كانت قريش قبيلة عربية ذات شأن كبير، خرج من هذه القبيلة أعظم رجل في التاريخ كله، رجل قاد أمة أمية إلى العلم، وقاد قوماً يأكل بعضهم البعض إلى الاتحاد تحت راية لا إله إلا الله.
وهكذا وانطلاقاً من مكة والمدينة سطعت أنوار هذا الدين لتضيء ظلمات الدنيا بنور الإسلام، ويخر لعظمة رجاله ملوك الأرض أجمعون، من هرقل الروم إلى مقوقس مصر فكسرى فارس، ولم يكن باستطاعة أحد من العالمين أن يوقف هذا المد المبارك ولا أن يزيحه عن غايته، حتى شاء الله أن يصل هذا الدين ما وصل ضوء الشمس ونور القمر.
لم تكن مسيرة الإسلام بذلك اليسر فقد مرت بعقبات كثيرة، لعل أشهرها ما حدث بُعيد وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم من فتنة عرفت تاريخياً بـ”الردة”.
تجمعت مجموعة من القبائل لمحاربة خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام “أبي بكر الصديق رضي الله عنه” تحت لواء مسيلمة الكذاب الثقفي، معلنين أول الأمر أن ما كان يربطهم بالإسلام هو رسول الله فلما فاضت روحه إلى بارئها فلا صلة بينهم وبين الإسلام.
هكذا وجدت مجموعة من القبائل نفسها في مواجهة مع الإسلام الذي انتمت له قبل مدة وجيزة وذلك لأن أغلب من ارتد ممن هم حديثو الإسلام لم يخالط الدين الجديد أرواحهم ولعلهم أسلموا بالقول فقط مصدقاً لقوله تعالى: “قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم”.
حمل أكثر الناس على معاداة الإسلام في أوله وآخره النسب، فقريش لم تتقبل أن يخرج الرسول من بني هاشم، ويهود المدينة رفضوا الإيمان بنبي العرب وكانوا يريدونه من نسل إسحاق لا إسماعيل، وأهل الردة كذلك كفروا للنسب والموطن، فقد اشتهر للقبائل العربية المرتدة قولهم “كذاب ربيعة خير عندنا من صادق مضر”.
وكذاب ربيعة هو مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة على عهد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وصادق مضر ليس إلا رسول الله، فهم يعلمون أن مسيلمة كذاب أشر إلا أن حمية الجاهلية والتعصب للقبيلة دفعهما إلى اتباعه ولو على جهالة وكفر.
وكذلك كفر الشعبويون من الأمم الجديدة في الإسلام من الفرس خاصة، ورفضوا الإيمان برسالة الحبيب لأنه عربي، ومنهم من أخفى إلحاده وتبنى الإسلام تقية وهم كثر في تاريخ الإسلام، وهؤلاء إنما حملتهم القبلية والجاهلية على رفض النبوة قبل كل شيء، فقد راعهم أن يدمر الدين الجديد دين آبائهم ويقضي على ما كان لهم من مجوسية ومثناوية (دين ماني أنموذجاً) ومن تاريخ في الوثنية، وهم قبل هذا كانوا يرون أنهم أحق أهل الأرض بالجاه والسلطان وهم قبل هذا كانوا يحكمون المشهد السياسي في المنطقة وتخضع القبائل العربية لهم، فكيف يتقبلون انقلاب الحال وخروج نبي من العرب التي يحتقرونها، هكذا ظهر الشعبيون في تاريخ الإسلام.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ليومنا هذا ما زال رهط يرفضون ما جاء به الإسلام ليس على بينة ولا علم، بل شعبوية، ومن هؤلاءِ الملحدون في شمال إفريقيا ممن ينسبون أنفسهم لحضارة الأمازيغ.
وهؤلاء يرفضون الدين رفضاً باتاً، لأن العنصر العربي كان صاحب الرسالة وهم يرون أن العرب إنما هم أمة جهل وتخلف وسفك للدماء، فلا يعقل أن تأتي بخير ولا يتصورون أن الله يهدي من يشاء ويضل من يريد، ولا يتحججون بما يعول عليه بل بالسفسطة والكلام الفارغ، كقولهم إن الحضارة كانت في المنطقة فجاء العرب فدمروها مع أن العرب لم يجدوا إلا الأشواك والأشجار وحكاية بناء مدينة القيروان خير دليل، فقد بنيت في منطقة موحشة لا حضارة ولا بنيان، وما كان في شمال إفريقيا لا يعدو عن مدن أقام أغلبها الفينيقيون والرومان، وما دونها لا يرقى لكونه مدناً.
رفض هؤلاء وغيرهم الإسلام وحاربوه أشد ما يكون من الحروب، لأنه دين العرب ونسوا قوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.
