حين جاء مصطفى إسماعيل من الغربية إلى القاهرة وكان في أوائل العشرينات من عمره، كان من المنطقي أن يتجه إلى شيخ المقرئين، الشيخ الأهم والأشهر في دولة التلاوة، وهو الشيخ “محمد رفعت”، يومها استقبل الشيخ محمد رفعت مصطفى إسماعيل المقرئ الشاب القادم من قرية في محافظة الغربية واستمع إليه بإنصات وسره ما سمع منه، فمسح على شعره وقال له: “فتح الله عليك يا بني، حافظ على صوتك فسيكون لك شأن كبير”.
قبل هذه المقابلة بسنوات قليلة والتي كانت هي البشارة للشيخ مصطفى، كان هناك موقف جمع الشيخين ببعضهما، فحدث أن توفي حسن باشا القصبي النائب في محافظة الغربية، وفي سرادق العزاء حضر كبار شخصيات البلد مثل مصطفى باشا النحاس وفؤاد باشا سراج الدين وحضر مشاهير القراء في الدولة: الشيخ محمد رفعت وحسن صبح والشعشاعي.
وقد حضر الشاب مصطفى إسماعيل بناءً على دعوة من أحد أبناء النائب الراحل، وحين هَمّ الشيخ بالصعود إلى الدكة للقراءة فوجئ بالشيخ صبح يعنفه بشدة ويمنعه من القراءة بجوار عمالقة التلاوة: “بلاش شغل عيال”، لكن تدخل صديقه ابن النائب وأصلح الموقف سريعاً وأخبره أن الشيخ مصطفى سيقرأ في العزاء بناءً على رغبته الشخصية، وقرأ الشيخ مصطفى وأمتع الحاضرين بصوته وبدأ الجميع يتساءل عن هذا الفتى المغمور الذي سحرهم بصوته، حتى إن الوزير فؤاد باشا سراج قابله بعد أن انتهى من القراءة واتفق معه أن يحيي شهر رمضان بأكمله في قريته في محافظة الشرقية، وأصبحت عادة سنوية أن يحيي الشيخ مصطفى ليالي رمضان في قرية “كفر الجرايدة”.
أكثر من 100 سيجارة!
على الرغم من اتفاقنا على أن صوت مصطفى إسماعيل ساحر بطريقة غير طبيعية فإننا في الحقيقة حُرمنا من سماع كامل إبداعات الشيخ مصطفى في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وليس بتأثير تقدمه في العمر، وإنما بسبب حادث أليم عام 1953 لأحد أفراد أسرته، مما أدخل الشيخ مصطفى إسماعيل في حالة نفسية سيئة جعلته يعتاد التدخين بشراهة.
يحكي الباحث والناقد الكبير كمال النجمي أن الشيخ مصطفى إسماعيل اعتاد تدخين أكثر من مئة سيجارة يومياً، وبعد أن خرج من هذه المحنة لم يعد صوت الشيخ مصطفى مثلما كان قبلها، لكن صوته قد انتقل لمرحلة جديدة، ذات جمال وقدرات مختلفة، استطاع تطوير صوته فوصل إلى أقصى ما يمكن الاستفادة منه بسبب تمكنه.
الدراسة أم الموهبة؟
من أشهر قليلة كتبت عن علاقة الشيخ مصطفى إسماعيل والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وأن موسيقار الأجيال كان ينبهر من عمق فهم الشيخ مصطفى لعلم النغم والمقامات الموسيقية رغم عدم دراسته لها بالشكل الأكاديمي، ورد عليّ وقتها أحد أساتذتي الكبار بأن من الخطأ اعتبار الشيخ مصطفى غير دارس لعلوم الموسيقى والنغم.
وبقي لدي التساؤل: هل درس الشيخ علوم الموسيقى أم لا؟
يقول الكاتب الكبير أيمن الحكيم إن هذا الجدال لا يزال قائماً، وبحثاً عن إجابة قاطعة فقد سافر الأستاذ أيمن إلى طنطا لزيارة أهم مرجع لكل المقرئين وهو الدكتور طه عبد الوهاب، خبير الأصوات والمقامات.
