لم يختلفوا أن اسمها كان ‘بَرَّة‘ فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‘جويرية‘”.
ومن طرائف أمثلة تغييره صلى الله عليه وسلم للأسماء تفاؤلا أنه كان يغير ما يوحي منها بالكسل إلى ما يدل على النشاط، كما ذكرناه سابقا عند أبي داود -في السنن- من أنه “سمّى المُضطجع المُنبعث”؛ أو تغييره الاسم الذي يفيد بالقلة إلى ما يعني الكثرة، فقد نقل الخطيب البغدادي –في كتابه ‘تالي تلخيص المتشابه‘- بسنده إلى صبيح ابن سعيد النجاشي المدني أن أمه “كانت اسمها عِنَبَة فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عُنقودة”!ومن لطيف ذلك أيضا تغيير اسم نسائي وحشي اللفظ إلى آخر سلِس مأنوس؛ فقد أورد جمال الدين المزي (ت 742هـ) -في ‘تهذيب الكمال في أسماء الرجال‘- أن إحدى الصحابيات “كان اسمها ‘الجَهْدَمَة‘ فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‘ليلى‘”.
وقد أتْبع أبو داود ما ذكره من تغيير النبي صلى الله عليه وسلم للأسماء بما هو أطرف؛ إذ وضّح أن التغيير النبويّ للأسماء القبيحة لم يقتصر على الأفراد والبشر، بل شمل القبائل والأرضين والآبار؛ فذكر أن “أرضاً تُسمَّى عَفِرةَ سماها خَضِرَة، وشِعْبَ الضَّلالة سَمَّاه شِعبَ الهُدى، وبنو الزَّنْيَة سمّاهم بني الرَّشدَة، وسمَّى بني مُغوِيَة بني رِشْدة”! مع أن الزَّنية هنا معناها الولد الأخير في العائلة وليست بمعنى الزنا، ولكنه غيّر اسمهم العائلي درْءاً لتوهم العار بهم.
ومن هذا الباب ما ذكره ابن منظور -في ‘لسان العرب‘- من أن مدينة النبي صلى اللّه عليه وسلم كان اسمها يَثْرِبُ “فغَيَّرها وسماها طَيْبةَ وطابةَ كَراهِيةَ التَّثْرِيبِ، وهو اللَّوْمُ والتَعْيير”. ونقل المقريزي (ت 845هـ) –في ‘إمتاع الأسماع‘- عن الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان “يشرب من بئر لبني أمية من الأنصار… تُسمّى العسيرة فسماها اليسيرة”!
وإنما كان عليه الصلاة والسلام يفعلُ ذلك لأثر الاسم في النفس، وكما قيل فـ”لكلّ [أحد] من اسمه نصيب”. بل إنّ سعيد بن المسيّب كان يرى ذلك الأثر ممتدًّا وراثيًّا عبر الأجيال في عائلته؛ فقال: “فما زالت فينا الحُزُونة بعدُ”، أي أن الصعوبة بقيت ممتدّة في ذرية جدّه ‘حَزْنٍ‘ جيلًا فجيلًا!
ولعلّ المقاصد النبويّة كانت تَظهرُ أكثر في الألقاب التي كان يخلعُها على أصحابه المخلصين، كتلقيبه أبا بكر بـ‘الصدّيق‘، وعمر بـ‘الفاروق‘، ومثل تلقيبه حمزة بـ‘أسد الله‘ و‘سيد الشهداء‘، وخالدًا بـ‘سيف الله‘، وغير ذلك من الألقاب ذات الأثر الطيّب، المُلقية على حاملها شرفًا عظيمًا ومسؤولية أكبر في استحقاق ذلك اللقب.
