لا يمكن قراءة حاضر أي أمة بمعزل عن تاريخها، وحاضر أمتنا وتاريخها يرتبط شديد الارتباط بعلماء الدين. وقد حدث اختلاف وجدل كبير منذ ظهر تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الحراني، أو ما اشتهر أتباع الدين الوهابي على تسميته زورًا بشيخ الإسلام ابن تيمية، ولا نستطيع فهم الصورة كاملة بمعزل عن عصره ووقته، حيث كانت الأمة في فترة من الانحدار والاضمحلال، فقد سقطت دولة بني العباس، واجتاح المغول بغداد، وقتلوا خليفة المسلمين، ولولا تدارك مصر والشام، وانتصار سيف الدين قطز -رحمه الله- في عين جالوت على التتار، لكان شرهم المستطير وصل إلى أوروبا.
ولكن الغزوات المغولية لم تتوقف، وأطماعهم لم تنتهِ برغم موت جنكيز خان، المؤسس الرهيب، ثم هولاكو خان، ومع تأسيس دولة الخانات المغول في فارس، أعلن بعضهم الدخول في الإسلام دخولاً حقيقياً، وبعضهم إسلاماً ظاهرياً سياسياً، مثل محمود غازان، كما تروي كتب التاريخ عن هذه الفترة، كما أن ابن تيمية ناظر المغول الذين دخل بعضهم من الشيعة الإمامية أيضاً، ولذلك فإن بعض المراقبين يعتقدون أن شهرة ابن تيمية وشعبيته الكبيرة كانت سياسية بالأساس، نابعة من مواقفه السياسية حينها، ثم من مصنفاته الغزيرة، فحرق مكتبة بغداد فتح الباب واسعاً أمام المؤلفات الموسوعية، وهو ما توافر لابن تيمية لنشر افكاره التي خالف فيها إجماع المسلمين في الفروع والأصول، وصنع حالةً من الجدل بآرائه وحِدته وصداميته، فنجده قد تعرّض للاعتقال بسبب آرائه وخروجه عمّا استقرت عليه الأمة وآراء الأئمة والفقهاء، وتم إيداعه السجن في القاهرة والإسكندرية والشام، حيث كان الصدام بينه وبين علماء المسلمين حاداً وخطيراً، وحدثت فوضى بسبب ذلك، وقوله في مسائل الصفات، وكما يروي المؤرخون تطورت الأمور إلى نادى المنادى في الشام بأن أتباع ابن تيمية ضالون.
أكبر المآخذ على ابن تيمية اربعة مسائل اساسية، أولها فتواه بأن الله جسم يشبه مخلوقاته وهو قاعد فوق يطلع وينزل, ثانيها, قوله بأزلية نوع العالم مع الله تعالى, ثالثها زعمه ببدعية زيارة قبور الأنبياء، ومنها قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي زيارة قبور الشهداء والأولياء والصالحين شِرك مخرج من الملة بحسب اعتقاده، وهي كارثة كبرى ندفع ثمنها من وقت ابن تيمية حتى يومنا هذا؛ لأن المسألة بها تفصيل وبيان وإقامة حجة، وقد كان بن تيمية توسّع وبالَغَ في هذا الأمر، وهذا ما جعل كثير من أتباعه التكفيريين يستبيحون دماء واعراض المسلمين، وإجمالاً كم من ضريح انفجر وقُتل زوّاره في مختلف البلاد الإسلامية، وقامت معارك طائفية طاحنة، ودخلت دول في العنف والعنف المضاد، وطال هذا كل الدول الإسلامية بلا استثناء. واتهامات غير صحيحة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الطائي الأندلسي بالكفر والضلال ووحدة الوجود والحلول والاتحاد، وأغلب مشايخ الصوفية، ما عرّض الصوفية لمخاطر وأهوال لا حصر لها، بالأخص بعد انتشار الحركة الوهابية، وضخّ أموال البترودولار. وكذلك نقضه لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وكذلك ابن رشد، بل وإمام الحرمين الجويني والفخر الرازي، والعلماء كابن سينا وابن حيان.
