عندما نتحدث عن الصوفية قد يخطر ببالك رجال زهدوا في الدنيا وما فيها، فقرروا اعتزال الناس والتفرغ للعبادة في مكانٍ ما في الصحراء. قد تفكر أيضاً بالدراويش الزهاد الذين يهيمون بملابسهم البيضاء البسيطة من بلدٍ إلى آخر يتحدَّثون عن حب الله ويرددون اورادهم.
وليس من المُرجَّح عند اغلب هذا الجيل انك ستتخيَّل صوفياً مُمسكاً بيده سيفاً أو بندقيةً في ساحة الجهاد بوجهٍ لطّخته دماء الأعداء وثيابٍ كساها غبار المعارك، لكنّ هذه الصورة التي قد لا تخطر ببالك ما هي إلا وجه آخر للصوفيين لا يعرفه الكثيرون.
ما هو الجهاد عند الصوفية؟
قبل أن نتحدث عن رحلة الصوفيين مع الجهاد، لنعرّف الصوفية أولاً.
يُعرَّف التصوف على أنه طريقة اسلامية، في حين أنّ الصوفية ليست مذهباً بالمعنى الفقهي، وإنما هي مرتبةٌ من مراتب الإسلام الثلاثة (الإسلام، الإيمان، الإحسان)، حيث يركِّز الصوفي على تحقيق مقام الإحسان بتربية نفسه وقلبه وتطهيرهما من الرذائل.
وكانت الحركة الصوفية قد بدأت بالانتشار في العالم الإسلامي نزعاتٍ فرديّة منذ القرن الثالث الهجري، ثم تطوّرت وتقولبت في عِدَّة طُرق أو مذاهب مختلفة عرفت باسم “الطرق الصوفية”، منها على سبيل المثال: الطريقة القادرية والنقشبنديّة والرفاعية والشاذلية. وكل طريقة من هذه الطرق تنتسب لاسم مؤسسها.
وبالرغم من أن هناك نماذج لمدّعو التصوّف ارتبطوا أحياناً ارتباطاتٍ مشبوهة في بلادهم بالاحتلال الأوروبي، أو بحكّامٍ مُستبدّين وفاسدين. أو اقتصر نشاطهم على الانعزال والتركيز على النواحي الروحية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك دائماً. الصوفيون الحقيقيون لا ينعزلون كالرهبان، بل ينخرطون في الحياة، وأبرز هذه الانخراطات عند الصوفية في مبدأ الجهاد، العنصر المركزيّ الحاضر في الأسس الفكرية للتصوف
جهادٌ أصغر وجهادٌ أكبر
فمنه جهادُ الإنسانِ ضد أهوائه وشهواته، وأمَّا الآخر فهو جهادُ أعداء الإسلام في ساحات المعارك. يستندون الصوفيون في تصنيفهم هذا إلى حديثٍ للرسول، إذ روي أن النبي قال بعد عودته من إحدى غزواته: “رجعنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ فقال: جهاد النفس”.
وبطبيعة الأحوال، وَصف جهاد الأعداء بالجهاد الأصغر لا يعني عند الصوفيّة التقليل من شأن هذا الجهاد، إنما هو إشارة فقط إلى تعظيم جهاد النفس، فنجد كبير المتصوفين ابن عربي الذي عاصر الحروب الصليبية مع المسلمين، يقول في كتابه “الوصايا”:
“وعليك بالجهاد الأكبر، وهو جهادُ هواك، فإنك إذا جاهدتَ نفسك هذا الجهاد خلص لك الجهاد الآخر في الأعداء الذي إن قُتِلتَ فيه كنت من الشهداء الأحياء الذين عند ربهم يرزقون. واجهد أن تَرمِي بسهمٍ في سبيل الله واحذر إن لم تَغْزُ أن لا تحدِّث نفسك بالغزو”.
وفي حين دعا ابن عربي للجهاد، فقد التحق صوفيون آخرون بصفوف المجاهدين بالفعل، بل وكان بعضهم قادة للجهاد، ومن الصوفيين المجاهدين قديماً نذكر الحسن البصري ومالك بن دينار ومحمد بن واسع.
وبالانتقال إلى بدايات تأسيس الدولة العثمانية، نجد أن التكايا الصوفية لم تكن مخصَّصةً فقط للصوفيين طالبي العلم، بل كانت أيضاً مصنعاً حقيقياً للمجاهدين والمحاربين الأشداء الذين انضمُّوا إلى صفوف جيش عثمان وساهموا في بناء دولته الوليدة، وعلى مر السنوات بقيت تلك التكايا مدرسة تخرج فيها طلاب العلم والمقاتلين على حد سواء.
عبد القادر الجزائري.. أمير المجاهدين الجزائريين
يعرف الشيخ عبد القادر الجزائري على نطاقٍ واسع بأنه واحد من أوائل المقاومين للاستعمار الفرنسي، إذ تعتبر مقاومته الأطول زمنياً فقد امتدت حوالي 15 عاماً، كما كان أول من وضع أُسس الدولة الجزائرية الحديثة.