وكما استعمل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك في تكريم أصحابه وتعزيزهم، فقد اتخذه سلاحًا يكيدُ به عدوّه، لاسيّما زمن الكفاح السلميّ بمكّة؛ فكنّى عمرو بن هشام -الشهير بأبي الحكم- ‘أبا جهل‘! ثمّ لما أسلم ولده عكرمة نهى عن تكنيته بذلك إكرامًا للولد المسلم وصيانةً لمشاعره. كما لقّب أسماء بنت أبي بكر (ت 73هـ) “ذات النطاقين” مكافأة لجهود إسنادها له ولوالدها في الهجرة من مكة إلى المدينة.
بقي ملحظٌ مهمٌّ في الفلسفة النبويّة في اختيار الأسماء، إذ جعل النبيُّ عليه الصلاة والسلام أمر الاسم من شأن الإنسان، فلم يتعسّف –وحاشاه أن يفعل- في فرض اسمٍ على أحد، بل ترك “حَزْنًا” وما اختاره من تسمية أبيه له؛ فالاسم من خصوصيات الرجل، وهو حقُّه وحقُّ أبيه كما شرح حَزْنٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله عاصيًا ولا منافقًا بفعله ذلك، بل احترم رغبته وإرادته، وهو يعلمُ أن الامتثال لمقترح النبيّ صلى الله عليه وسلم خيرٌ له.
غرابة ظاهرية
ثمة أسماء عربية غريبة في ظاهرها لكنها جميلة في باطنها؛ ومن أشهرها: كلب وكُليب وكلاب، وقد سبق أن الجاحظ ذكر تسميتهم بالكلب لمعانٍ جميلة فيه، ووافقه في ذلك أبو البقاء الدميري (ت 808هـ) -في كتابه ‘حياة الحيوان الكبرى‘- حين قال: “والكلب حيوان شديد الرياضة كثير الوفاء، وهو لا سبع ولا بهيمة، حتى كأنه من الخَلْق المركَّب؛ لأنه لو تم له طباع السبعية ما ألف الناس، ولو تم له طباع البهيمية ما أكل لحم الحيوان”.
لكنني رأيتُ لاسم كلب تفسيرًا آخر؛ إذ ذكر ابن سِيدَهْ الأندلسي (ت 458هـ) -في كتابه ‘المحكم والمحيط الأعظم‘- أن الكلب: “كلُّ سَبُعٍ عَقُور” (العَقُور: المفترس)، ثم قال: “وقد غَلَبَ [هذا الاسم] على الكلبِ النّابحِ”. ولعلّ أوّل من سَمّى كلبًا من العرب قصد السّبُع، ثم تداوله الناسُ وتواطؤوا عليه، قال الجاحظ في ‘الحيوان‘: “فإذا صار حمارٌ أو ثورٌ أو كلبٌ اسمَ رجلٍ معظَّم، تتابعت عليه العربُ… ثم يكثر ذلك في ولده خاصّة بعدَه”.
أما كلاب فهو جمعُ كلب، وكانت العربُ تسمي بأسماء الوحوش فردًا وجمعًا، سموه بذلك طلبًا للكثرة كما سمَّوا بلفظ سباع وأنمار؛ كما نقل عنهم الدميري. غير أنّه ذكر احتمالًا آخر في تفسيره، وهو أن يكون “منقولًا من المصدر الذي هو في معنى المكالبة (= تهارش الكلاب)، نحو كالبتُ العدوَّ مكالبةً وكِلابًا”، فيكون اسم كلاب بمعنى اسم حرب، لا أنه جمعُ كلب.
ومثله اسمُ جَحْش، فإنّ العرب كانت تُطلق “الجحش” على المُهر وعلى ولد الظبية؛ كما في ‘لسان العرب‘ لابن منظور. وكانت تُسمي القتال جَحْشًا وجِحاشًا، وهو كما قال الأزهري في ‘تهذيب اللغة‘: “مُدَافَعَة الإنسانِ الشيءَ عن نفسه وعن غيره”. ولذلك قالوا: الجحشُ: الجفاء والغلظ، والجحشُ: الجهاد للعدو، وهذا موافقٌ لمذهب العرب في التسمية بالأسماء القاسية المرهِبة للأعداء.
