يُعد السلطان عبد الحميد الثاني أحد أبرز سلاطين الدولة العثمانية، وذلك لما حققه من إنجازات في عهده الذي امتد إلى ما يقارب من 33 سنة، ولوقوفه خلال هذه الفترة أمام كل محاولات إسقاط الدولة من الأعداء الداخليين والخارجيين، ويشهد له التاريخ أيضاً بالإنجازات الاقتصادية التي ساهمت بإحداث نهضة حقيقة في الدولة الصامدة.
السلطان عبد الحميد الثاني يحوّل الترِكة الاقتصادية إلى عامل نهضة
الترِكة الاقتصادية المُثقلة التي استلمها السلطان عبد الحميد الثاني من أسلافه؛ لا تقل عبئاً عن الترِكة السياسية، كما أن المؤامرات التي حاولت إعاقة التقدّم أو التحّسن الاقتصادي في عصره جاءت بالتزامن مع المؤامرات السياسية، وذلك لإدراك المتآمرين لدور القوة الاقتصادية في الاستقلال السيادي لأي دولة.
إلّا أن الحِنكة وبُعد النظر والإخلاص للأمة جعلت من الاقتصاد في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (من عام 1876 إلى عام 1909)؛ يتحوّل من حالة العبء إلى حالة النشاط المقارب للازدهار.
ويُحسب للسلطان عبد الحميد الثاني؛ تمكّنه من إدارة الاقتصاد العثماني بصورة رشيدة وفاعلة، سواء في مجال الاقتصاد والسياسة المالية أو النقدية، أو مجال التجارة والزراعة والصناعة والخدمات.
وفي دراسة بعنوان “الاقتصاد العثماني في عهد السلطان عبد الحميد الثاني”؛ قام بها د. أشرف محمد دوابه؛ أستاذ التمويل والاقتصاد المشارك بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم، ورئيس الأكاديمية الأوربية للتمويل والاقتصاد الإسلامي، استعرض فيها إنجازات السلطان عبد الحميد الثاني في المجال الاقتصادي، واعتمدت الدراسة على الكتب والأبحاث التي تناولت حال الاقتصاد في عهد السلطان عبد الحميد الثاني بالإضافة إلى مذكرات السلطان عبد الحميد نفسه.
وتم الاعتماد على هذا الدراسة في استخلاص بعض من الحقائق التاريخية المذهلة والنهضة الاقتصادية المهولة التي حدثت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ونستعرضها لكم فيما يلي:
السياسة المالية والنقدية الإصلاحية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني
- القضاء على الديون
أخرج السلطان عبد الحميد الثاني مالية الدولة العثمانية من حالة الإفلاس إلى حالة شبه توازن، وبفضل سياساته تقلص الدين العمومي في عهده من 300 مليون ليرة إلى 30 مليون ليرة، رغم نفقات الدولة ونفقات الحروب التي خاضها الجيش العثماني، واعتمد السلطان عبد الحميد في سياسته على إصلاح نظام الضرائب (مثل فرض ضريبة على دخل بعض الطبقات)، وترشيد الإنفاق العام (مثل تقليص عدد الموظفين وبعض الوزارات ورواتب الأمراء)، ومحاربة الرشوة والفساد.
- سياسة نقدية تصحيحية
اتبع السلطان عبد الحميد الثاني سياسة نقدية تتمثل باعتماد المعادن النفيسة (الذهب والفضة) في التداول، وذلك بدلاً من القوائم المالية التي تشبه العملة الورقية، حيث كانت العملة الورقية تفقد قيمتها أمام الليرة الذهبية، مما تسبب بأضرار كبيرة للخزينة العامة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
- مصارف داعمة للقطاع الاقتصادي
قام السلطان عبد الحميد الثاني بتأسيس عدد من المصارف في عهده، ومنها بنك عثماني شاهانه، الذي كان مقره لندن وله أفرع في عدد من الولايات التركية، وبدأت فكرة البنك بتثبيت سعر الجنيه الإسترليني أمام الليرة الذهبية، وكان البنك يعتبر رسمياً ويقوم بالمعاملات التجارية، وقد نجح في الاستحواذ بالكامل على الإيرادات الضريبية والإنفاق العام وشؤون السندات وأذونات الخزينة.
