إِنَّ المطالع للفتوحات في عهد الصِّدِّيق -رضي الله عنه- يمكن له أن يستنتج خطوطاً رئيسيةً للخطَّة الحربيَّة الَّتي سار عليها، وكيف تعامل هذا الخليفة العظيم مع سنَّة الأخذ بالأسباب، وكيف كانت هذه الخطَّة المحكمة عملاً من عوامل نزول النَّصر، والتَّمكين من الله -عزَّ وجلَّ- للمسلمين، ومن هذه الخطوط ما يلي:
1ـ عدم الإِيغال في بلاد العدوِّ حتى تدين للمسلمين:
كان الصِّدِّيق -رضي الله عنه- حريصاً أشدَّ الحرص على عدم الإِيغال في بلاد العدوِّ حتَّى تدين للمسلمين، وقد كان ذلك واضحاً تمام الوضوح في جبهات العراق، والشَّام، ففي فتوح العراق أرسل الصِّدِّيق -رضي الله عنه- إِلى خالدٍ وعياضٍ بتكليفهما بغزو العراق من جنوبه، وشماله، وجاء في الكتاب: وأيُّكما سبق إِلى الحيرة؛ فهو أمير على الحيرة، فإِذا اجتمعتما بالحيرة -إِن شاء الله- وقد فَضَضتُما مسالح ما بين العرب وفارس، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم؛ فليُقم بالحيرة أحدكما، وليقتحم الآخر على القوم، وجالدوهم عمَّا في أيديهم، واستعينوا بالله، واتَّقوه، واثروا أمر الآخرة على الدُّنيا؛ يجتمعا لكم، ولا تؤثروا الدُّنيا، فتسلبوهما، واحذروا ما حذَّركم الله بترك المعاصي، ومعاجلة التَّوبة، وإِيَّاكم والإِصرار، وتأخير التَّوبة.
وهذا الكتاب الجليل يدلُّ على فكر أبي بكرٍ العالي وتخطيطه الدقيق، وقبل ذلك توفيق الله له، فقد جاء تخطيطه الحربي موافقاً تماماً لما اقتضته مصلحة الجيوش الإِسلاميَّة أثناء تطبيق هذه الخطَّة الحكيمة، وقد شهد ببراعة أبي بكرٍ في التَّخطيط الحربيِّ أخبر الناس بالحروب آنذاك، وهو خالد بن الوليد، فإِنَّه لما نهض للقيام بمهمَّة عياضٍ في فتح شمال العراق، ونزل بكربلاء، واشتكى إِليه المسلمون ما وقعوا فيه من التأذِّي بذُبابها الكثيف، قال لعبد الله بن وتيمة: اصبر فإِنِّي إِنَّما أريد أن أستفرغ المسالح الَّتي أُمِرَ بها عياض، فنُسْكِنها العرب، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم، وتجيئنا العرب آمنةً غير متعتعة، وبذلك أمرنا الخليفة، ورأيه يعدل نجدة الأمَّة وقد سار على هذه الخطَّة بالعراق المثنَّى بن حارثة؛ حيث يقول ذلك القائد الفذُّ: قاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجرٍ من أرض العرب، ولا تقاتلوهم بعقر دارهم، فإِن يظهر الله المسلمين؛ فلهم ما وراءهم، وإِن كانت الأخرى؛ رجعوا إِلى فئةٍ، ثمَّ يكونون أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم، إِلى أن يردَّ الله الكرَّة عليهم، وأمَّا في فتوحات الشَّام فقد كانت الصَّحراء من خلف المسلمين حمايةً لهم، ومع هذا كان المسلمون يتأكَّدون أوَّلاً من أنَّ عدوَّهم قد انقطع أمله في مفاجأتهم من خلف ظهورهم، وأن يستولوا على ما يقع بيمينهم، وشمالهم من المدن والبلاد، وسدِّ كلِّ ثغرٍ بالمقاتلة، وقد كانت تلك القاعدة مرعيةً عندهم، يحرصون عليها أشدَّ الحرص.
2ـ التَّعبئة وحشد القوَّات:
عندما تولَّى الصِّدِّيق الخلافة وضع من خطوط الإِعداد الحربيِّ: التَّعبئة، وحشد القوَّات، وقد نادى المسلمين لحروب الردَّة، ثمَّ استنفارهم بعدها للفتوحات، وأرسل إِلى أهل اليمن كتابه المعروف في ذلك.
3ـ تنظيم عمليَّة الإِمداد للجيوش:
حينما تطوَّرت معارك الجبهة الشَّرقيَّة ووجد قائدا الجبهة -خالدٌ والمثنَّى أنَّهما في حاجة إِلى مددٍ بشريٍّ؛ لأنَّ الطَّاقة التي معهما لا تستطيع تلبية المعركة في متطلباتها وواجباتها، فكتبا إِلى الصِّدِّيق -رضي الله عنه- يلتمسان المدد فقال لهما: استنفرا مَنْ قاتل أهل الردَّة، ومن بقي على الإِسلام بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا يغزونَّ أحدٌ ارتدَّ حتَّى أرى رأيي. وشرع في إِمداد جبهات العراق والشَّام حتَّى اللحظات الأخيرة من حياته.