وأن التاريخ يعيد نفسه، يتكرر الأمر ذاته اليوم ونحن في القرن الواحد والعشرين، فقبل أيام تفجر نقاش شعبوي حاد حول مسلسل “فتح الأندلس”.
الفتح الموري للأندلس
كعادة القنوات الفضائية في رمضان تبث القناة المغربية الأولى مسلسلاً بعنوان “فتح الأندلس” ومن العنوان يفهم أن أحداثه ستتناول حدث فتح الأندلس وما تلاه من نوازل، وكعادتها تلقت الجماهير في العالم الإسلامي عامة ومنطقة شمال إفريقيا خاصة المسلسل بسرور.
لكن كما هي عادة كل ما يجمع بين هذه الدول يجلب الصراع والشقاق.
فما إن عُرضت الحلقة الأولى حتى انهالت التعليقات الناقدة من جهة والساخرة من جهة أخرى، فمنهم من وصفه بالمهلهل والآخر بالمُحرف وهلم جرّا، ولم يسلم من النقد لا مخرج ولا ممثل ولا موسيقى، الكل بات في نظر رواد السوشيال ميديا “دجالاً” يمارس الدجل على الناس ويدلس عليهم تاريخهم.
كما أسلفنا في البداية هناك فئة من الشعبويين تعتقد أن العرب لم يكن لهم حظ في الحضارة وهؤلاء رفضوا الإسلام أو مزجوا بين وثنيتهم والإسلام (عبد الغني منديب، الدين والمجتمع…)، ومن هذه الفئة خرج علينا فصيل لا يرفض الإسلام جملةً وتفصيلاً، ولكنه في المقابل يرى أنه عوض الحضارة الإسلامية هناك “الحضارة المورية”، وهذه الحضارة هي نتاج حضارة مغربية خالصة شارك فيها المغاربة الأمازيغ وحسب ولم يكن للعرب فيها حظ، وفتح الأندلس لم يكن إسلامياً، بل مغربياً!
دفاعاً عن رؤيتهم القُطرية للتاريخ الإسلامي يرفض هؤلاء الموريون كل كتب التاريخ، فلا يمكن إلزامهم بحجة الكتب التاريخية التي تتحدث عن الوجود العربي في بلاد الأندلس، فهي في نظرهم كتب محرفة تزور التاريخ لصالح عرب الشرق؛ وحتى تلك التي كتبها الأجانب لا تصلح، فالأجانب متأثرون بالكتب العربية، وهكذا سيدخلك في دوامة لن تخرج منها أبداً.
وبما أن المغاربة من فتحو الأندلس وبنوا حضارته العظيمة، فكيف يتوقع أن يتقبل هؤلاء عملاً كيفما كان يتحدث عن فتح إسلامي شارك فيه الشرق والغرب؟
لن يقبل وهناك شريحة من المثقفين الملوثين بلوثة “التمغربيت” يسقطون أحكامهم الجاهزة على تاريخ الإسلام برمته، ومن هؤلاء من يرفض فكرة الفتح أصلاً ويراه غزواً، وقد تصادف وعلق أشهرهم على هذا المسلسل بكلام من قبيل تزوير التاريخ وما جواره، والغريب أن هذا الرجل يرفض كما قلنا الفتح ومع ذلك يريد أن يمعن في إسقاط نظريته برفض النظريات الأخرى وبإسكات أفواه الناس عن الكلام وأقلامهم عن التدوين وشاشاتهم عن العرض، وود لو أن الناس جميعاً على منواله؛ ولكنه في نفس الوقت يطالب بمراجعة الدين لأنه يكبح الحريات!
الفتح الجزائري للأندلس
إذا كان المغاربة قد دخلوا الجدال حول المسلسل تحت شعار “دفاعاً عن الحضارة المغربية” بحضارتهم المورية، فإن الجزائريين أدلوا بدلوهم في الموضوع وشاركوا في حملة الشجب والنقد، وذلك لأن المسلسل طمس جنسية طارق بن زياد الحقيقية، فطارق ليس مغربياً كما يشاع بل هو تلمساني أباً عن جد، وأمه، وهو أمير ابن أمير.
في هذا السياق كتب الكاتب الجزائري ياسين بوغازي على صفحته الفيسبوكية ما نصه “للعلم طارق بن زياد كان أميراً لتلمسان قبل فتح طنجة، لم يأتِ الحديث مطلقاً فى حوار السيناريو عن مناطق المغرب العربي الأوسط وهي الجزائر.. ولا عن انتماء طارق بن زياد ومكان نشأتهِ وظروفه الثقافية والاجتماعية”.
لقد عبَّر الجزائريون شأنهم شأن المغاربة عن سخطهم من المسلسل؛ لأنه لم يذكر الجزائر مع أن طارق بن زياد حمل جواز السفر الجزائري، ومع أن الفتح فتح جزائري!
