عادة ما تُرمى التيارات الصوفية تاريخياً بالخيانة والعمالة للاستعمار وغالبًا ما يكون الرامي منتسبًأ للدين الوهابي، وأقول: من الوقاحة التاريخية والحماقة العلمية أن يصدر هذا الكلام عن إنسان عاقل، أو عالم باحث، فمن الثابت تاريخياً أن المتصوفة هم الذين أعلنوا الجهاد وهم الذين كانوا يتصدون للمقاومة والمرابطة على حدود الإسلام لحراستها، فهل يعقل أن يتهموا بالعمالة للاستعمار؟
اللهم إلا إذا اعتبرت فترات الهدنة والصلح خيانة، وهي فترات كان الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم- يوقّعها ويلتزم ببنودها، والمعلوم أيضاً أن المتصوفة لا يعقدون العزم على الحرب إلا إذا كانت لهم الغلبة؛ لأنهم لا يدخلون حروباً خاسرة ولا يعتدون على حدود الله ويتحلون بروح المسؤولية، ولنا في سيرة الأمير الصوفي عبد القادر الجزائري وابن باديس ومن قبله السلطان محمد الفاتح وصلاح الدين وغيرهم خير الأمثلة على ما نقول.
قُبيل العهد الأيوبي، وبعد الهجوم الصليبي على الشام واحتلال بيت المقدس، نشطت الحركة الصوفية، وكان السلطان نور الدين محمود وعماد الدين زنكي على علاقة طيبة بمشايخ الصوفية.
ثم جاء صلاح الدين الأيوبي وسار على نفس الدرب، وكان على رأس المشايخ الذين كان يحرص على الذهاب إليهم باستمرار الشيخ الخبوشاني، فقد كان يحرص على زيارته قبل أن يخرج في غزواته ضد أعدائه؛ حيث كان يثق به ويبالغ في احترامه.
الجيلاني ومدارس الوحدة:
قبل تولّي صلاح الدين السلطة قام الشيخ الصوفي عبد القادر الجيلاني بحركة تجديدية في مدرسته ببغداد، وخرج فيها 400 عالم فتحوا مدارس بعددهم في أغلب البلدان الإسلامية، وكان هدف هذه المدارس كلها هو تأهيل جيل تحرير بيت المقدس، مما هيأ الأمة نفسياً لمعركة الفتح، كما أورد الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في كتابه “هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس”.
قضيب البان:
في بداية عهده تحرك صلاح الدين إلى بغداد لزيارة شيخ الطريقة القادرية علي بن الحسين المعروف بـ”قضيب البان” الذي شجّعه على قيادة جيوش النصر، وأرسل معه عدداً من أبنائه للمشاركة في المعركة، وقد استطاع أحدهم وكان ملثماً قتل أحد قادة جيوش الصليبيين، وقد طلب صلاح الدين من الفارس الملثم التقدم للمكافأة فلم يجب أحد.
الإصلاح بين الأمراء:
ونتيجة الصراع بين الأمراء الذي كاد يعطل معركة فتح بيت المقدس، مارس الصوفية دور الوسطاء للإصلاح بين الأمراء، فقد أرسل الخليفة شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم إلى السلطان صلاح الدين ليصلح بينه وبين عز الدين صاحب الموصل، بسبب نزاع وصراع الطرفين للسيطرة على بلاد الشام؛ حيث إن صلاح الدين كان يرغب ويطمع في أن تكون مصر والشام تحت إمرته، وكان أمراء البيت الزنكي في بلاد الشام عقبة كأداء تحول بينه وبين تحقيق طموحاته؛ حيث كان هؤلاء الأمراء يرون أنهم أحق بوراثة نور الدين زنكي.
حماية الحدود:
قبيل بدء المعركة بدأ أتباع الزوايا الصوفية القيام بمهام رصد ومراقبة تحركات العدو، وتمثل ذلك في زاوية الشيخ الصوفي رسلان الدمشقي الذي كان موقعه خارج أسوار سوريا، فكان يقوم بدور حماية حرس الحدود الذين يطوفون حول المدينة بعد إغلاقها ليلاً؛ كي لا يكون هناك عدو مباغت، وكان المريدون يترددون إلى زاويته يتعلمون فيه جميع أنواع الدراسة، ويتدربون على الفنون الحربية.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لماذا استنصر صلاح الدين بالصوفية؟
كان صلاح الدين يدرك جيداً أن الصوفية يعتبرون أن قضية بيت المقدس على رأس القضايا التي يولونها اهتماماً، تنفيذاً لوصايا الجيلاني، بالإضافة إلى أن الصليبيين قتلوا عند دخولهم القدس -قبل أن يحررها صلاح الدين- شيوخ الصوفية المرابطين لبيت المقدس، سنة 492هـ.