كُنى العرب
الكُنية تكادُ تكون خصيصةً للعرب لا يعرفُها غيرهم، ولهم فيها مذاهبُ تستحقُّ التأمل. وقد كانوا يتيمّنون بها -كما يفعلون بالأسماء- ويتناقلونها ويتوارثونها؛ قال الجاحظ: “وعلى ذلك سمّت الرعية بنيها وبناتها بأسماء رجال الملوك ونسائهم، وعلى ذلك صار كلّ ‘عليّ‘ يكنى بأبي الحسن، وكل ‘عمر‘ يكنى بأبي حفص، وأشباه ذلك”. ونقل الذهبي –في ‘تاريخ الإسلام‘- أن “أهل الشام يسمّون أولادهم بأسماء خلفاء الله”، ويقصدون بذلك الخلفاء الأمويين.
والعرب وإن كان اشتهر عنهم التكنّي بأكبر الأبناء الذكور، فإنهم نُقلت عنهم مذاهبُ أخرى في ذلك لا تخلو من الطرافة. فقد عرفوا الكُنية بالبنت مع وجود الأبناء الذكور وغيابهم، وممن عُرف بذلك الصحابيُّ الجليل تميم بن أوسٍ الداريّ (ت 40هـ)، قال ابن الأثير (ت 630هـ) في كتابه ‘أسد الغابة في معرفة الصحابة‘: “يكنى أبا رقية بابنته رقية، لم يولد له غيرها”.
وقبله في الجاهلية كان ملك الحيرة عمرو بن هند اللخمي، نسبوه إلى أمّه ‘هند‘ وكنَّوْه بها: فقال فيه عمرو بن كلثوم في معلّقته: أبا هندٍ فلا تعجل علينا *** وأنظرنا نخبّرك اليقينا!
ولعلّ منه كُنية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو ‘أبو حفص‘ وحفص ترخيمٌ (تدليل) لحفصة، وقد تكنى بها وعنده ابنه عبد الله وهو من هو في العلم والقدْر والإمامة.
وقد يتكنى الإنسان بابن أخيه أو أخته، كما قيل في أم المؤمنين عائشة أنها تكنت ‘أم عبد الله‘ بابن أختها عبد الله بن الزبير (ت 73هـ). أو قد يتكنى بما يفعله من أعمال الخير وخدمة المجتمع، كما في لقب “أم المساكين” الذي أطلِق على أم المؤمنين زينب بنت خزيمة الهلالية (ت 4هـ) “لكثرة إطعامها المساكين”؛ كما يقول الحافظ جمال الدين المزي في ‘تهذيب الكمال في أسماء الرجال‘. بل إن ابن سعد يخبرنا -في كتابه ‘الطبقات‘- بأنها نالت ذلك اللقب قبل الإسلام؛ فقال إنها “كانت تُسمى بذلك في الجاهلية”!
وقد يتكنّى أحدهم بحيوانه الأليف كما كنى النبيّ صلى الله عليه وسلّم صاحبه ‘أبا هريرة‘ بهِرّته التي كان يضعها في كُمّه. بل ويتكنَّون بالجماد مزاحًا وملاطفةً ومداعبةً كما كنى النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًّا ‘أبا تُراب‘.
أسماء النساء
على خلاف الرجال؛ كانت أسماء النساء كثيرًا ما تدلُّ على أوصافٍ لها علاقة بالجمال شكلًا ورُوحًا، وقد يُتعرّف بها على معايير الجمال عند العرب القدماء، والتي تختلفُ كثيرًا عن المعايير الحديثة. كما شاركت النساءُ الرجالَ في الأسماء التي يُتفاءل بها بالحياة والسلامة وطول العمر كعائشة، أو بكثرة الإنجاب كولّادة وفاطمة، فالذي أفهمه من معنى فاطمة أنهم يتفاءلون بأن تكبر وتحمل وتلد وتفطمَ على عجلٍ طلبًا للإنجاب أو بسبب الحمل.
