في الوقت الذي تواصل فيه القوات الروسية امتدادها للهجوم على المدن الأوكرانية ذات الأهمية، تتربص القوات بلؤلؤة البحر الأسود أو مدينة أوديسا الأوكرانية العريقة.
إذ تستهدفها القوات الروسية بهجوم عسكري متواصل منذ أيام، فيما يبدو استهدافاً ممنهجاً للمدن ذات الثقل التاريخي والأهمية الاستراتيجية بالنسبة لما يسميه الرئيس فلاديمير بوتين بـ “روسيا الجديدة”.
فبعد سقوط خاركيف، ثاني أكبر مدينة بأوكرانيا، في يد القوات الروسية، تبدو أوديسا، أعرق مدن أوكرانيا والمنطقة، على الطريق لمصير مماثل أيضاً، وذلك لأهمية تلك المدينة التي تمتد منذ عقود وحتى يومنا هذا.
سهول ساحلية وموقع استراتيجي مميز
أوديسا هي مدينة ساحلية وميناء، تقع جنوب غربي أوكرانيا. وهي تقف على مسافة ضحلة لساحل البحر الأسود شمال مصب نهر دنيستر وجنوب العاصمة الأوكرانية كييف.
وعلى حافة البحر الأسود، تقع منطقة أوديسا على امتداد هائل ومنبسط وخصب منذ أكثر من ألف عام مع بدايات أول حضارة روسية مزدهرة في المنطقة، وهي كييف روس أو “روسيا الكييفية”.
منذ ذلك الحين، استعمرت العديد من الإمبراطوريات سهولها الضخمة، وخرج منها القوزاق المشهورون الذين حكموا معظم أوروبا. كما جذبت ثروتها الطبيعية العديد من الغزاة على مر القرون، مثل المغول والأتراك والألمان.
بداية تأسيس مدينة أوديسا
على الرغم من استيطان موقعها منذ العصور القديمة، فإن تاريخ مدينة أوديسا الحديثة بدأ في القرن الرابع عشر عندما تم إنشاء حصن وقلعة خادجيبي التتاري هناك، ثم انتقلت المدينة لإمبراطورية ليتوانيا وبولندا وصولاً لوقوعها عام 1480 في قبضة الدولة العثمانية.
وبحسب الموسوعة البريطانية للتاريخ Britannica، اقتحم الروس حصنها المنيع في عام 1789، وفي عام 1794 أضيفت قاعدة بحرية ورصيف تجاري للمنطقة. في عام 1795، سُمّي الميناء الجديد أوديسا نسبةً إلى مستعمرة أوديسيوس اليونانية القديمة، التي يُعتقد أن موقعها كان في منطقة قريبة من الميناء.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وبالتالي تأسست المدينة الحديثة لأوديسا على يد الإمبراطورة الروسية كاترين “العظيمة” في عام 1794، والتي أرادت أن تصبح أوديسا أول ميناء روسي فعّال على مدار العام، وكذلك لضمان الهيمنة الروسية على شاطئ البحر الأسود المُحتل حديثاً أو ما كان يُعرف باسم إمبارطورية “نوفوروسيا” أو “روسيا الجديدة”.
وقد أرسلت الإمبراطورة كاثرين إخطارات في جميع أنحاء أوروبا تعرض فيها على المهاجرين الأرض بشكل مجاني، مع الإعفاءات الضريبية والحرية الدينية؛ لكي تجذب المهاجرين من جميع الأنواع لتعزيز اقتصاد المنطقة.
وبفضل موقعها ومكانتها حتى عام 1859 باعتبارها “بورتو فرانكو” أي ميناء حر مُعفىً من الضرائب، جذبت مدينة أوديسا التجار والمصدّرين الأجانب الأثرياء من حول أوروبا والعالم، وكان معظمهم من اليهود الذين تعرضوا لتضييقات من الإمبراطورية الروسية في المدن الأخرى.
وفي غضون بضعة عقود أصبحت أوديسا مدينة كبيرة ومركزاً لتصدير الحبوب الروسية إلى أنحاء أوروبا. ومع نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت أوديسا رابع أكبر وأهم مدينة في الإمبراطورية الروسية، بحسب موقع Scalar الأوكراني.
تطور غير مسبوق جعل مدينة أوديسا بوابة البحر الأسود
خلال القرن التاسع عشر، كان نمو أوديسا سريعاً، خاصة بعد ظهور السكك الحديدية في عام 1866. فأصبحت أوديسا ثاني أهم ميناء في البلاد، بعد سانت بطرسبورغ، بحسب موقع Encyclopedia of Ukraine.