يقول الدكتور طه: “من يتابع تسجيلات الشيخ مصطفى إسماعيل يدرك أنه يمتلك مخزوناً غير عادي من النغم، عنده قدرة مذهلة في التنوع والتنقل بين المقامات، وعنده استعداد أن يعيد الآية نفسها مئات المرات وفي كل مرة تجدها مختلفة عن سابقتها، حتى لو داخل المقام الواحد وعنده الخبرة والدراية أنه في أي مقام يذهب إليه يمس قلب سامعه.
وأحياناً كان يتعرض لحاجة نسميها فروع المقامات، وهذه قلما تجد قارئاً متمكناً منها، الشيخ مصطفى كان أستاذاً في هذه المقامات المركبة مثل العشاق المصري والذي يتكون من مقامي البيات والنهاوند، وأتصور أنه الذي عرّف الجمهور السمّيعة على فروع المقامات.
وهذا من الأسباب الذي جعلتني على قناعة كاملة بأن الشيخ مصطفى قد درس فن المقامات وكان على دراية كاملة به، وأن دراسة المقامات لا تقتضي بالضرورة دراسة الآلة الموسيقية، فالشيخ مصطفى درس المقامات دراسة سمعية وساعده في ذلك موهبته الفطرية، فانتقالاته بين المقامات وتفريعاتها توضح مدى تمرسه وتمكنه، وكيف يمهد للمقام والمقام المناسب لكل آية وكيفية الانتقالات بين المقامات بسلاسة، لذلك فهو بلا شك دارس للمقامات وعارف بأسرارها”.
رفع الأذان في المسجد الأقصى وصلى بالناس في أولى القبلتين
في العام 1977 زار السادات الأراضي المحتلة، وفي تلك الزيارة التاريخية اصطحب معه الشيخ مصطفى إسماعيل ليرفع الأذان ويقرأ القرآن في المسجد الأقصى، وعلى الرغم من أن بعض الناس يقولون إن الشيخ محمود خليل الحصري كان بصحبة السادات والبعض الآخر يقول إن الشيخ الطبلاوي كان مع الوفد المرافق للرئيس الراحل، حتى إن بعض المواقع تكتب أن نصر الدين طوبار هو الذي رفع الأذان في الأقصى، فالحقيقة هي أن الشيخ مصطفى إسماعيل هو المقرئ الوحيد في الوفد الرسمي المرافق للسادات في تلك الرحلة وذلك بناءً على طلب من السادات نفسه.
يحكي عاطف نجل الشيخ مصطفى أنه بعد نشر حوار قديم للشيخ الطبلاوي يقول فيه إن زيارته للقدس مع السادات كانت من أسعد أيام حياته، اتصل برئيس تحرير المجلة وقال له إن الشيخ الطبلاوي لم يسافر مع السادات وإذا كان الطبلاوي يمتلك دليلاً واحداً على زيارته فليقدمه، وحين اتصلوا بالطبلاوي وطالبوه بتقديم الدليل سألوه بصراحة هل سافرت أم لم تسافر؟ فكانت إجابة الشيخ الطبلاوي غريبة للغاية: “هو أنا قولت حاجة تؤذي حد ولا أخدت حاجة من حد”، وبعد هذه المكالمة اتصل رئيس تحرير المجلة بنجل الشيخ مصطفى وقال له: “معاك حق تزعل.. هنعمل تصحيح”.
وأيضاً نشرت إحدى الجرائد أن الشيخ نصر الدين طوبار كان برفقة السادات وأخذ الشيخ يكبر تكبيرات العيد ويردد المصلون بعده في المسجد الأقصى، وتابع عاطف مصطفى إسماعيل أن كل ذلك محض خيال، فصلاة العيد من الأقصى قد نقلتها الإذاعة المصرية على الهواء مباشرة، ولم يكن هناك سوى صوت أبي الشيخ مصطفى إسماعيل.
يمكنك تحميل واستماع القرآن الكريم بصوت الشيخ مصطفى اسماعيل عبر الضغط هنا
يقول عاطف إنه لم يكن يعرف أن والده قد سافر مع السادات غير صدفة حين كان يتابع زيارة السادات على التلفاز وهو في ألمانيا، وجلس مع ابنته يشاهد هبوط طائرة السادات وفوجئ بوالده يسير مع الوفد المرافق للرئيس السادات، وبعدها قام بالاتصال بفندق “الملك داوود” المقيم فيه والده بالقدس، وطلب توصيله بالغرفة التي ينزل بها الشيخ مصطفى إسماعيل الذي وصل اليوم مع الوفد المصري، وبعد لحظات رد الشيخ مصطفى على الهاتف وسأل عن المتصل، فقال له: أنا عاطف، فسأله الشيخ بدهشة: عاطف مين يافندم؟ فقال: “عاطف مصطفى إسماعيل ابن حضرتك”. فصاح بفرح: “يابن الكلب! عرفت منين إني هنا؟”.