وكثـُر في أسماء النساء ما يدلُّ على الجمال، مثل: جميلة وحسناء وأسماء (وأصلُه وَسماء أي: حسناء)، كما وُجد في الرجال أسماء مشابهة مثل: جميل وحسن وحسين، وكانوا أيضا يسمون الرجل ‘أسماء‘ مثل الصحابي الأمير أسماء بن خارجة الفَزاري (ت 66هـ).
وأما الصفات الجمالية التفصيلية فمنها ما يتعلق باللون؛ ولذلك سمّوا: ‘غرّاء‘ وهي البيضاء المشرقة الوجه، تشبيهًا بالخيل الغُرّ؛ وسمّوا ‘بيضاء‘ أيضًا كالبيضاء بنت عبد المطلب عمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، و‘عفراء‘ كما في اسم محبوبة عُروة بن حزام (ت 30هـ) الشاعر العذريّ الشهير، وعفراء هي التي تشوبُ بياضَها حُمرةٌ.
ويبدو أن مذهبهم في اللون كان واسعًا وأذواقهم فيه متعددة جدًّا؛ فمن التسمية بالألوان ‘سمراء‘ و‘سوداء‘ كما في اسم الصحابية سوداء بنت عاصم العدوية، واسم ‘سودة‘ سُميت به أم المؤمنين سودة بنت زمعة القرشية (ت 54هـ)، وسموا أيضا بـ‘صفراء‘ كما في اسم صفراء بنت عبد الله الجرمية محبوبة الشاعر الفارس بَيْهَس بن صهيب الجرمي، وقد عاشا في القرن الهجري الأول.
وكانوا يحمدون سعة العينين فسمّوا الأنثى حوراء ونجلاء، وكانوا يحبّون طول الأعناق فسمّوا بأسماء الغزال فقالوا: غزالة وظبية وخولة وكلّها بمعنىً واحد، وكذلك اسم جيداء وهي الطويلة العنق، ومن الأوصاف التي كانوا يذكرونها وبقيت إلى زمنٍ قريب من معايير الجمال في البلاد العربية: امتلاء الذراعين والساقين، ومنه اسم عبلة.
وكانت أسماء النساء محلّ تزيين وتدليل، فكانوا يرخّمونها (الترخيم: حذف الحرف الأخير من الاسم اختصارا أو تحبُّبا)، وكانوا يمنحون الألقاب المشتقة من الاسم، ولم يستثنوا من ذلك العالمات المشتغلات بالعلوم الشرعية والتحديث، فلم تمنعهم مكانتهن العلمية من تدليلهنّ بالألقاب الأثيرة اللطيفة المشتقة من أسمائهنّ أحيانًا.
فقد ذكرت لنا كتب تراجم المحدثين طرفًا من ذلك، فهذه كريمة المروزية (ت 465هـ) –وهي من رواة صحيح البخاري- كانوا يسمونها ‘أم الكرام كريمة‘، ومثلها وزيرة بنت يحيى الثعلبي (ت 715هـ) كانوا يلقبونها ‘ستُّ الوزراء وزيرة‘، وأطلقوا اللقب نفسه على سمِيَّتِها ومعاصرتها وزيرة بنت المُنجا التنوخية (ت 722هـ)، أما شُهْدَة الكاتبة (ت 574هـ) فكانت تُسمى ‘ستّ الدار‘.
ترويج وتدليل
ثمة ملحظٌ آخرُ في الأسماء يلاحظه المطالع لسير الخلفاء وخاصّة العباسيين منهم، إذ أكثرُ أمهاتهم ممن يسمّون ‘أمّهات أولاد‘، وهن إماء أنجبن لمالكيهنّ فأصبحن في حكم الحرائر. وقد صنّف الإمام ابن حزم الأندلسيّ (ت 456هـ) رسالة بعنوان ‘أمّهات الخلفاء‘، فذكر من أسمائهنّ ما له طابعٌ تسويقيّ صريح؛ ومما ذكره: أمّ المهتدي وهي روميّة اسمها: قُرْبٌ، وأمّ المقتدر اسمها: شغب. وأمّ القاهر: قَتول، وأمّ الراضي: ظلُوم، وأمّ المتَّقي: خلوب، وأمّ المستكفي: غُصْن، وأمّ المطيع: شعلة. وكلهنّ أمهات أولاد.
