نُرَقِّعُ دُنيانا بِتَمزيقِ دينِنا… فَلاَ دينُنا يَبقَى ولا ما نُرَقِّعُ
بيتٌ نظمه الشاعر النصرانيّ عديّ بن زيد بعد زهاء ستّة قرون من بعثة سيّدنا عيسى عليه السلام، يحكي ويشكو كمّ الانحرافات عن الدين ابتغاء دنيا لم يصيبوها.
يستشهد عبد الرحمن بن خلدون بهذا البيت بعد حوالي ثمانية قرون من رسالة سيّدنا محمّد ﷺ، في زمن تلى سقوط بغداد والخلافة العبّاسيّة، عايش فيه تبعات الغزو المغولي والصليبي وانفراط الحكم من يد العرب ومزيد تشرذم العالم الإسلاميّ وتراجع حضارته. وقد أورد هذا البيت في المقدّمة إذ يتطرّق إلى الانحراف الحاصل مع تحوّل الخلافة إلى ملك، وفيها يرى أنّ الوازع الديني الذي كان عماد الخلافة يتراجع ويضعف مع انقلابها ملكاً لصالح العصبيّة والسيف والانحرافات الدنيويّة.
فيرى من منظور التقسيم السلاليّ أنّ جانباً من الانضباط على المنهج الديني بقي مع معاوية ومروان وعبد الملك في الدولة الأمويّة قبل تعاظم الانحراف، دون ذكر الحالة المتفرّدة لعمر بن عبد العزيز هنا. ثمّ عادت ملامح الانضباط في “الصدر الأوّل من خلافة بني العبّاس إلى الرشيد وبعض ولده ثمّ ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلّا اسمها”.. وانحدر من بعدهم إلى “الشهوات والملاذ” وبقي اسم الخلافة ردها “لبقاء عصبيّة العرب” والتبست الخلافة بالملك ثم “ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبيّة العرب وفناء جيلهم.. وبقي الأمر ملكاً كما الشأن في ملوك العجم”. ويقتصر من يدينون بطاعة الخليفة من الدول بمجرّد “التبرّك”.
والرأي عندي أنه ضمن المنحنى الحضاري باهتزازاته كانت كلّ قوّة فتيّة تستأثر بالملك تنكص عن الهدف المثالي أي منهاج الخلافة تحت مبرّرات استبقاء ملكها فتضمّ شيئاً من انحرافاتها إلى ما ورثت من انحرافات سابقتها، وهكذا تراكمت الانحرافات بما أدى إلى التراجع والانحطاط الحضاري.
وكان الأزرقيّ أو ابن الأزرق الذي عاش في القرن التاسع للهجرة متأثّراً شديد التأثر بالمقدّمة أخذ عنها وفصّل وبوّب في كتابه “بدائع السلك”، وقد عايش بدوره أواخر ملك المسلمين في الأندلس، يذهب مذهب ابن خلدون من أنّ “الوازع أيّام وجود الخلافة إنما كان دينياً محضاً” وأن انقلابها إلى ملك و”خصوصاً العضوض منه” جعل ذلك الوازع يضعف “أو كاد يفقد” بما أدّى حسب رأيه لدى الممالك إلى حاجة لـ “مزيد الرهبة”.
أمّا في القرن الثالث عشر هجري (19م) وعصر الانحطاط فيأتي ابن أبي الضياف في تونس، وهو المتأثّر بدوره بالمقدّمة، مفضياً إلى أنّ زمن الخلافة قد ولّى، حجّته قول رسول الله ﷺ “الخلافة بعدي ثلاثون سنة”، ولا يأتي على ذكر الملك العضوض، بل يمضي نحو مطلب الملك المقيّد بقانون شرعي، والملكية عند ثلاثتهم سبيل أوحد وطبيعي لأي مجموعة، يذهبون أو يذهب الأخيران مذهب ابن خلدون في وجوب تقنينها، لكن مع إعلاء النواميس الإلهيّة على القوانين الوضعيّة، بقول وليّ الدين في المقدّمة “فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من عقلاء وأكابر الدولة وبصرائها، كانت سياسة عقليّة. وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقرّرها ويشرعها، كانت سياسة دينيّة نافعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة”.
