تزخر مكتباتنا بعشرات – بل مئات – كتب التاريخ العربية والإسلامية، التي تتناول فترة اجتياح المغول للدولة العباسية وقتلهم الخليفة المستعصم بالله في العام 1258، فتصورّهم على أنهم أولئك الغزاة القساة الذين جاؤوا من الشرق ليُسقطوا حضارة المسلمين.
وعند الحديث عن رموز المغول، فغالباً ما يأتي ذكر جنكيز خان وحفيده هولاكو الذي قاد الحملة على بغداد، دون أن يتم التطرق إلى أحد أعظم قادة المغول: بركة خان.
بركة خان – أو بيركاي خان -، ابن جوجي خان، وحفيد القائد المغولي العظيم جنكيز خان.
وكغيره من المغول، بدأ بركة خان مسيرته العسكرية في سن صغيرة.
وساهم في الكثير من الحملات العسكرية، لكنَّ أبرز النقاط في حياته المهنية كانت حكمه للقبيلة الذهبية بين عامي 1257 و1266، التي كانت واحدة من أقوى الولايات داخل الإمبراطورية المغولية.
زوجة أبي بركة خان وراء حبه المبكّر للإسلام
خلال المعارك التي خاضها المغول في أواسط آسيا، تمكنوا من القضاء على الدولة الخوارزمية بقيادة السلطان جلال الدين منكبرتي، واتخذ جوجي خان – والد بركة – من الأميرة رسالة بنت السلطان علاء الدين خوارزم شاه زوجةً له.
لم تكن رسالة بنت علاء الدين والدة بركة، لكنها تركت أثراً كبيراً فيه وفي أخيه الأكبر باتو، فكانا دائمي الدفاع عن المسلمين.
اعتنق بركة الإسلام في العام 1252 في بخارى، وقيل إنه التقى بقافلة كانت تمر عبر المدينة وسألهم عن دينهم. ولما أعجب بالمفاهيم الإسلامية مثل تحريم عبادة الأيقونات والعقيدة الإسلامية، اعتنق الإسلام وظل متديناً طوال حياته.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
باتو خان يقنع هولاكو بعدم مهاجمة المسلمين
غير بعيدٍ عن “القبيلة الذهبية” التي كان يحكمها باتو خان، كان هولاكو خان حفيداً آخر من أحفاد جنكيز خان (وابن عم بركة)، وكان زعيم الدولة الإلخانية، التي كانت ولايةً أخرى شبه مستقلة داخل الإمبراطورية المغولية.
يقول موقع Political Periscope المختص في التاريخ، إن هولاكو كان مفتوناً بجمال قرينته المسيحية دوقوز خاتون، وأضمر كراهية لكل من كانت تكرههم خاتون.
وعندما زار رسل الكنيسة النسطورية هولاكو، وجدوا من السهل تأليبه ضد المسلمين، ما دفع هولاكو لمهاجمة الدولة العباسية إرضاءً لزوجته.
وفور معرفة بركة خان بنوايا ابن عمه تجاه العباسيين، طلب من أخيه باتو مراسلة هولاكو وثنيه عن اجتياح الدولة العباسية، على اعتبار أن الخليفة المستعصم بالله صديقٌ شخصيٌ له.
وبالفعل، رضخ هولاكو لرغبة باتو، وأوقف هجومه على الدولة العباسية.
هولاكو يجتاح بغداد بعد وفاة ابنه عمه باتو
وبعد وفاة باتو خان في العام 1255، بدء هولاكو حملاته الدموية من بلاد فارس في العام 1256، فأسقط جميع الدول الكبرى تقريباً التي وقفت في طريقه.
وفي العام 1258، بعد معركة بغداد، دمرت قوات هولاكو الخلافة العباسية وقتل الخليفة المستعصم بالله، مسدداً ضربةً قوية للعالم الإسلامي.
وبعد الإجهاز على الدولة العباسية، أكمل القائد المغولي حملته، فتوجه غرباً ليُسقط الأيوبيون في دمشق.
وعملاً بنظرية “عدو عدوي صديقي”، كانت الكثير من الممالك المسيحية – بما في ذلك الكثير من الولايات الصليبية في الشام -، سعداء بتقديم الدعم إلى المغول.
المماليك يهزمون هولاكو في “عين جالوت”
بعد أن هزم هولاكو جميع القوى المسلمة في غرب آسيا، حول اهتمامه، بمساعدة الدول التابعة له مثل مملكتي جورجيا ومملكة أرمينيا الصغرى، ناحية السلطنة المملوكية، فأرسل مبعوثه إلى السلطان سيف الدين قطز، سلطان المماليك، بالرسالة التالية:
“من ملك الملوك شرقاً وغرباً، الخان الأعظم، إلى قطز الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا. اتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد. فأي أرض تأويكم وأي طريق تنجيكم وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق وسيوفنا صواعق وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال. فالحصون لدينا لا تمنع والعساكر لقتالنا لا تنفع.