وذكر محمد بن شاكر الكتبي (ت 764هـ) -في كتابه ‘فوات الوفيات‘- أم المستضيء بالله فقال إنها أم ولد أرمنية اسمها: غضّة. وأعجبُ منها أمُّ القائم بالله العباسي التي هي أم ولد أرمنية كان اسمها ‘بدر الدجى‘؛ كما جاء في ‘تاريخ الإسلام‘ للذهبيّ، وقال بعضهم إن اسمها: ‘قَطْرُ النّدى‘.
ولم يكن ملوك بني أمية في الأندلس بعيدين من هذا المذهب؛ فهذا الأمير عبد الرحمن الأوسط بن الحكم (ت 238هـ)، أمه أم ولد اسمها: حلاوة، كما جاء في ‘الملتمس في تاريخ رجال الأندلس‘ لأبي جعفر الضبي (ت 599هـ). وكذلك سلطان دولة الموحدين بالمغرب المستنصر بالله (ت 620هـ)؛ فقد ذكر الذهبيّ أيضًا أن أمه أم ولد رومية اسمها قمر، ويبدو أنّ ابنها ورث شيئًا من جمالها، إذ وصفه الذهبيّ بأنه “لم يكن في بني عبد المؤمن أحسن منه صورة”!!
ومعلومٌ أن غرابة الاسم قد تتسببُ في شهرة الإنسان وتميّزه عن غيره، وكذلك كُنيته؛ وفي ذلك نصٌّ لطيفٌ اصطاده شيخ المحققين عبد السلام هارون (ت 1408هـ)، وضمّنه كتابه البديع ‘كُنَّاشَةُ النوادر‘. فقد ذكر عن أبي حيان الأندلسيّ (ت 745هـ) أنه قال: “إذا كانت الكنية غريبة -لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنّى بها في عصره- فإنه يطير بها ذِكرُه في الآفاق، وتتهادى أخبارَه الرفاق”.
ثمّ ينقل عن أبي حيان استدلاله -في تفسيره للقرآن- على أثر غرابة الكنية في شهرة صاحبها من واقعه الشخصيّ، وذلك بقوله عند الآية الكريمة ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾: “كما جرى في كنيتي بـ‘أبي حيان‘ واسمي محمد، فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر -مما يقع فيه الاشتراك- لم أشتهر تلك الشهرة”. قال الشيخ عبد السلام: “وهذا نصٌّ غريب يصدر من عالم جليل له علمه وفضله، يقدم لنا دراسة نفسية في بعض أسباب الشهرة، ولم نر مثل هذا النص من قبل ولا من بعد لعالم فاضل”.
وقد اشتهر اليوم في بلاد الشام والجزيرة وغيرها أن يدلّلوا الأبناء بقولهم: عبّود وحمّود وأشباهها، وهو عرف قديم؛ فقد فشا في بلاد المغرب والأندلس كما يذكر عبد السلام هارون أيضًا، قال: ومن أسمائهم أيضًا: ‘عبود‘، وحمود وعبود تسميتان عربيتان فصيحتان”، ثم نقل عن أبي حيان الأندلسيّ قوله: “وهم يسمون عبد الله عبودًا ومحمدًا حمّودًا”. إلى أن قال: “فكأن هذه الصيغة عندهم تسمية تدليل كما هو الشائع في التسمية في وقتنا هذا”.
ثم عقّب شيخ المحققين بقوله: “وأهل المغرب والأندلس يتسمون بزيدون وحمدون وفتحون ورحمون وحسنون وحفصون وسمحون (بل إنهم سمَّوا به نساءهم ومن أشهر أمثلة ذلك اسم الشاعرة نزهون بنت القلاعي الغرناطية المتوفاة 550هـ)، وتعليل هذه التسمية قد يرجع إلى إرادة التفخيم بصيغة كصيغة الجمع”؛ كذا قال رحمه الله.