وهذا ما يذهب إليه خير الدين التونسي معاصر ابن أبي الضياف، رغم تعرّفه على الحضارة الغربيّة في عنفوانها وقد ألّف فيها كتاب “أقوم المسالك”، وهو الذي عايش عن قرب تعاظم أثرها ونفوذها في بلاد الإسلام إبّان مسيرته السياسيّة التي تبّوأ فيها منصب الوزير الأكبر في تونس والصدر الأعظم في الأستانة. ويرى خير الدين في مذكّراته أنّ النُظم الغربيّة لا تتماشى مع العالم الإسلامي وأنّ اتّباعها أدّى إلى “نتائج معدمة تماماً”، ويخلُص إلى أنّ “التطبيق الصريح والمخلص للشريعة الإسلاميّة أفرز دومًا نتائج باهرة”، وهي “شاملة وأزليّة”. يتكلّم كأنّما ينتقد النخب المتأثرة بالغرب الراغبة بمؤسّساته عن الشريعة الإسلاميّة راداً ذلك إلى جهل بها: “ويكفي للتعلّق بها (أي الشريعة) واتّباعها معرفتُها، وإن كنّا للأسف نبتعد عنها في عصرنا هذا، فلأنّنا نجهلها.” وهنا إشارة أخرى لترقيع الدنيوي بتمزيق الديني الجارية وقتها مع موجة التغريب النخبويّة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لكن بتراكم الانحرافات وتمزيق الدينيّ بحثاً عن دنيويّ لم يحصّل، بلغ العالم الإسلامي من الانحطاط درجة جعلته يقع تحت الاحتلال الغربيّ الذي واصل العمل على تركيز مؤسّساته وفكره في الدول المسلمة، وخلّف بعد خروجه أنظمة تابعة له جارية في فلكه تواصل عمليّة الإلحاق الحضاريّ به، وضرب الدين قوامِ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، ومن هنا آتي إلى واحد من أواخر الخطابات التي شملت النظرة الخلدونيّة لتبيان مدى الانحراف بها هي الأخرى.
ففي حضرة الحبيب بورقيبة الذي غرّب تونس في ثلاثة عقود بشكل عجزت عنه فرنسا خلال ثلاثة أرباع قرن من الاحتلال، خطب المفتي الفاضل بن عاشور بشأن سياسة التقشّف التي تريد لها الدولة غطاءً دينياً يجعل الناس يتقبّلونها إبّان الأزمة الاقتصاديّة التي جرّها التعاضد، فذكر تغيّر الوازع من ديني إلى عصبيّة وسيف، لكن لم يردّه إلى المُلك القائم الذي جاوز العضوض بمراحل ولا أتى على ذكر الخلافة وارتباط قوّة الوازع الديني بها، بل أخلى مسؤوليّة الملك بقوله، مدّعياً أنّ مرجعيّته ابن خلدون: “إنّ مرجع جميع دواعي الانحطاط في المجتمع الإسلامي ليس إلى الأسباب السياسيّة، ولا غيرها وإنّما هو إلى حقائق الخلق الاجتماعيّ”.
هكذا جبن المفتي عن ذم سياسة الحاكم الجائر ولو بغطاء قول ابن خلدون، وركن إلى ما يسهل من توجيه اللائمة إلى الشعب في ابتعاده عن وازع ديني تقع مسؤوليّة الدفع نحوه على الحاكم والدولة، لكن أنّا له أن يتكلّم في انحرافات الحاكم والدولة وإمعانها في رقع الدنيويّ بتمزيق الدين، وهو الرجل الضعيف الذي عجز عن جعل ذرّيته يقفون عند الوازع الديني، والبعيد عن أفضل الجهاد.. عن كلمة عَدْلٍ عند سُلْطَانٍ جَائِر. وهذا حال حيّز غير هيّن من أهل العلم والسياسة راهناً.