ما هي الجنسية الحقيقية لطارق بن زياد؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال، لماذا لا نبدأ بسؤال ربما يفتح أعيننا بوضوح على شعبوية هذه الحملة، السؤال هو: “ما جنسية الرسول صلى الله عليه وسلم؟”.
قد يبدو السؤال غبياً وربما ساذجاً إلا أن طرحه مهم للغاية كما قلت، فإجابتنا عليه تنهي النقاش حول طارق بن زياد وليس طارق فقط، بل كل القادة المسلمين.
لقد قيل لي ذات مرة إن رسول الله سعودي، فما كان منِّي إلا أن أوقفت النقاش مع صاحب هذا التعليق إدراكاً مني أن الرجل خارج التاريخ يهيم في عالم آخر.
رسول الله عربي من قبيلة قريش إلا أن هذا التفصيل لم يعنِ له شيئاً ولا حاول التفاخر به كما تحب العرب، بل كان دائم الحرص على جعل الصحابة إخوة في الدين مهما اختلفت مشاربهم، وهكذا فقط استطاع الوصول إلى ما وصل إليه، بل إن الحديث عن القبلية والصراع قد حرمنا من فضل كبير وهو معرفة يوم ليلة القدر.
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: “خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم؛ فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة”، رواه البخاري.
ولو أن رسول الله عليه الصلاة والسلام بيننا اليوم لغضب أشد الغضب من هؤلاء الذين يؤذون المسلمين ويفرقون بينهم، فهذا يقول المغرب وذاك الجزائر والآخر عمان والرابع مصر.
لقد اقتتلت العرب لأربعين سنة وأكل بعضهم البعض في حرب البسوس (بين تغلب وبكر) وظلت التفرقة تمزق ذواتهم وفي هذا يقول طرفة بن العبد في قصيدته “ما تنظرون بحق وردة”:
“والظلم فرق بين حيي وائل.. بكر تسوقها المنايا تغلب”.
وها نحن اليوم بعد أن جمعنا الله على كلمة واحدة تفرقنا قبائل وأمم يكره بعضهم البعض ويكيد الأخ لأخيه، وصدق قول الله فينا: “قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض”.
من هذا كله نكتشف أن طارق لا هو مغربي ولا جزائري، ولكنه قائد مسلم قبل هذا وذاك، ونقاش جنسيته جعجعة بلا طحين.
متى ظهرت الدولة؟
بسبب الجهل وقلة القراءة وسوء الأنظمة التعليمية لا يدرك المسلمون إلا القلة أن مسألة الدولة القطرية لم تكن مطروحة طيلة التاريخ الإسلامي؛ بل إن منظومة الإسلام الفكرية لا يوجد فيها بعض مفهوم الدولة بمعناها المعاصر، وفي هذا يورد وائل حلاق في كتابه “الدولة المستحيلة” ص 13-132، ما نصه: “والحال إن الطبيعة المؤقتة نسبياً للسلطة التنفيذية السلطانية تنعكس في مفردات الإسلام. فلفظ للدولة هو المخصص للحكم السلالي (Dynastic rule)، وأصبح يشير إلى مجمل الدولة الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر وبعده. بيد أنها شيء من هذا… كانت فكرة التداول وتعاقب الأسر الحاكمة أساسية في هذا المفهوم. هكذا تبقى الأمة ثابتة لا تنتهي إلى يوم الدين، أما الدولة فزائلة… فهي وسيلة لا غاية”.
إن مولد الدولة الحديثة يعود لسنة 1648 وحدث “معاهدة وستفاليا” التي أنهت حرب الثلاثين سنة “1618-1648”.
وما قبلها كما قال الدكتور وائل لا وجود لمفهوم واضح للدولة حتى في الغرب، فما بالك بالعالم الإسلامي، فلا جنسيات إذاً ولا جوازات سفر.
بالتالي نفهم أن الصراع القائم حول الجنسية هو من نتائج الجهل بالتاريخ، وهو جهل خطير، خاصة أنه يمس الكثير من المثقفين.
خاتمة لا بد منها
يجب على المسلمين إدراك خطورة الدخول ودعم النقاش حول الجنسيات وحول تفوق دولة على أخرى، فالمشاركة في إثارة الفتنة بين المسلمين جلل، ولا يجب الاستهانة به “وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم”.
كلنا مسلمون، وهذا الأهم علينا التركيز على ما يجمعنا لا ما يفرقنا، وهذا وحده كفيل بأن يعيد أمجادنا الغابرة أو يخرجنا على الأقل من حالة الخصام اللامعقول بيننا شعوبنا ويبني مستقبلاً مشروعاً للاتحاد على غرار باقي التكتلات العالمية.