ودعاؤكم علينا لا يسمع، ونحن لا نرحم من بكى ولا نرق لمن اشتكى. ومن قصد أماننا سلم. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وتدهون منا بأعظم داهية. ولنهدمن مساجدكم ونكشف ضعف إلهكم ونقتل أطفالكم وعجائزكم على حد سواء، فما بقي لنا مقصد سواكم.”
استشاط السلطان سيف الدين قطز غضباً من نبرة الخطاب، لدرجة أنه رد بإعدام مبعوث المغول. وبالطبع لم يكن هذا التصرف مقبولاً في العُرفين الدولي والإسلامي!
وللصدفة، توفي الخان الأعظم في الصين، ما اضطر هولاكو للعودة إلى وطنه لترتيب شؤون البيت الداخلي للدولة المغولية.
رأى الممالك الفرصة سانحة فانتهزوها؛ فقاد السلطان قطز والظاهر ركن الدين بيبرس حملةً ضد قوات المغول المتبقية وتمكنا من هزيمة جنرالات هولاكو وحلفائهم الجورجيين/الأرمن في معركة “عين جالوت” في العام 1260.
لم يرق الأمر لهولاكو، فقرر شنّ حملة ضد المماليك فور عودته من الصين.
هولاكو يبحث عن الثأر.. وبركة خان يدعم المماليك
قرر هولاكو شن حملة ضد دولة المماليك في مصر والشام انتقاماً من هزيمة “عين جالوت” في العام 1262.
وقد كان القائد المغولي صاحب قوة عسكرية أكبر بكثير من قوة المماليك، وكان قادراً على تدمير خصومه.
وكان هذا هو الوقت الذي تدخل فيه بركة خان. إذ كتب بركة في الخطاب الذي وجهه إلى خان المغول العظيم:
“لقد نهب هولاكو جميع مدن المسلمين، وقتل الخليفة. بإذن الله، سوف أحاسبه على هذه الدماء البريئة الكثيرة”
وبالفعل، لم يتمكن هولاكو من شن المزيد من الهجمات على الأراضي الإسلامية.
فكانت حرب بركة – هولاكو في العام 1262 أول حرب أهلية كبيرة في الإمبراطورية المغولية الغربية.
ونتج عن هذه الحرب، التي جرت في جبال القوقاز، النهاية الفعلية لقوة هولاكو.
حطم نوجاي – أحد قادة جيوش بركة خان -، قوات هولاكو بالقرب من نهر تيريك، وأجبر الأخير على التراجع.
ومات هولاكو في العام 1265 لينتهي بذلك عهد إرهابه ضد المسلمين.
وبينما كان بركة خان سريعاً في الاستجابة للأزمة، فقد كان متردداً في قتال هولاكو، ابن عمه. إذ يقول:
“المغول يُقتلون بسيوف مغولية. لو كنا متحدين، لكنا قد أخضعنا العالم بأسره”.
لكنَّ بركة لم يستطع الجلوس ساكناً ومشاهدة هولاكو يقتل ملايين الأبرياء.
بركة خان.. أدخل “القبيلة الذهبية” في الإسلام
توفي بركة خان بعد عام تقريباً من هولاكو، وخلفه حفيد أخيه منغو تيمور الذي واصل سياسة بركة من التحالف مع المماليك ومعارضة الدولة الإلخانية.
وفي الفترة القصيرة التي قضاها بركة خان حاكماً لـ “القبيلة الذهبية”، ترك إرثاً كبيراً للمسلمين. فبينما يعتبر معظم المؤرخين معركة “عين جالوت” الحدث الحاسم الذي أوقف هجوم المغول، فقد كان هذا الانتصار جزئياً فحسب.
فهولاكو نفسه لم يكن جزءاً من المعركة. ومع أنَّ المماليك كانوا أقل عدداً وكفاءة، وكانت هزيمة جنرالات هولاكو وحلفائه إنجازاً جديراً بالثناء، فإنَّ التهديد لم يجر تجنبه بالكامل.
لم تتوقف المجازر التي تعرض لها المسلمون إلا من خلال جهود بركة خان، فقد أنقذ تدخله المدن الإسلامية المقدسة، بما في ذلك مكة والمدينة والقدس، من قوات هولاكو.
يشار إلى أن بركة خان كان أحد أوائل القادة المغول الذين اعتنقوا الإسلام، حتى تبعه معظم مواطني “القبيلة الذهبية” في دخول الدين.