لكن ما قد يغيب عن أذهان الكثيرين أن الجزائري كان متصوفاً كبيراً ينتمي للطريقة القادرية، وقد نشأ في عائلةٍ صوفية. فوالده هو سيدي محيي الدين شيخ الطريقة القادرية ومؤلف كتاب “إرشاد المريدين” المُوجَّه للمتصوفين المبتدئين، وتنتسب عائلته إلى الأدارسة الذين يمتد نسبهم للنبي محمد.
بدأ عبد القادر بدراسة علوم الدين في سن مبكرة فنال إجازة في تفسير القرآن والحديث النبوي وهو في الثانية عشرة من عمره ليحمل بعد ذلك لقب “حافظ” ويبدأ بإلقاء الدروس في الجامع التابع لأسرته.
ولأنّ تصوفه لم يكن يعني فقط الإلمام بعلوم الدين ومجاهدة النفس وتهذيبها، فقد بادر الجزائريّ إلى الدعوة للجهاد ضد المستعمر الفرنسي عندما احتلت فرنسا الجزائر عام 1830، خاصة أن والده محيي الدين قد ترأَّس بالفعل القيادة العسكرية للمقاومة في غرب الجزائر، وحقق عدة انتصارات على الفرنسيين.
وفي العصر الحديث هناك العديد من الصوفيين الذين قادوا الجهاد ضد الاستعمار في بلدانٍ عدة، من أبرزهم عمر المختار وعبد القادر الجزائري، الذين سنتحدث عن رحلتهم مع الجهاد بشكل موسع في السطور التالية.
أمير المجاهدين في الـ24 من عمره
وفي عام 1832 اقترح سيدي محيي الدين أن يترأس ولده القيادة العسكرية للمقاومة، وبالفعل بايعه الجزائريون وأطلقوا عليه لقب “أمير” وكان يبلغ من العمر آنذاك 24 عاماً. عندها دعا الأمير الشاب بقيَّة القبائل إلى بيعته أميراً للجهاد ضد الاحتلال، واستطاع خلال فترة وجيزة توحيد صفوف الجزائريين مؤكداً لهم أن منصبه ذاك هو تكليف لا تشريف.
وسرعان ما بدأ الأمير ببناء جيشه، وتنظيم دولته الوليدة ونظّم ميزانية الدولة وفق مبدأ الزكاة لتغطية نفقات الجهاد، ومع حلول عام 1834 اضطرت فرنسا للاعتراف بدولة الأمير عبد القادر الجزائري وإجراء هدنة معه عُرفت باتفاقية “دي ميشيل” التي خرقها الفرنسيون لاحقاً.
بدأت المعارك من جديد بين الطرفين وبعد أن كبد جيش الجزائري الفرنسيين الكثير من الخسائر، أرسلت فرنسا قوات جديدة أغارت على عاصمة الأمير وأحرقتها، مع ذلك استطاع الجزائري إحراز نصرٍ جديد على الفرنسيين في “وادي تافنة” ما اضطرهم إلى توقيع هدنة جديدة معه عام 1837.
استغل الأمير الهدنة في إصلاح الخراب الذي ألحقه الفرنسيون ببلاده، كذلك استغل الفرنسيون ذلك الوقت بإعداد جيوشٍ جديدة بقيادة الجنرال بيجو، الذي نقض المعاهدة مع الجزائري بعد عامين من إبرامها ولجأ إلى الوحشية فهاجم المدنيين العزل وأحرق المدن والقرى التي تساند عبد القادر الجزائري وضيقوا عليه حتى اضطر إلى اللجوء إلى بلاد المغرب.
النهاية في دمشق إلى جانب ابن عربي
في البداية قام السلطان المغربيّ بحماية الأمير الجزائري، لكن الفرنسيين أبوا أن يتركوا المجاهد الذي ألحق بجيوشهم الكثير من الخسائر على مدار سنوات، فضربوا طنجة بالقنابل، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي اضطر السلطان المغربي إلى توقيع معاهدةٍ تنص على عدم تقديم المساعدة لعبد القادر الجزائري.
وانتهى الأمر بالأمير الجزائري في السجون الفرنسية عام 1847 بعد أن اضطر للاستسلام حقناً لدماء ما تبقّى من المجاهدين والمدنيين الجزائريين، وأطلق سراحه عام 1852، شريطة ألا يعود إلى الجزائر فتوجه إلى إسطنبول ومنها إلى دمشق، حيث تفرغ هناك للتصوف وتدريس علوم الدين في الجامع الأموي وكتابة الشعر، إلى أن توفي عام 1883 حيث دفن في دمشق إلى جوار قبر الشيخ ابن عربي، وفقاً لما جاء في وصيته.
عمر المختار .. من صوامع العبادة إلى ساحة الجهاد
شبَّ عمر المختار على تعاليم الطريقة الخضيرية الشاذلية، فقد التحق بزاوية الجغبوب الصوفية وهو في سن 16، وكان لا ينام سوى ثلاث ساعات في الليل ويختم القرآن مرة كل سبعة أيام.