لكن الدكتور إبراهيم السامرائي (ت 2001هـ) يؤكد –في دراسته اللطيفة بعنوان ‘الأعلام العربية.. دراسة لغوية اجتماعية‘- أن الواو والنون في هذه الأسماء علامة لتصغير الاسم، يقول: “ويكثر في أعلامهم (= المغاربة والأندلسيين) التصغير بزيادة الواو والنون في آخر الاسم”، مضيفا أن هذه الصيغة موجودة أيضا في اللغة السريانية.
استيراد وتعويذ
والعربُ -على كل ما سبق- لم يستغنوا بأسمائهم المحلّية حتى استوردوا أسماء من محيطهم القريب، فسمّوا بأسماء ملوك الفرس كما سموا بملوك العرب؛ فهذا نشوان الحميري (ت بعد 573هـ) يرى –في كتابه ‘شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم‘- أن اسم “بِسْطام ليس من أسماء العرب، وإنما [هو اسم] ملك من ملوك فارس -كما سمَّوْا قابوس ودَخْتَنوس (= اسم نسائي)- فعرّبوه بكسر الباء”.
وفي الأسماء العربية المعاصرة كثيرٌ من الأسماء عربيّة الأصل التي اقتبسها غير العرب، ثم عادت إلى بلاد العرب متأثّرةً بلغة المقتبِسين، في عمليّة يمكن أن نسمّيها “تبييض الأسماء” قياسًا على “تبييض الأموال”، غير أنه تبييض ليس فيه فساد.
فمن مشهور ذلك الأسماءُ العربية مفتوحة التاء مثل: حكمت وشوكت ورفعت ورأفت وغيرها، فهذه كلّها بتاء مربوطة، لكن الأتراك اقتبسوها ففتحوا تاءها كعادتهم، ثم عادت أيام سيادة الأتراك العثمانيين على البلاد الإسلامية فتسمّى بها العرب، وبقيت حتى يومنا هذا.
وإن كانت الأمثلة السابقة واضحة الأصل، فقد تغيّرت بعضُ الأعلام حتى خفي أصلُها العربيّ، وأغربُ مثالٍ عليها: اسمُ ‘هياتم‘ المشتهر بمصر، فأصلُه العربيّ ‘حياة‘ غير أن الأتراك أضافوا إليه ميم الملكية لتصبح ‘حياتم‘ أي: ‘حياتي‘، ولما كان الأتراك لا يلفظون الحاء فقد تحولت اللفظة إلى صورتها هذه، ثم تسمّى بها العربُ بعدُ وخفي عليهم أصلُها.
ومن العادات الغريبة التي كانت منتشرةً في البلاد العربية أن يُسمُّوا الولد أو البنت اسمًا شنيعًا خوفًا من الحسد، وأطرفُ ما وقعتُ عليه من ذلك ما ذكره محمّد صادق زلزلة في كتابه ‘قصص الأمثال العاميّة‘ بالعراق، في قصّة المثل: “بعدك ما خرجت من الحظيرة”.
وخلاصة ما ذكره زلزلة أنّ رجلًا وُلد له ولدٌ فسمّاه ‘محمّدًا‘ فمات، ثم وُلد له آخر فسماه ‘محمّدا‘ فمات هو الآخر، فوقع في قلبه وقلب زوجه أن الناس حسدوهما، فقالوا: نسمّي اسمًا شنيعًا يحقّره في أعين الناس فلا يحسده أحد، فرُزقا مولودًا فسمّوه: “ازْمَال” وهو الحمار بلسان أهل العراق، وكانت المفاجأة أن عاش “ازْمال” بخلاف من سبقه، ثم ابتسمت له الدُّنيا فاغتنى وتزوّج امرأة صالحةً حكيمة، غير أنه بقيت فيه بلاهةٌ ربّما كان لاسمه دورٌ فيها!!
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website