لا شك أن المنهج الصوفي ومدرسة التصوف الإسلامية من المدارس التي تحرص الحركة الوهابية والفرق التكفيرية نشر الشبهات حولها عبر مختلف العصور. يرى متابعون أن لم يقتصر الاختلاف بين المدرسة الصوفية وغيرها من المدارس حول الفلسفة والأفكار، بل امتد الاختلاف إلى حد التشكيك في علمائها ورموزها ببث الافتراءات والدس في كتبهم.
فبعضهم يخرج علينا بكتاب شهير اسمه: “تنبيه الغبي بتكفير ابن عربي”. ثم بعد قرنين من الزمان يأتي الإمام السيوطي محاولاً إزالة التهم عن ابن عربي، في كتابه المعروف “تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربي”، فهذا الإمام الحافظ مجّده وصوّره كعالم من العلماء وعابد من العباد. هذا التباين الكبير في النظرة إلى أحد رموز الصوفية، ابن عربي، يختزل وراءه موقفاً مبهماً وغير جلي من الصوفية والتصوف.
السؤال هنا: لم هذا الاختلاف الكبير؟
لا يمكننا تحليل اختلاف الناس والعلماء حول التصوف دون الأخذ بالاعتبار التباين الحاد في نظرة الصوفية لأنفسهم وتعريفهم لفكرتهم؛ فقد اجترّ علماء الصوفية العديد من التعريفات للمذهب، ولم يصلوا إلى تعريف مشترك وثابت للتصوف، حتى ذهب بعضهم للقول: توجد للتصوف تعريفات بقدر عدد المتصوفة.
بعضهم رد ذلك إلى أن التصوف “ذوق”، وأن من ذاق عرف.
كأنهم يشيرون إلى أن تعريفاتهم المختلفة ناجمة عن اختلاف تذوقهم واختلاف تصورهم واختلاف غرفهم من بحور التصوف الواسعة.
تلك الحالة الهلامية أدت إلى تباين أفكارهم وممارساتهم والتزامهم بحدود الشريعة، فقد صوّروا أنفسهم في مواضع تاريخية على أنهم أهل الحقيقة وحراسها.
اللطيف في الأمر أن الخلاف بين الفقهاء والمتصوفة لم يمنع العلماء والفقهاء من امتداح التصوف، بل وتبني بعض جوانب التصوف
يرى البعض أن التصوف الحديث قد نشأ كردة فعل لثقافة الترف التي ابتُلِي بها المجتمع في العهد الأموي، لكن هناك من يقدم تفسيراً آخر، فيرى أن التطور الذي طرأ على الفقهاء وارتباطهم بالحكام وانشغالهم بالنصوص وبعدهم عن السلوك (حال المدرسة الوهابية الشاذة)، هو ما أدى إلى نشأة الحركة الصوفية وانتشارها.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
يقول عالم الاجتماع المسلم، ابن خلدون، إن اهتمام العلماء بالفقه جعلهم ينشغلون باستنباط الأحكام والرد على الرأي المخالف. هذا التنافس المحموم في أمر العلم والانشغال بالتأليف والتصنيف أثر سلباً على سلوك العلماء، وجعلهم أقل حرصاً على أعمال القلوب. فلما أنكر المتصوفة على الفقهاء وبدأت المناوشات بينهم، كره المتصوفة الانشغال بالتصنيف والتأليف في الرد على الفقهاء (ربما لأن ذلك يكون على حساب العبادة والتي هي رأس الأمر عندهم). هذه الحالة جعلت الفكر الصوفي فكراً شفهياً في غالبه، ولم يبدأ المتصوفة في تدوين أفكارهم ومعاني ألفاظهم حتى جاء الحارث المحاسبي وقدم كتابه “الرعاية”، وإن كان ابن خلدون يرى أن “إحياء علوم الدين” هو البداية الحقيقية لتدوين علوم التصوف.