وطلب منه الشيخ أن يوقظه الساعة ثلاثة ونصف لأنه سيقوم بقراءة قرآن الفجر في المسجد الأقصى ويخشى أن يستغرق في النوم.
الشيخ الشعشاعي: أنا ظلمتك يا شيخ مصطفى
كان الشيخ مصطفى إسماعيل متسامحاً لأبعد الحدود وقد تعرض أكثر من مرة للهجوم والافتراءات خاصة من داخل وسط القراء نفسه، لكنه ترفَّع عن الرد وكان دائماً يقول: “مش عاوزينهم يقولوا عِمَم مصر بتتخانق”، فكان لا يرد الإساءة مهما كانت.
ومن تلك المواقف سأحكي ما حدث بينه وبين الشيخ الشعشاعي، فلم يكن الشعشاعي من المرحبين بصوت الشيخ مصطفى، وكان يحاربه كثيراً ويقول عنه كلاماً سيئاً في الجلسات الخاصة، ورغم أن الشيخ مصطفى كان يصله ما يقوله عنه الشعشاعي لكنه لم يرد ولم يتحدث عنه بسوء، وظل الوضع هكذا لما يقرب من خمسة عشر عاماً حتى سافر الشيخ مصطفى إسماعيل إلى سوريا في شهر رمضان، وكانت الإذاعة المصرية تنقل تلاوته على الهواء من هناك، وبعد أن عاد الشيخ مصطفى إلى مصر فوجئ بالشيخ الشعشاعي يتصل به في العيد ويقول له: “أنا ظلمتك يا شيخ مصطفى، سمعت تلاوتك من سوريا.. أنت بقيت مقرئ عظيم”. ومنذ ذلك اليوم أصبح الشيخ مصطفى والشيخ الشعشاعي صديقين.
المحطة الأخيرة
كانت آخر تلاوه للشيخ بمحافظة دمياط، ثم توجه إلى الإسكندرية، وبعد ذلك ظهر الإعياء الشديد عليه، ونُقِل إلى مستشفي بالإسكندرية وهو في حالة غيبوبة كاملة، ظل بها عدة أيام، وتوفى يوم الثلاثاء الموافق 26 ديسمبر/كانون الأول 1987 ودُفِن في قريته ميت غزال بمحافظة الغربية، وقد تم بناء مقبرة في بيت العائلة بناءً على وصية الشيخ مصطفى.
وعلى الرغم من وجود قانون يمنع بناء المقابر داخل البيوت في ذلك الوقت، فإن الأمر جاء من السادات حرفياً: “اللي قال عليه الشيخ مصطفى يتنفذ فوراً”، وبالفعل تم بناء مقبرة الشيخ مصطفى إسماعيل في منزله بقرية ميت غزال.
السنباطي في سرادق العزاء
في سرادق عزاء الشيخ مصطفى كان يجلس ابنه الأكبر عاطف بجوار المؤرخ والناقد الكبير “كمال النجمي” وقال النجمي لعاطف: “عارف مين اللي هناك ده ولابس عباية وطاقية؟ فالتفتَ عاطف، ولكنه لم يعرفه، فقال له النجمي: “دا رياض السنباطي”.
ولم يكن هناك ما يجمع بين السنباطي والشيخ مصطفى فلم يلتقيا من قبل، لكنه كان يجلس متأثراً برحيل أحد عظماء الجيل، فذهب إليه عاطف وأخبره أنه نجل الشيخ، فسلم عليه السنباطي بحرارة وقال له: “أنت ابن حبيبي!”.
وتابع السنباطي: “اسمع يابني، كل اللي فتحوا حناجرهم من أيام الحامولي لحد يومنا ده، مايجوش حاجة جنب أبوك، أبوك استوعب كل الأصوات والمقامات والمواهب وحط فوقهم من عنده عشرين مرة، وترتيبه في المقامات أثناء التلاوة فريد.. أبوك كان جامعة مش بس مدرسة”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website