من المعروف أن بعض المذاهب الفكرية والروحية تلقى انتشاراً كبيراً في بلد معين دون غيره، فيقال مثلاً إن بلاد المغرب مالكية الهوى، وأن الحجاز بشكل عام وهابي الطابع نظرًا لسيطرة المشايخ المنتسبين للدين الوهابي على المناصب الدينية، بينما كانت بلاد فارس دائماً موطن للمذاهب الشيعية المختلفة. الباحث في تاريخ الأتراك، سيجد أنهم قد تأثروا كثيراً بالأفكار الصوفية التي طرأت عليهم من الشرق والغرب الإسلاميين. فما هي أسباب انتشار التصوف في تركيا؟ وما هي أهم الطرق الصوفية التركية؟ وكيف لعب التصوف أدواراً مهمة في التاريخ الاجتماعي والسياسي لتركيا؟
قونية: المدينة التركية التي جمعت أقطاب التصوف الإسلامي
في وسط جنوب الأناضول، تقع مدينة قونية، التي تُعتبر أحد أهم المراكز الروحية للصوفية في تركيا. المدينة التي عرفت الإسلام على يد الفاتحين العرب في أواخر عهد الدولة الأموية، ارتبطت بشكل وثيق بثلاثة من كبار الصوفية عبر التاريخ الإسلامي، مما أسهم بشكل فعال ومؤثر في شيوع المد الروحاني الصوفي في شتى المدن التركية المجاورة فيما بعد. ففي بديات القرن السابع الهجري، شاء تقدير الله أن تحتضن تلك المدينة كلاً من محي الدين بن عربي، جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي.
ابن عربي، المولود في مُرسية ببلاد الأندلس، والذي يلقبه أتباعه باسم الشيخ الأكبر، تجول كثيراً في بلاد المشرق الإسلامي، حتى حطت ركائبه في قونية، بعدما لمس الحفاوة البالغة التي عامله بها سلاطين السلاجقة في الأناضول، حيث سمحوا له بنشر أفكاره التي لطالما لاقت معارضة في مصر وبلاد الشام. وفي قونية، قام ابن عربي بإعادة تدوين كتابه الأشهر، الفتوحات المكية، كما قام بنشر أفكاره بين طبقة من الشباب التركي المحب للتصوف، وكان من بين هؤلاء تلميذه النجيب صدر الدين القونوي.
وفي الوقت الذي كان فيه الصوفي الأندلسي يُعد العدة للعودة لبلاد الشام، كانت تلك المدينة الهادئة تشهد ميلاد قطب آخر من أقطاب التصوف، ألا وهو جلال الدين الرومي.
جلال الدين، الذي اعتاد الصوفية على تسميته بمولانا، ولد في بلخ في مطلع القرن السابع الهجري، وتنقل مع أبيه في عدد من البلدان الإسلامية، حتى استقر به المقام في قونية. لم يبتدأ جلال الدين حياته الفكرية بالتصوف، بل كان فقيهاً حنفياً معروفاً، حتى وقع اللقاء ما بينه وبين الصوفي الشهير شمس الدين التبريزي
البكتاشية والنقشبندية: أشهر الطرق الصوفية التركية
إذا كان القرن السابع الهجري، قد شهد احتضان الأناضول لبعض من الرموز الصوفية المغربية والمشرقية؛ فإن ذلك وحده لم يكن كافياً لشيوع الصبغة الصوفية على جموع الأتراك بالشكل الذي حدث فعلاً في العصور التالية. حيث يمكن القول إن انتشار نمط التدين الصوفي وسط الأتراك، قد وقع نتيجة ظهور الطرق الصوفية المنظمة التي وجدت في بلاد الأناضول ميداناً مناسباً وأرضاً خصبة للتوسع والتمدد والانتشار. ورغم كثرة الطرق الصوفية التي ارتبطت بالأتراك، إلا أنه يمكن أن نحدد طريقتين مميزتين كان لهما السبق في ذلك، وهما الطريقة البكتاشية والطريقة النقشبندية
المجتمع والسياسة: كيف أثرت الصوفية في التاريخ التركي؟