عهد السلطان عبد الحميد الثاني وتحقيق الاكتفاء الذاتي
- التجارة الداخلية القوية
في حين أن التجارة الخارجية للدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني كانت نوعاً ما تحت سيطرة بعض الدول التي نالت امتيازات تجارية، إلا أن التجارة الداخلية كانت تحت سيطرة الدولة وتم توظيفها لتحقيق الاكتفاء الذاتي وخاصة في مجال الزراعة والغذاء، وتم تأسيس نظام تنسيق وتوازن بين الولايات التركية لتحقيق ذلك.
- النهضة الزراعة الشاملة
اتبع السلطان عبد الحميد الثاني سياسة هيكلية للاكتفاء الذاتي تعتمد على زراعة في الغالب، خاصة مع تعرض الدولة للحظر والقيود على التجارة الخارجية بسبب الامتيازات الأجنبية، وتوسع النشاط الزراعي في عهد السلطان عبد الحميد لدرجة الانتقال من الاكتفاء الذاتي إلى تحقيق فائض تصديري، ومن مظاهر تطور القطاع الزراعي؛ إنشاء مصرف زراعي (زراعات بنك)، الذي وفّر التمويل للمزارعين، وساهم تطور شبكة السكك الحديدية في الدولة بتسويق المنتجات ونقلها، وحسن الاستفادة منها، وحرص السلطان عبد الحميد على تنويع الإنتاج الزراعي بما يوفر الأمن الغذائي للدولة، كمجابهة للفكرة الاستعمارية التي تعتمد نظام المنتج الواحد، كما أدخل السلطان عبد الحميد الثاني مياه الشرب إلى إسطنبول عبر مد قساطل (أنابيب)، عندما كانت إسطنبول تعاني من الجفاف والعطش.
- الصناعة المستقلة والمنافِسة عالمياً
تنوعت الصناعات في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في عدد من القطاعات وأهمها الصناعات الدفاعية التي كانت تنافس فيها بقية دول العالم العظمى، إلى جانب الصناعات الحرفية اليدوية التقليدية التي بقيت محافظة على قوتها، كما أن قطاع صناعة النسيج التقليدي والحديث كان لها حضور قاوم الاضمحلال، وتضاعف إنتاجها، ونافست عالمياً، وكانت مدن حلب والموصل تتصدر المدن الصناعية في الدول العثمانية إلى جانب مدن اليونان والأرمن مما يدلل على غياب التمييز الطائفي والعرقي بين رعايا الدولة العثمانية، كما كان السلطان عبد الحميد يقف بالمرصاد لمحاولات الدول الأجنبية الاستفادة من الموارد النفطية للدولة العثمانية وصناعاتها التحويلية
خدمات متنوعة وشاملة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني
- سكك حديدية بقيمة اقتصادية مضافة
تضاعفت السكك الحديدية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني أكثر من ثلاثة أضعاف، وازداد إيرادها عشرة أضعاف تقريباً، وقد استغل السلطان عبد الحميد الاستثمار الأجنبي في تطور شبكة السكك الحديدية، ولكن وفق مصالح الدولة وسيادتها.
ومن أبرز الأمثلة؛ بناء مشروع سكة حديد بغداد بالاستفادة من التنافس بين الأوروبيين في بناء السكك الحديدية بالدولة العثمانية، مقدما نموذجاً لمعالجة عجز التمويل، عبر تقديم تسهيلات وتشجيعات استثمارية، مما جعل من الاستثمارات الأجنبية تتجه نحو السكك الحديدية، حيث شكلت الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع ما يقارب من ثلثي الاستثمارات الأجنبية الكلية في الدولة العثمانية.
وقد أدى تطور شبكة الحديد إلى إحداث تنمية في المناطق الريفية وتنشيط قطاع الزراعة والصناعة، وربط المناطق المتباعدة من الدولة العثمانية، وأدت هذه التنمية إلى المساهمة في زيادة الإيرادات الضريبة في الدولة العثمانية.