لكن لم تقتصر حياة هذا الصوفيّ الزاهد على الصلاة والصيام وقيام الليل وقراءة القرآن، فقد كان الجهاد ضد المستعمر من أبرز العبادات التي حرص المختار على القيام بها، فقد امتدت فترة جهاده للمستعمرين الإيطاليين في ليبيا طوال 20 عاماً.
ليس هذا فحسب بل كانت زاوية الجغبوب مركزاً ومقراً لعمليات المختار وقواته.
بدأت القصة عام 1911 عندما أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية وقررت احتلال ليبيا التي أصبحت في العام التالي مستعمرةً إيطالية بشكل رسمي.
في ذلك الوقت، كان عمر المختار يبلغ من العمر 53 عاماً، لكنّ ذلك لم يمنعه من أن يصبح قائداً للمقاومة الليبية ضد الاحتلال، فوحّد الليبيين تحت راية الجهاد وقاد العديد من المعارك التي كبدت الإيطاليين خسائر فادحة، والتي كان أشهرها معركة درنة، عام 1913، إذ دامت يومين وأسفرت عن مقتل 70 جندياً إيطالياً وإصابة نحو 400.
ومن المعارك الأخرى الشهيرة معركة عين مارة عام 1913، ومعركة أم شخنب وشلظيمة والزويتية في عام 1914.
حرب “عصابات” أنهكت الإيطاليين
كان المجاهد عمر المختار يتبع أسلوب حرب العصابات في قتاله مع الإيطاليين، فيغير عليهم بصحبة 100 إلى 300 رجل ويشن هجوماً سريعاً ثم ينسحب.
كما تعمد التنقل بين جبهات المعارك المفتوحة ليقود القتال في معسكرات فشل المستعمر في تحديد مكانها لكثرة تنقل المجاهدين.
وبالرغم من تمكن المجاهدين بقيادة عمر المختار من إنهاك الإيطاليين بأسلوب حرب العصابات، إلا أن المقاومة الليبية مرّت بانتكاسات بسبب قحط أصاب البلاد واستيلاء الإيطاليين على أغلب المناطق الحيوية في وسط وشمال برقة.
وعندما سافر المختار إلى مصر عام 1923، حاولت إيطاليا بواسطة عملائها هناك الاتصال بعمر المختار، وعرضت عليه أنها ستقدّم له مساعدة إذا ما تعهد باتخاذ سكنه في مدينة بنغازي أو المرج، وملازمة بيته تحت رعاية إيطاليا، أما إن فضَّل البقاء في مصر فما عليه سوى التعهد بأنه سيكون لاجئاً هناك وسيقطع علاقته بالمجاهدين مقابل راتب شهري ضخم توفره له إيطاليا.
لكنّ المختار رفض تلك العروض بالطبع وأصر على المقاومة، وبالفعل شهدت الفترة الممتدة بين عامي 1924 و1925 مناوشاتٍ عديدة بين القوات الإيطالية والمجاهدين الذين استطاعوا توسيع نشاطهم العسكري في الجبل الأخضر بقيادة عمر المختار الذي بات يتمتع بنفوذٍ عظيم بين قبائل المنطقة.
“ننتصر أو نموت”
في عام 1929، سيطر الفاشيون على الحكم في إيطاليا، وعَيَّن موسوليني، بادوليو حاكماً عسكرياً للبيبا. أراد بادوليو التفاوض مع المختار ودفعه للاستسلام، لكنه فشل في ذلك، وبعد هدنة استمرت شهرين عاد المجاهدون إلى ساحة المقاومة من جديد.
ومجدداً عاد الإيطاليون لاتباع سياسة الأرض المحروقة فشكلوا محاكم صورية متنقلة وأحرقوا المدن والقرى بمن فيها مجبرين بذلك المجاهدين على التراجع.
وبعد الحصار الشديد الذي فرضته إيطاليا على المجاهدين، استطاعوا في النهاية القبض على عُمر المختار وسجنُوهُ في زنزانةٍ صغيرةٍ خاصة منعزلة عن بقية السجناء السياسيين وتحت حراسةٍ شديدة، إذ لم يرغب الإيطاليون بالمخاطرة بهروبه والتأكيد على “أسطورة المختار الذي لا يُقهر أبداً” والتي كانت منتشرة بالفعل في ليبيا وكافة أرجاء الوطن العربي.
في عام 1931 أجريت محاكمة صورية للصوفي المجاهد، كان خلالها غاية في الهدوء والوقار كما وصفه الفريق الأول الإيطالي غراتسياني في مذكراته. وعندما حُكم عليه بالإعدام اكتفى بالقول “إنِ الحكم إلّا لله.. لا لحكمكم المُزيَّف.. إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون”.
وتحولت إحدى كلماته الأخيرة إلى أبرز ما ردده المقاومون العرب في الدول التي قاومت الاحتلال بعد ذلك: “نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت.. وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أمَّا أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website