قبل أكثر من قرنٍ من الزمان، وتحديداً في العام 1915، شهدت شبه جزيرة غاليبولي المطلة على مضيق الدردنيل معركةً غيّرت تاريخ تركيا الحديثة.
فتحت إشراف مصطفى كمال باشا ومحمد أسعد باشا وجواد باشا، أنزل العثمانيون المتمركزون في جناق قلعة هزيمة مدوّية بقوات الحلفاء؛ وعلى رأسها الجيش البريطاني الذي ساندته وحدات أسترالية ونيوزيلاندية.
انتصارات جيش الإمبراطورية العثمانية، صدّت هجوم الحلفاء على تركيا الحديثة، ودعمت موقف جنرالات الإمبراطورية العثمانية في مفاوضاتهم حول استقلال تركيا.
حملة غاليبولي.. صفعةٌ مدوية لطموح تشرشل
تعد حملة غاليبولي إحدى النقاط السوداء في تاريخ الجيش البريطاني، ناهيك عن فشلها في حلم رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل في الاستيلاء على المضائق البحرية الحيوية جنوب أوروبا.
كانت معركة غاليبولي والعمليات الغواصة مفتاح تشرشل لتغيير موازين القوى في الحرب العالمية الأولى؛ فأرسل أكثر من 10 فرق عسكرية بريطانية لسلب العثمانيين وحلفائهم الألمان من أحد أهم مضائقهم.
وفي الوقت الذي كان يعاني فيه البريطانيون على الجبهة الغربية، استنزفت حملة غاليبولي في الدردنيل أهم الأصول البريطانية، قوتها البحرية.
كان من المخطط أن يشق أسطول القوات البريطانية والفرنسية المشتركة طريقه خلال مضيق الدردنيل الذي يفصل شبه جزيرة غاليبولي في أوروبا عن آسيا، ليصل إلى اسطنبول – عاصمة تركيا العثمانية – حليفة ألمانيا.
وبالسيطرة على اسطنبول وخروج تركيا من الحرب، سيساعد ذلك روسيا ويسمح لجيش كبير من دول البلقان مثل رومانيا واليونان بالسيطرة على منطقة البلقان. وسيقلب ذلك الاحتمالات بشكل حاسم لصالح الحلفاء.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لكن الواقع جاء مخالفاً تماماً؛ إذ سجّل تاريخ معركة غاليبولي استماتتة الجنود العثمانيين في الدفاع عمّا عُرف لاحقاً بـ “جناق قلعة ملحمة القرن”.
اكتسبت حرب غاليبولي مكانة مميزة، وتناولت الكثير من الكتب والأفلام ومقالات الصحف قصة معركة غاليبولي وأضفت عليها طابعاُ درامياً، تختلط فيه الواقع بالأكاذيب والأساطير.
فيما يلي، نحاول تمييز الحقائق عن الأكاذيب – نقلاً عن موقع History Extra البريطاني:
1: كانت حملة غاليبولي فكرة جيدة.. أفشلها سوء التنفيذ!
في العام 1930، وصف الجنرال البريطاني السير جورج ماكمون معركة غاليبولي أو حملة الدردنيل، بأنها “أسوأ حماقة أغوت قليلي الخبرة على الإطلاق”.
ولا يزال الكثيرون يعتقدون أن تشرشل خطط لضربة استراتيجية عظيمة، أفشلها سوء تنفيذ قادة القوات البحرية والعسكرية البريطانية والفرنسية.
لكن الدراسات التاريخية الحديثة توصلت إلى نتيجة مختلفة تماماً؛ أن الفكرة كانت طموحةً بشكل مفرط وأكثر من اللازم، وكانت عناصر التخطيط والاستخبارات ناقصة، وتم الاستهتار والتقليل من شأت قدرة الأتراك على الصمود والقتال، كما كانت الموارد المقدّرة لتلك العملية ضعيفة.
باختصار، كانت أبعد ما تكون عن إستراتيجية عبقرية حاسمة لإنهاء الحرب، بل كانت رعونة حمقاء ستفشل – بنفس معطياتها – في كل مرة.
بداية، اعتمدت الخطة على أن تشق القوات البحرية البريطانية والفرنسية طريقها خلال مضيق الدردنيل، لتصل في النهاية إلى العاصمة العثمانية اسطنبول. وفشلت خطة الاعتماد على السفن فقط.
حتى إذا تم إرسال قوات عسكرية لدعم الأسطول، يجب أن يكون حجم القوات أكبر بكثير من تلك التي تم تجنيدها بالفعل، حيث كانت ستحتاج للانتشار على طرفي المضيق – الذي تعتبر جناق قلعة مدينته الرئيسية – للتخلص من الدفاعات الساحلية. ولم تكن مثل هذه القوات متاحة في مارس/آذار 1915.