- سكة حديدية تربط أواصر الأمة
ومن أمثلة مشاريع سكك الحديد المميزة في عهد السلطان إلى جانب سكة حديد بغداد؛ مشروع سكة حديد الحجاز ذات البعد الديني، إلا أن تمويل هذا المشروع كان بأموال إسلامية خالصة دون مساهمة من الدول الأجنبية، بعد حملة تبرعات أطلقها السلطان عبد الحميد الثاني وبدأ بالمساهمة في الحملة من ماله الخاص، وانطلقت الحملة إلى جميع المسلمين في العالم، وساهموا فيها بأموالهم.
وكان هدف مشروع سكة حديد الحجاز هو تسهيل نقل الحجاج من المسلمين إلى الأراضي المقدسة (انطلاقاً من إسطنبول مروراً بالمدينة المنورة وصولاً إلى مكة المكرمة)، بالإضافة إلى تحقيق الفوائد الخدمية والاقتصادية من سكة الحديد، والاستغناء عن قناة السويس وعدم الاضطرار لها، حيث كانت تحت سيطرة الاحتلال البريطاني في مصر.
- النقل البحري المستقل
حيث عمل السلطان عبد الحميد الثاني على زيادة عدد السفن التابعة للدولة العثمانية، وإنشاء العديد من الموانئ، وإتاحة المجال لتأسيس شركات وخطوط ملاحية للقضاء على امتيازات الملاحة البريطانية في المياه العراقية، كما درس السلطان إمكانية إنشاء قناة جديدة تنافس قناة السويس، وتمت إدارة المواصلات البحرية عبر شركة عثمانية خاصة دخل فيها رأس مال أجنبي ولكن تحت إشراف الدولة، وقام السلطان أيضاً بتجارب بناء الغواصات في إسطنبول من ماله الخاص.
- طرق معبّدة وترام كهربائي
حيث يعود الفضل إلى السلطان في إدخال السيارة والترام إلى الولايات العثمانية، حيث كان يتم تشغيل الترام بواسطة الأحصنة ثم تم استخدام الكهرباء، وفي مجال تعبيد الشوارع والطرق؛ كان يتم في عهد السلطان؛ تعبيد أكثر من 800 كيلو متر في السنة، وإصلاح 450 كيلو متر أخرى.
- السبق في البريد والاتصالات
قام السلطان عبد الحميد الثاني فور اعتلاءه العرش بإدخال التلغراف إلى الدولة، رغم أنه لم يكن قد دخل إلى بعض الدول الأوروبية بعد، وحرص على تنفيذ مشاريع التلغراف بأيدي عثمانية دون تدخل من الدول الأجنبية التي كانت حاصلة على امتيازات البريد؛ قبل أن يصبح تحت إدارة الدولة أيضاً. كما يعود فضل للسلطان في إدخال الهاتف إلى الدولة العثمانية.
- التعليم الشامل والاعتزاز بتراث الإسلام
يعود الفضل للسلطان عبد الحميد الثاني في إحداث نهضة تعليمية شاملة، فمن خلال إيمانه بشمول وكمال الحضارة الإسلامية، كان ضد الأخذ من الثقافة الغربية إلا في إطار أحدث العلوم بالتدريج دون المس بالثقافة الإسلامية وهويتها العقدية، وفي هذا الجانب كان يقول: “ليس من الصواب القول بأني ضد كل تجديد يأتي من أوربا، لكن العجلة من الشيطان، ويقابل العجلة الهدوء والاعتدال، يجب أن نضع نصب أعيننا ما تفضل به الله علينا… ليس الإسلام ضد التقدم، لكن الأمور القيمة يجب أن تكون طبيعية، وأن تأتي من الداخل وحسب الحاجة إليها، ولا يمكن أن يكتب لها النجاح إذا كانت على شكل تطعيم من الخارج”.
وقد أنشأ السلطان عبد الحميد الثاني العدد من الكليات والمدارس التعليمية؛ مثل كليات للعلوم والآداب والحقوق وكلية للعلوم السياسية، وأكاديمية للفنون الجميلة ومدارس عليا في التجارة والزراعة والبيطرة والغابات والتعدين والتجارة البحرية، ومدارس متوسطة متخصصة مثل مدارس الصم والبكم، وأقام السلطان عبد الحميد الثاني العديد من المدراس في مختلف الولايات والمدن ومدارس عليا بمستوى الجامعات في دمشق وبغداد وبيروت، كما أرسل البعثات الطلابية لتدرس في جامعات الغرب لتعود وتطبق العلوم الحديثة في بلاد المسلمين.