معركة بيت المقدس:
يقول المؤرخ ابن الوردي في تاريخه عن وصف يوم فتح بيت المقدس: (وشهد فتحه، أي: صلاح الدين، كثير من أرباب الخرق والزهد والعلماء في مصر والشام بحيث لم يتخلف منهم أحد)، وأصحاب الخرق والزهاد هم أتباع الزوايا الصوفية.
وشارك في معركة تحرير بيت المقدس عدد من كبار مشايخ الصوفية في هذا التوقيت مثل الشيخ أبو عمر المقدسي، الذي قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية: (كان هو وأخوه وابن خالهما الحافظ عبد الغني، وأخوه الشيخ العماد، لا ينقطعون عن غزوة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح بيت المقدس والسواحل وغيرها).
كما حضر فتح بيت المقدس الشيخ أحمد المعروف بالقدسي، واشتهر بأبي ثور؛ لأنه قاتل الصليبيين أثناء فتح بيت المقدس وهو راكب ثوراً.
وقد تم إطلاق الألقاب الجهادية على مشايخ الصوفية في هذا الوقت، فأطلق على الشيخ الصوفي عبد الله اليونيني “الأسد”؛ حيث كان يعرف بأسد الشام، وكان هذا نتاجاً طبيعياً لدوره الحربي الفعال ضد الصليبيين؛ حيث وصفه المؤرخون بأنه تام الشجاعة مشارك في كل الغزوات الجهادية ضد الصليبيين في بلاد الشام، فلا يبالي بالأعداء، قلُّوا أم كثروا، وكان دائماً يتمنى الشهادة فحصلت له، كما جاء في البداية والنهاية لابن كثير.
ثأر الصوفية:
وبعد دخول صلاح الدين للقدس، أمر جنوده بإحضار عناصر الاستبارية والداوية من الصليبيين أمامه، وعندما تجمعوا بين يديه أمر بقطع أعناقهم وكلف بذلك جماعة من الصوفية كانوا جالسين بحضرته، بأن يقوم كل واحد منهم بقطع رقبة صليبي، وتم قتلهم جميعاً بحضرة السلطان، بعد أن عرض الإسلام عليهم ورفضوه، ثأراً لمشايخ الصوفية الذين قتلوهم مسبقاً.
تكريم الصوفية:
بعد المعركة بدأ صلاح الدين في تكريم رموز الصوفية الذين شاركوه وساندوه في المعارك والفتح، يقول المقريزي في الخطط والآثار: إن صلاح الدين أول مَن أنشأ خانقاه للصوفية بمصر ووقف عليها أوقافاً كثيرة، وكان سكانها يعرفون بالعلم والصلاح، وولي مشيختها الأكابر.
ثم قام العزيز عثمان بن صلاح الدين بوقف التلة التي دفن فيها أبو ثور عليه وعلى ذريته فسميت بدير أبي ثور، ومع مرور الوقت سميت القرية اختصاراً الحي الثوري، وحرفت إلى أبي طور، حتى احتلها الكيان الصهيوني في القرن الماضي وسماها (جفعات حنانيا).
ونظراً للدور الكبير الذي قام به الشيخ عبد الرحيم القنائي في تجهيز المجاهدين للاشتراك في جيش صلاح الدين المتجه لتحرير بيت المقدس، كرَّمه العزيز عثمان بتعيينه شيخاً لقنا، وأصبح من ذلك اليوم يسمى بالقنائي.
ثم قام الملك الأفضل ابن صلاح الدين بوقف الأراضي الواقعة قرب الزاوية الجنوبية الغربية لحائط الحرم المقدسي على المغاربة، تقديراً لدورهم في معركة تحرير بيت المقدس، مع شيخهم أبو مدين الغوث، الذي نفذ كل ما قاله شيخه عبد القادر الجيلاني بضرورة المساندة في استعادة القدس.
وظلت مع أبو مدين وكتب في وصيته: “أوقفها بأموالها ومياهها وآبارها وسواقيها وسهلها ووعرها ومبانيها وقفاً لله يصرف للسابلة من المغاربة المارِّين والمنقطعين للعلم والجهاد المرابطين على وصية صلاح الدين الأيوبي”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– “هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس” للدكتور ماجد عرسان الكيلاني.
– “وفيات ابن خلكان”.
– “النجوم الزاهرة” لابن تغري بردي.
“نهاية المطالب في أنساب فاطمة الزهراء وعليِّ بن أبي طالب من دمشق الفيحاء إلى الموصل الحدباء”، أبحاث ودراسات حققها صلاح الدين الموصلي، دمشق، 1975م.
– “مفرج الكروب” لابن واصل.
– سير أعلام النبلاء للذهبي.
– “البطولة والفداء” للخطيب.
– “الأنس الجليل” للعليمي.
– “صفحات من جهاد الصوفية والزهاد” لمحمد درزينة.
– العبر للذهبي.
“البداية والنهاية” لابن كثير.
– “الفتح القسي في الفتح القدسي” للأصفهاني.
– “الروضين” لأبي شامة.
– “سنا البرق” للبنداري.
– “السيد عبد الرحيم القنائي” لصلاح عزام.