وقد كانت الحبوب تصديرها الرئيسي، خاصة مع خصوبة سهولها الممتدة ووفرة إنتاجها الزراعي الذي فاض عن الاستخدام المحلي.
بعد الثورة البلشفية عام 1917، احتُلت المدينة من قِبل العديد من القوى، وضمنها الحكومة الوطنية الأوكرانية المستقلة قصيرة العمر، والفرنسيون.
وقد تولى الجيش الأحمر للبلاشفة زمام الأمور بشكل نهائي في عام 1920 ووحَّد المدينة مع جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية.
وحدث ذلك بسهولة، بسبب الدمار الناجم عن الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الروسية، وجزئياً بسبب المحاولات المبكرة من قِبل السوفييت للاستيلاء على المنتجات الزراعية وعوامل أخرى؛ ما تسبب بنهاية المطاف في معاناة مصدر الحبوب الكبير في أوديسا وكييف من مجاعة في 1921 و1922، وفقدت جزءاً كبيراً من سكانها يُقدر بـ4 ملايين شخص، وفقاً لصحيفة Economic Times.
استمرت معاناة المدينة في الحرب العالمية الثانية، عندما احتلتها القوات الرومانية والألمانية بين عامي 1941 و1944. وقد تم القضاء على الوجود اليهودي الضخم في المدينة إلى حد كبير.
ولم ينتهِ احتلال المحور حتى عودة الجيش السوفييتي في عام 1944، ثم حصلت أوديسا على لقب “مدينة الأبطال” في العام التالي.
وعلى الرغم من حجم الدمار، نمت المدينة بسرعة بعد الحرب، بسبب تدفق سكان الريف الذين انتقلوا إلى أوديسا بحثاً عن فرصة اقتصادية عندما أعاد السوفييت بناء المدينة.
واليوم، تضم المدينة أكثر من مليون شخص وتحتفظ بمزيجها الفريد من الثقافات السلافية والمتوسطية وتعدد الأديان والأعراق، وهو ما ينعكس في مزيجها الانتقائي والملوَّن من الأساليب المعمارية التي تمزج بين الطراز الكلاسيكي الحديث والطراز الباروكي الإيطالي والروسي والسوفييتي.
ميناء رئيسي للبحر الأسود حتى اليوم
كذلك، تعرضت مدينة أوديسا لأضرار جسيمة بالحرب العالمية الثانية في عام 1940-1945 خلال دفاعها المطول ضد القوات الألمانية والرومانية، والذي أفضى في النهاية إلى سقوطها.
وبحسب موقع Geo History للتاريخ، لا تزال المدينة ميناءً رئيسياً في أوكرانيا، إذ تضم أرصفة مجهزة وساحات لإصلاح السفن واستقبال أعداد كبيرة منها.
بعد عام 1957، تم بناء ميناء جديد في إليشيفسك، على بُعد 20 كم إلى الجنوب، ما جعل مدينة أوديسا هي قاعدة أسطول الصيد لتلك المنطقة بأكملها.
وتعد خطوط السكك الحديدية في المدينة بمثابة شريان من الحركة والنقل لجميع أنحاء أوكرانيا ومولدوفا ورومانيا.
علاوة على دورها على البحر الأسود كميناء بارز، تُعد مدينة أوديسا أيضاً مركزاً صناعياً كبيراً، مع مجموعة واسعة من الصناعات الهندسية الخاصة بتلك المنطقة؛ وتشمل المنتجات الأدوات الآلية والرافعات والمحاريث.
كما كانت أوديسا أيضاً موقعاً لتكرير النفط ومعالجة نبات الجوت الذي استُخدم في صناعة قماش “الخيشاني” لصناعة الخيش والحبال ونوعيات من أكياس التعبئة والحاويات، وكذلك تصنيع السلع الاستهلاكية وتجهيز الأغذية.
إذ تقع معظم المصانع شمال الميناء على طول الواجهة البحرية، مع وجود مصانع أحدث في الضواحي الغربية، بحسب موقع Earth ESA للجغرافيا.
وعلاوة على دورها الاقتصادي وموقعها الاستراتيجي، تتمتع أوديسا بكونها مركزاً ثقافياً بارزاً، خاصة مع استيطانها منذ قرون طويلة قبل حتى أن تُصبح المدينةَ الحديثة التي نعرفها اليوم.
فهي تضم العديد من مؤسسات التعليم والمراكز البحثية، وعدداً من المتاحف والمسارح العريقة في منطقة أوروبا بالكامل، وضمن ذلك دار الأوبرا ومسرح الباليه بأوديسا واللذان يعود تاريخهما إلى عام 1809.