رحلة أحمد بن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة تعتبر وقائع وأحداث لابن فضلان كما دوّنها في رسالته إلى الخليفة المقتدر بالله ووصف فيها بلاد الترك والبلغار والروس والخزر وأيضاً البلاد الإسكندنافية، من كتب الرحلات المهمة عند العرب، إذ أضاءت تلك الرسالة ثغرة كبيرة عن الماضي البعيد لتلك الشعوب، وقدّمت للروس إضاءة حقيقية لماضيهم البعيد، وأنارت في صفحات واسعة أساليب حياتهم في الزمن الغابر. في أمانة ودقة نادرين، لذلك فقد عنوا بترجمتها ونقلوا فصولاً عنها إلى لغتهم. وقد ذكر المستشرق الالمانى فراهن في تقديمه لابن فضلان في اللغة الألمانية: «إذا كان الغرب قد أغفل روسية فإن العرب تحدثوا عنها، فألقى العرب أنواراً كثيرة على تاريخ الغرب القديم، وأدلوا بمعلومات ناقصة، وخاصة عن البلغار وروسية في العهد البعيد.» وقد بدأ الاهتمام بالرحلة على أيدي المستشرقين الروس باعتبارها من المصادر النادرة للتعريف بالملامح الجغرافية لتلك المناطق في وقت لم يكن تاريخ روسيا وما جاورها معروف في العصور القديمة والوسطي، ومن ثم تعد هذه الرحلة من أقدم ما قدم من معلومات خاصة عن بلغار الفولجا فليس هناك من سبق بن فضلان إلى هذه البلاد.
فلقد وصفهم فقال: وهم أقذر خلق الله لا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بإطل وهو نهر كبير ويبنون على شطه بيوتاً كباراً من الخشب.
ويجتمع في البيت الواحد العشرة والعشرون والأقل والأكثر ولكل واحد سرير يجلس عليه ومعهم الجواري الروقة للتجار فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه وربما اجتمعت الجماعة منهم على هذه الحال بعضهم بحذاء بعض وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من بعضهم جارية فيصادفه ينكحها فلا يزول عنها حتى يفضي أربه.
ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة ومعها قصعة كبيرة فيها ماء فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه وشعر رأسه فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يمتخط ويبصق فيها ولا يدع شيئاً من القذر إلا فعله في ذلك الماء فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي إلى جانبه ففعل مثل فعل صاحبه ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت وكل واحد منهم يمتخط ويبصق فيها ويغسل وجهه وشعره فيها.
وإذا مرض منهم الواحد ضربوا له خيمة ناحية عنهم وطرحوه فيها وجعلوا معه شيئاً من الخبز والماء ولا يقربونه ولا يكلمونه، بل لا يتعاهدونه في كل أيام مرضه لا سيما إن كان ضعيفاً أو مملوكاً فإن برئ وقام رجع إليهم وإن مات أحرقوه فإن كان مملوكاً تركوه على حاله تأكله الكلاب وجوارح الطير.
وإذا أصابوا سارقاً أو لصاً جاءوا به إلى شجرة غليظة وشدوا في عنقه حبلاً وثيقاً وعلقوه فيها ويبقى معلقاً حتى يتقطع من المكث بالرياح والأمطار.
لاحظ ابن فضلان أن أكثر البلغار مريض بداء القولنج حتى أن أكثرهم تختفي من وجهه الحمرة، ويلبسون جميعاً القلانس، وأكثر أكلهم الجاورس (نوع من الحبوب) ولحم الدابة، على أن الحنطة والشعير كثير لديهم، وكل من زرع شيئاً أخذه لنفسه، ليس للملك فيه حق، سوى ما يقدمونه له كل عام من جلد السمور. ويحفرون في الأرض آباراً ويضعون طعامهم فيها، فلا تمضي أيام حتى يتغير طعمه ورائحته، وليس لهم زيت أو دهن، سوى دهن السمك يعتمدونه في أكلهم. ويعملون من الشعير حساء للجواري والغلمان. وفي غياضهم عسل كثير، وعندهم تفاح أخضر شديد الخضرة، وأشدّ حموضة من خلّ الخمر، تأكله الجواري فيسمنَّ عليه. ولم ير في بلدهم أكثر من شجر البندق، كما يوجد عندهم شجر مفرط الطول وساق أجرد الأوراق، يجيئون إلى موضع يعرفونه في ساقه فيثقبونه فيخرج منه ماء أطيب من العسل، إذا أكثر منه المرء أسكره؛ وعندهم أيضاً رمان أمليس (لا نواة له) لذيذ جداً ولا ينسى أن يحدثنا عن المناخ والطقس، وما يحتويانه من غرائب، فيلاحظ تفاوت الليل والنهار واختلافهم عما اعتاده في بلاده، لدرجة صار حائراً والتبست لديه مواقيت الصلاة، فالنهار لديهم طويل جداً، إذ أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، ورأى في يوم إقامته الثاني أن الشفق الأحمر الذي قبل المغيب لا يغيب البتة، وإذا الليل قليل الظلمة يعرف الرجلُ الأشياء عن بعد.
ورأى القمر لا يتوسط السماء، بل يطلع في أرجائها ساعة ثم يطلع الفجر فيغيب القمر. ورأى البلد عند طلوع الشمس يحمرُّ كل شيء فيه الأرض والجبال وكل شيء ويحدثنا عن عجائب، حرص أن ينسبها إلى غيره لغرابتها، رغم قوله: “رأيت في بلده من العجائب ما لا أحصيها” فهو يتحدث بلسان أحد أصحابه عن وجود حيوان غريب، هو دون الجمل في الكِبر وفوق الثور، وحوافره مثل أظلاف الثور، له في وسط رأسه قرن واحد غليظ مستدير، يرتقي ورق الشجر، إذا رأى الفارس ظل يلاحقه حتى يقتله، لذا فهم يصعدون إلى أعالي الشجر ليرموه بالسهام المسمومة لقتله. ولعله بذلك يصف ما يسمى بوحيد القرن.
كما يتحدث على لسان أحد الرجال عن شعب غامض يسميه يأجوج ومأجوج، ويبعد هؤلاء عن أهل (ويسو) ثلاثة أشهر، وهم عراة، يفصلهم البحر عن أهل (ويسو), وهم مثل البهائم ينكح بعضهم بعضاً. يخرج الله لهم كل يوم سمكة من البحر لطعامهم. كما التبس عليه رؤيته لبعض الظواهر المتعلقة بالشفق القطبي، فتخيَّل أنه يرى أمثال الناس والدواب في الجو، تأثراً ببعض المعتقدات المحلية الراسخة. كما يحدثنا عن لسان ملك البلغار عن شعب (ويسو)، وهو شعب فنلندي شمالي، ولعله كما يرى المستشرق فراهن شعب روسيا البيضاء، قرب موسكو الحالية، إذ يعلمه ملك البلغار أنه يبعد ثلاثة أشهر عن بلاده؛ والليل عندهم أقل من ساعة، يذهب إليهم تجار البلغار ليشتروا منهم جلود السمور والثعلب الأسود. فقدم لنا ابن فضلان صورة حية، عن مقطع من حياة البلغار قبل ألف عام، لا غنى عنها لأي مؤرخ لحياة وأصول شعوب شرق أوروبا، فجمعت رسالته بين أسلوب التقرير الرسمي وبين الدراسة الإثنوغرافية لحياة هذا الشعب.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website