- التعليم الموجّه لنهضة الأمة
سياسة تعتمد على الاقتصاد الحقيقي المستقل
اعتمد السلطان عبد الحميد الثاني في سياسته الاقتصادية على الاقتصاد الحقيقي، الذي يقوم على الزراعة والصناعة مع تحقيق الاستقلال السيادي عبر الاكتفاء الذاتي، التي تؤمن للدولة احتياجاتها الأساسية، دون اللجوء إلى الدول الغربية التي تهتم بمصالحة فقط.
وعلى الرغم من الامتيازات التي كانت ممنوحة إلى الدول الغربية في عهد أسلاف السلطان عبد الحميد الثاني، والتي كانت عائق كبير أمام النهضة الشاملة والاستقلال الكامل؛ إلا أن السلطان عبد الحميد استطاع رغم ذلك تحقيق أهدافه الاقتصادية والخدمية، إلى جانب حفاظه على روح الدولة المسلمة الحرة التي تمتلك مقومات نهضتها وقوت يومها واستقلالية قراراتها.
دور الاقتصاد في الــحفاظ عــلى كــيان الــدولــة
على الرغم من حرص السلطان عبد الحميد على عدم المخاطرة خوض حروب وصراعات تنهك الأمة وتستنزف مقدّراتها إلا أن بعض الحروب كانت ضرورية للحفاظ على كيان الأمة الموحد، ومن أمثلة ذلك الحرب مع روسيا التي تم دفعه إليها في بداية عهده، وساهم الاقتصاد في تمويل الحروب ومعالجة آثارها جنباً إلى جنب مع إحداث النهضة الاقتصادية والاستقلال الاقتصادي السيادي.
ومن أجمل ما يدلل على الفكر الاقتصادي للسلطان عبد الحميد الثاني مقولته التالية:
“إن الحـروب الـتي تنتهـي بـالـنصر تـرهـق الأمـة، مـثلها فـي ذلـك مـثل الحـروب الـتي تنتهـي بـالهـزيـمة، وأمـور (لـفظية) مـثل (الـرفـعة والمجـد) تظهـر آثـارهـا الجـميلة عـلى الـبلاد الـعامـرة الأطـراف، الآمـن يـومـها، الآمـن غـدهـا، أمّـا الـجائـعون الـعراة فـي الأراضـي الخـربـة، ويـدّعـون (الـرفـعة والمجد)، ويجرون خلفهما، فلن يكون هناك أمر مضحك مفجع كأمرهم”.
السلطان عبد الحميد الثاني المفكّر العامل
وإلى جانب عمله السياسي وحمله لهمّ أمّته، وإدارته لشؤون الدولة مترامية الأطراف التي تصارع الأعداء والمتآمرين في الداخل والخارج، كان السلطان عبد الحميد الثاني مفكراً عاملاً؛ يحذر أبناء أمته من البطالة، ومن العيش في ثوب الوظيفة الحكومية، وضرب بنفسه مثلاً للاقتداء؛ حيث كان منذ صغره نجاراً ماهراً، ومستثمراً ناجحاً، وحث شباب الأمة على العمل والإنتاج، باعتبار ذلك قوام الدول، وسرّ نهضتها وقوتها.
وفي سبيل ذلك فتح السلطان عبد الحميد الباب للمشروعات الصغيرة والكبيرة على حد سواء؛ لكي تمارس نشاطها، وتسهم بدورها في معالجة البطالة، وفي تلبية حاجات البلاد، بل والتصدير للخارج، وسط تآمر دولي ومحلّي.
وكان السلطان عبد الحميد الثاني يعمل بروح المسلم المخلص الذي ينهض بعد الوقوع، متمسكاً بدينه، ساعياً لرفعة أمته، مقاوماً للإغراءات، واعياً بالمؤامرات.