حتى إذا تم تطهير الألغام من المضيق ومرت السفن الحربية خلاله يظل السؤال: ماذا بعد؟
وزير الخارجية السير إدوارد غراي، اعترف أن حملة الدردنيل كان من المأمول أن تؤدي إلى انقلابٍ عسكري في تركيا وانسحابها من الحرب.
ولم يكن هناك دليل ملموس على إمكانية حدوث مثل هذا الانقلاب.
2: معركة غاليبولي كانت عملية أسترالية – نيوزلندية في الأساس
قد يتذكر التاريخ الخسائر الأسترالية أكثر من غيرها، لكنها في الواقع كانت حملة متعددة الجنسيات.
بسبب أهمية الحملة في تشكل الهوية الأسترالية والنيوزلندية بشكل كبير، تم تهميش مشاركة قوات من جنسيات أخرى في ذاكرة البريطانيين.
في الحقيقة، كانت حملة غاليبولي – بما فيها معركة انزاك كوف – عمليةً متعددةً الجنسيات، تشمل قوات من المملكة المتحدة (إنكلترا، وإسكتلندا، وويلز، وآيرلندا)، إلى جانب نيوفاوندلاند، والهند البريطانية (بما في ذلك جوركا من النيبال)، وفرنسا، والإمبراطورية الفرنسية (تتضمن شمال إفريقيا والسنغاليين)، واليهود الروس (الذين أردوا قتال العثمانيين كخطوة أولى لتأسيس وطن لهم في فلسطين)، فضلاً عن الأستراليين والنيوزيلنديين.
القوات الأسترالية والنيوزلندية شكلت نسبةً بسيطةً نسبياً من مجموع الجنود؛ إذ تألفت قوات الإنزال الأولى في 25 أبريل/نيسان 1915 من 18,100 جندي من قوات أستراليا ونيوزلندا، و16,800 فرنسي، و27,500 بريطاني.
وقد فاق العدد الإجمالي للجنود البريطانيين الذين قاتلوا في غاليبولي عدد الأستراليين بكثير.
وبالتأكيد كانت القوات الفرنسية المقاتلة في شبه الجزيرة أكثر من الأستراليين، لكن ترتيب أستراليا أتى ثانياً من حيث الخسائر.
بلغت خسائر بريطانيا 70,700 ضحية (من بينها 26,000 قتيل)؛ وأستراليا 25,700 ضحية (7,800 قتيل)؛ وفرنسا 23,000 ضحية (8,000 قتيل)؛ ونيوزيلندا 7,100 (2,445 قتيل) والهنود 5,500 (من بينهم 1,682 قتيل).
في المقابل، يشار إلى قوات الدفاع بـ “الأتراك”، رغم أن هذه التسمية ليست دقيقةً تماماً. فقد كانت هذه القوات تنتمي لجيش الإمبراطورية العثمانية.
ومثل الجيوش البريطانية والفرنسية، كان الجيش العثماني متعدد اللغات والجنسيات؛ فقد خدمت قوات وتركية وعربية وغيرها من المكونات العرقية للإمبراطورية العثمانية، إلى جانب مشاركة ضباط ألمان مع الجيش العثماني.
ومع ذلك، فقد أطلقت قوات الإمبراطورية البريطانية على خصمها لقب “جوني التركي”.
3: بفضل فيلم غاليبولي 1981.. معركة “أنزاك كوف” الأولى حوّلت أستراليا إلى أمة!
تحوّلت أستراليا من مجرّد مستعمرةٍ بريطانية إلى أمّة في 25 أبريل/نيسان 1915، وروّج فيلم غاليبولي 1981 لهذه الرواية.
ففي أول يوم بخليج أنزاك وفي معركة “أنزاك كوف” الأولى، رُويت رمال ميناء غاليبولي بدماء شباب أستراليا الذين ضحّى بهم قادة بريطانيون غير أكفاء – وفقاً للرواية القومية الأسترالية.
في الواقع، كان الأمر أكثر تعقيداً. كان أبريل/نيسان 1915 لحظة مهمة في تطور الهوية الأسترالية، سيما مع معارضة الأستراليين للإنكليز.
وكان للصحافي تشارلز بين دورٌ هام في إنضاج الهوية الأسترالية، حيث خدم كمراسل حربي أسترالي رسمي في غاليبولي، وبعد الحرب كتب مجلدات شديدة التأثير مستمداً بياناته من السجلات الرسمية.
احتفى تشارلز بين بالجندي العادي، وسلط الضوء على قيم الأخوّة في السلاح، والشجاعة والروح الحماسية، مشيراً إلى أن الأستراليين كانوا جنوداً حقيقيين تفوقوا على رفقاهم من الإنكليز.
في الواقع، كانت القوات الأسترالية والنيوزلندية ضعيفة التدريب وسيئة الانضباط، وبدا ذلك واضحاً عند مواجهتهم الأتراك في 25 أبريل/نيسان.
ومع مرور الوقت، أصبحت القوات الأسترالية أكثر فعالية، لكن يرجع ذلك بشكل كبير إلى الخبرة والتدريب، والتحسينات التكتيكية والتكنولوجية المنتشرة في جيوش الإمبراطورية البريطانية.