4ـ تحديد الهدف من الحرب:
وُضِعت هذه النقطة في خطَّة الحرب الإِسلاميَّة في الفتوحات؛ لتكون هدف العمليات الَّذي يسعى إِليه الجميع، وقد وضع الصِّدِّيق خطَّته في هذه القضيَّة على أساس أن يعلم كلُّ فردٍ مقاتلٍ: أنَّ هدف المسلمين من هذه الفتوحات: نشر الإِسلام، وتبليغه إِلى الشعوب، بإِزالة الطَّواغيت الَّذين يحرمون شعوبهم من هذا الخير العميم، فقد كان القادة يعرضون على عدوِّهم قبل المعركة واحدةً من ثلاث: الإِسلام، أو الجزية، أو الحرب.
5ـ إِعطاء الأفضليَّة لمسارح العمليَّات:
قاد الصِّدِّيق -رضي الله عنه- بنفسه أولى العمليات الحربيَّة ضدَّ المرتدِّين، ونظَّم الجيوش لحربهم، ولم يهمل بقيَّة المسارح، فوجَّه أسامة إِلى الشَّام، والمثنَّى إِلى العراق، وكرَّس جهود المسلمين في السَّنة الأولى للقضاء على الردَّة، وعندما تمَّت عملية إِعادة توحيد الجزيرة، وأصبح بالإِمكان الانطلاق من قاعدةٍ قويَّةٍ، ومأمونةٍ؛ وجَّه ثقل العمليات إِلى الجبهتين العراقيَّة والشَّاميَّة، وعندما احتاجت الجبهة الشَّاميَّة إِلى المدد نقل الصِّدِّيق محور ثقل الهجوم إِلى الشَّام، ووجَّه خالداً إِليه، وترك المثنَّى في الجبهة العراقية .
6ـ عزل ميدان المعركة:
عندما بدأ الصِّدِّيق -رضي الله عنه- باستنفار القوَّات لحرب الرُّوم والفرس؛ أرسل خالد بن سعيد إِلى تبوك بمهمَّةٍ إِلى مناطق الحشد، ومحاور التقدُّم، وأمره أن يكون ردءاً للمسلمين، وعندما فشل في هذا الواجب، وتجاوزه؛ قام عكرمة بن أبي جهل به.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
7ـ التطوُّر في أساليب القتال:
كتب الصِّدِّيق إِلى أبي عبيدة عندما بلغه تقدُّم جيوش الرُّوم، وانضمام أهل دمشق إِليهم ما يلي: بثَّ خيولك في القرى، والسَّواد، وضيِّق عليهم الميرة، والمادَّة، ولا تحاصرن المدائن حتَّى يأتيك أمري.
وعندما دعمه بقواتٍ كافيةٍ؛ كتب له: فإِن ناهضوك، فانهض لهم، واستعن بالله عليهم، فإِنَّه ليس يأتيهم مددٌ إِلا أمددناك بمثلهم.
8ـ سلامة خطوط الاتِّصال مع القادة:
كانت خطوط الاتِّصال بين الصِّدِّيق وقادة المعارك منظمةً ومنتظمة، بحيث تصل المكاتبات من القادة في أمانٍ، وتصل ردود الخليفة في سرِّيَّة تامَّةٍ، وسرعة متقدِّمةٍ، لا تسمح للعدوِّ أن يفاجأ المسلمين بشيءٍ لا يتوقَّعونه، وهكذا كانت الخطط الحربيَّة عند المسلمين محكمةً، ودقيقةً، ممَّا كان عاملاً من عوامل دحر الأعداء، والتغلُّب عليهم بفضل الله في حركة الفتوح.
9ـ ذكاء الخليفة وفطنته:
امتازت الخطط الحربيَّة الإِسلاميَّة في بداية الفتوحات بوجود العقل المدبِّر ذي الفطنة، والذَّكاء، والكياسة، والفراسة، وهو الصِّدِّيق، وقد ساعد أبو بكر على فهمه الواسع للتخطيط العسكري طول ملازمته للنَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم)، فقد تربَّى على تعليمه، وتوجيهاته، فكسب علوماً شتَّى، وخبراتٍ متنوِّعة، فقام بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في مقام الخلافة خير قيام، فحمل البصيرة الواعية، وزوَّد الجيش بالنَّصائح الغالية، وأرسل الإِمدادات في أوقاتها تسعف المجاهدين، وتمدُّهم بالهمَّة، والعزيمة الماضية.