إذا كان نمط التدين الصوفي قد لاقى شيوعاً وانتشاراً في بلاد الأتراك منذ بداية معرفتهم بالإسلام، وحتى اللحظة الراهنة؛ فإن ذلك قد ظهر جلياً واضحاً في ميداني المجتمع والسياسة. فبالنسبة للمجتمع التركي، توجد به العديد من الظواهر المرتبطة بالفكر الروحاني الصوفي، فمثلاً تنتشر في تركيا المساجد التي تحتوي بجانبها احيانًا وداخلها احيانًا اخرى على الأضرحة والقبور والمقامات، وهي إحدى سمات الصوفية المميزة. كما أن بعض الأشكال الفنية قد تأثرت بالتقاليد الصوفية، كرقصة التنورة، التي تعتمد على تكرار الحركات الدائرية المستلهمة من النظرة المولوية للكون
وكذلك فقد أثرت الأفكار الصوفية في ظهور بعض الأبنية العمرانية، مثل التكايا، والتي بدأت كمقرات لشيوخ الصوفية ثم تطورت لتمارس دوراً اجتماعياً مهماً بعد أن استقبلت الفقراء والمحتاجين لإطعامهم وإيوائهم وتقديم المساعدات لهم. الصوفية أيضاً لعبت أدواراً مهمة، في بعض اللحظات الحرجة في التاريخ السياسي التركي، حتى أضحى من الصعوبة بمكان، أن يتم دراسة تاريخ تركيا السياسي دون النظر في تأثيرات القوى الصوفية به.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
تؤكد الدكتورة بديعة عبد العال، في كتابها سابق الذكر، على التداخل بين الصوفية والسياسة في تركيا بقولها إن عادة سلاطين الأتراك كانت اللجوء لشيوخ التصوف لأخذ مشورتهم وطلب المدد منهم، فلم يكن السلطان العثماني ليقدم على حرب أو فتح بلد من البلدان دون أن يرجع للشيوخ المتصوفة أولاً. ومن الملاحظ أن الكثير من المصادر التاريخية قد حاولت أن تبين تأثيرات بعض المتصوفة في اتخاذ بعض القرارات السياسية المهمة، ومن ذلك الأخبار التي زعمت أن لقاء قد وقع ما بين حاجي بكتاش ولي والسلطان العثماني أورخان، وأن الأول قد حض الثاني على تأسيس قوة عسكرية تمكنه من توحيد البلاد التركية تحت زعامته، وهو الأمر الذي استجاب له الثاني بتأسيسه للجيش الإنكشاري
الصوفية والسياسة التركية
وقد لعب الصوفيون دوراً مهماً في وقت فتح القسطنطينية، فبحسب ما يذكر محمد فريد بك المحامي في كتابه تاريخ الدولة العلية العثمانية، فإن السلطان محمد الفاتح قد هم بفك الحصار عن القسطنطينية وبالانسحاب، إلا أن الشيخ آق شمس الدين والذي كان أحد أعلام الصوفية النقشبندية في عصره، قد رفض ذلك وشجعه على مواصلة القتال، حتى تم الفتح وسقطت المدينة المنيعة في قبضة المسلمين. العلاقة ما بين التصوف والسياسة في تركيا، قد وصلت إلى أوجها بداية من القرن السادس عشر الميلادي، وذلك حينما صار من المتعارف عليه أن يقيم مجموعة من الشيوخ البكتاشية في ثكنات الجند الإنكشارية، حيث كان هؤلاء الشيوخ يلقنون الجند القرآن والتعاليم الدينية
استمر السلاطين العثمانيين محافظين على احترامهم وتبجيلهم لشيوخ الصوفية، وليس أدل على ذلك من الرسالة التي بعث بها السلطان عبد الحميد الثاني عقب عزله عن منصبه، إلى شيخ الطريقة الشاذلية، حيث تُظهر ألقاب التفخيم والإطراء التي أسبغها عبد الحميد على الشيخ في رسالته، المقام الرفيع الذي كان يشغله المتصوفة في هذا الوقت. ورغم اسقاط الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك في عشرينيات القرن العشرين، إلا أن الصوفية قد استمرت محافظة على مكانها في الساحة السياسية بتركيا، حتى أن واحداً من رجالاتها وهو بديع الزمان سعيد النورسي، قد لعب أدواراً سياسية واجتماعية معارضة لقوى العلمانية الكمالية، من خلال نشره لرسائل النور، والتي دعا فيها لضرورة ايقاظ المجتمع التركي من غفوته وحفاظه على هويته الإسلامية