بيد أن الإمام الغزالي لم يتعامل مع التصوف كفكرة واحدة، بل جزّأها إلى مدارس وأقسام. ففي رسالته الشهيرة “أيها الولد” لم يتردد الإمام في إرشاد سائله إلى تجنب هرطقات المتصوفة، بل شدد في التغليظ عليهم وتبيين بعض مثالبهم، لكنه في نفس الرسالة أشاد ببعض أئمتهم، وعلى رأسهم الإمام الجنيد البغدادي، واستحسن الكثير من تصوراتهم وممارساتهم، سيما المرتبطة منها بالزهد والإدبار عن الدنيا والإقبال على الله، لكنه اشتط كثيراً عندما حذر سائله من الانشغال بعلوم الدنيا، التي صنف تحتها علوم الكلام والفلك والحساب والطب. ومن الغريب أنه أضاف إلى هذه القائمة علم الفقه، فلم يعده من العلوم الموصلة إلى معرفة الله!
يرى ابن خلدون أن النقد الحاد الذي تعرض له الفكر الصوفي سببه الألفاظ وليس الأفكار، فقد استحدث المتصوفة لغة مجازية استخدموا فيها ألفاظاً عربية للدلالة على معانٍ خفية، أغلب الظن أن ما دفعهم إلى ذلك هو انقطاعهم عن مجتمعاتهم وعزلتهم التي فضلوها، ثم إن هذه الألفاظ كثيراً ما أربكت الفقهاء واستعصت على أفهامهم. فتعثر عليهم تكييفها، كيف لا وهي مما لا يحسن تفسيره وتحديد مقصودة إلا المتبحرون في علوم “القوم”، الذين خبروا أسرار لغتهم المجازية. وبدلاً من إعمال حسن الظن أو محاولة التحري قام الفقهاء بالهجوم على المتصوفة
الصوفية في أمريكا
لا بد من الإشارة هنا إلى الاهتمام المتزايد بالفكر الصوفي في الجامعات الغربية، لدرجة أنهم ترجموا كثيراً من مخطوطاتهم النادرة. حتى غدت رموز الصوفية مثل ابن العربي وعمر بن الفارض من الشخصيات المهمة لدى الباحثين الغربيين، فهل هذه نية مبيتة لضرب التيارات الوهابية الحديثة والجماعات التكفيرية المتطرفة، أم أنهم وجدوا في الفكر الصوفي ما يمكن أن يمنع مسلمي الغرب من الانجراف وراء تيار الإسلام السياسي؟
من الملاحظات اللطيفة أن المواطن الأمريكي الأبيض عندما يشهر إسلامه فإنه يكون ميالاً للتصوف؛ حيث إن غالبهم يقبل على الإسلام لملء الخواء الروحي الذي تعيشه مجتمعاتهم وأسرهم. بينما يفضّل الأمريكي الأسود المنهج السلفي، ربما لأنه يبرر لهم الثورة ويسوغ لهم التصادم مع مجتمعاتهم. فهم يجدون في الإسلام السلفي ما يشعرهم بالتميز على مجتمعاتهم التي لطالما عاملتهم بدونية.
أخيراً، أرى ضرورة أن تقوم مؤسساتنا الدينية والفكرية والأكاديمية بإعادة دراسة التصوف وتقديمه بشكل حديث، فأخشى ما أخشاه أن تسبقنا المؤسسات الغربية في تقديم نسخة من التصوف تخدم مصالحهم وأغراضهم. ثم إن التربية الصوفية يمكنها أن تلعب دوراً كبيراً وسط الشباب العربي، خاصة في تلك المجتمعات المترفة التي ترزح تحت وطأة الحياة المادية الصاخبة. وأعني تحديداً المجتمعات التي ابتلي شبابها بالمال والمخدرات وغلب عليهم الجانب المظلم من الحضارة الغربية. فإذا كان الغرب قد وجد في التصوف ما يعالج به انحراف أبنائهم، فلماذا نتخندق وراء تصوراتنا الذهنية السلبية عن التصوف؟ أما آن الأوان لنتجاوز المواقف الحدية إلى مواقف عملية، فلماذا لا نأخذ ما في التصوف من خير كثير ونزيل عنه شوائبه إن وجدت.