ومع ذلك، فقد وجدت الرواية الشاعرية عن أسطورة أنزاك ومعركة “أنزاك كوف” الأولى، طريقها إلى الثقافة الشعبية الأسترالية، مستفيدةً من فيلم غاليبولي 1981 للمخرج بيتر وير.
4: هجوم أغسطس/آب كاد ينجح في كسر الجمود على جزيرة غاليبولي
تزعم الكثير من المراجع البريطانية أن هجوم ليلة 6/7 أغسطس/آب 1915 كاد يحسم الأمور لصالح القوات البريطانية والفرنسية في جناق قلعة أو “ملحمة القرن” بحسب الأتراك.
في ليلة 6/7 أغسطس/آب 1915، تم إنزال الفصيل البريطاني التاسع على خليج سوفلا، في إطار الجهود الحثيثة المبذولة لكسر حالة الجمود في شبه جزيرة غاليبولي.
وتقول الأسطورة بأن هذا الهجوم فشل بفروق بسيطة جداً، وضاعت فرصة سانحة جداً لانتصار الحملة على قوّات الإمبراطورية العثمانية بقيادة مصطفى كمال باشا.
فشلت القوات البريطانية، على الرغم من أنها واجهت مقاومة بسيطة، في أن تدافع عن الشواطئ التي اجتاحتها، فتمكّن العثمانيون من تحريك قواتهم لسد الثغرات.
وبذلك خسر الحلفاء الفرصة في اختراق الخنادق التركية، ليصلوا إلى الضفة الغربية لمضيق الدردنيل ويشرعوا في التخلص من الدفاعات الساحلية، قبل أن يتمكن الأسطول من شق طريقه في المضايق ويتوجه إلى عاصمة الدولة العثمانية.
هذه النظرية خيالية؛ فقد انطلق الهجوم الرئيسي من خليج أنزاك، وليس من سوفلا.
تم إنزال الفصيل التاسع البريطاني على الشاطئ لا لتنفيذ ضربة عسكرية قاضية للقوات التركية، بل لتأمين الخليج كقاعدة لوجستية للعمليات الدائرة على جسر ساري بير وما بعده.
بكل تأكيد لم يكن القائد العام السير فريدريك ستوبفورد أكثر القادة فعالية، لكن لا يمكن أن يُلام على فشله في تحويل عملية بهدف معين إلى شيء مختلف كلياً. ما حدث في سوفلا ليس له تأثير على هزيمة ساري بير.
5: حملة غاليبولي كانت بطوليةً بالنسبة للقوات البريطانية والفرنسية
افتتن المؤرخون البريطانيون الأوائل بغاليبولي إبان الحرب العالمية الأولى، لكن في الحقيقة لم تختلف تجربة الجنود البريطانيين في غاليبولي عن نظرائهم في الجبهات الأخرى.
لسببٍ ما، حظيت معركة غاليبولي بمعاملة رومانسية لدى تناول المؤرخين البريطانيين للحرب العالمية الأولى، فتم الحديث عن أعمالٍ بطوليةٍ للقوات الجوية فوق الخنادق، وتم تضخيم دور توماس إدوارد أو “لورنس العرب” في الثورة العربية.
يُرجع البعض هذا التعامل الخاص مع ما جرى في جناق قلعة وحولها، إلى أن القتال في كان يدور في منطقةٍ ذات تاريخٍ عريق؛ إذ كانت آثار قلعة غاليبولي وأنقاض مدينة طروادة الزاخرة بالأحداث ماثلةً أمام الجنود.
وقد يكون للأمر أهدافاً نفسية، فالتعامي عن الهزيمة القاسية والحديث عن البطولات الفردية للجنود، قد يكون بمثابة تعويض نفسي وعزاء لذوي ضحايا الحملة المفجوعين بفقد أبنائهم.
حاول بعض القادة البريطانيين معالجة فضيحة غاليبولي برومانسية في كتاباتهم؛ مثل قائد قوات الحلفاء الجنرال السير أيان هاملتون، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، إذ كانت لديهم دوافع قوية لإعادة كتابة التاريخ بطريقة تحفظ سمعتهم.
لكن بالنسبة للجندي العادي، خلت حملة غاليبولي من أي مجد أو رومانسية. بل كانت الخنادق بدائيةً وغير آمنة، الحشرات والأتربة طالت الطعام والشاي، والذباب في كل شيء.
يتذكر الجندي البريطاني هارولد بوغتون ويقول: “كان الذباب في كل مكان حول فمك وعلى الجروح والقروح، والتي تحولت جميعها إلى بؤر عدوى”.
وقبل كل شيء كان هناك الخوف من الموت، أو الإصابة أو الأسر، وإجهاد المعارك، مع المشاهد والأصوات المروعة التي أنتجها التقدم الصناعي في مجال الأسلحة والحروب بالقرن العشرين.