فأيّ من عقول المسلمين المنيرة لم ينتقدها؟!
ومن الغرائب أنه كان أموي الهوى، محباً لهم، واعتبر أن مطالبة الإمام الحسين بالشورى وبالسنة، ورفض التوريث وحكم يزيد بن معاوية كان خطأً، ولم يعرف عن ابن تيمية معرفة كبيرة بعلم الحديث، فقد استدل بأحاديث ضعيفة كثيرة في غير موضعها، بالذات في كتاب بيان كشف تلبيس الجهمية، وكل الأحاديث الشهيرة الواردة في فضائل الإمام علي بن أبي طالب قد ضعّفها، في إصرار غريب، ربما ظناً منه أنه يكايد الشيعة الإمامية، وكان يثني على الأمويين، حيث إنهم قاموا بفتوحات وغير ذلك.
وقد أورد حافظ الدنيا، شارح صحيح البخاري، أهم كتاب عند المسلمين بعد القرآن، الإمام ابن حجر العسقلاني، في كتابه الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، الجزء الأول، فصل ابن تيمية، آراء المعاصرين له وأخباره، وكيف اختلف الناس في أمره، منهم من وضعه في صورته الملائكية، وأنه وارث علم النبوة كما يقول أتباعه الآن، ولكن أكثر معاصريه كانوا من منتقديه ومعارضيه، بل منهم -والنقل عن ابن حجر في كتابه المنوه عنه سلفاّ- مَن نسبه للكفر والزندقة، لقوله إن الإمام علي كان محباً للخلافة والحكم، حريصاً عليه؛ لذلك لم يوفقه الله، وكان مخذولا ولم يستقر له الحكم، وحديث لا يحبك يا علي إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق مشهور ومعروف، ولكن ابن تيمية في أكثر من موضع نقل، ونقل تلاميذه ما اعتبره الفقهاء انتقاصاً من الإمام علي، مثلاً تضعيف هذا الحديث السابق، وقياسه أن السبب هو أنه لا يمكن أن يكون معاوية بن أبي سفيان وبنو أمية منافقين، وكانوا يكرهون، أو يطعنون، أو يحاربون آل البيت وبني هاشم، وعلى رأسهم الإمام علي وأولاده، كما ذكر واقعة رغبة زواج الإمام علي بامرأة أخرى لتكون ضرة السيدة الزهراء، ويستدل بحديث “فاطمة بضعة مني يغضبها ما يغضبني”، ويقصد أنها غضبت من الإمام علي، والأسوأ من ذلك قوله إن إسلام أبي بكر الصديق أهم من إسلام علي؛ لأنه أسلم وهو طفل غير مكلف، ويمكننا تلخيص هذه النقطة التي يطول فيها البحث، برغم ما لابن تيمية من كتب ورسائل، فإن نقل آرائه وفتاواه القاتلة بعلم أو بجهل، بحسن أو بسوء نية، كما أوضح ابن القيم، تلميذه، عندما اعتبر أن القبور والأضرحة والمراقد من الطواغيت، ويجب إزالتها حال القدرة على ذلك.
النقطة الرابعة في مشكلات وجدل ابن تيمية مسألة الصفات الإلهية، فهو يأخذ فيها بظاهر النص، رافضاً أي تأويل، مغلقاً الباب أمام أي محاولة لإعمال العقل، حتى وصل لمنحنى خطير، بالأخص في كشف تلبيس الجهمية، الجزء الثالث، عندما أثبت صحة أحاديث ضعيفة وغير مقبولة عقلاً، ثم تذرّع بذلك بأنه يمكن قبولها بظاهرها، ولا مجال للتأويل، ولا يوجد حرج شرعي في ذلك
واستمرت الروايات الغريبة، مثل حديث الأطيط، ومعنى الأطيط هو الصرير، ومعناه صوت الرحال إذا ثقل عليها الركبان. وفي رواية أن السماء لها صوت الأطيط من ثقل الجبار على العرش وحملته، وهذا الثقل بسبب غضب الله عز وجل، ثم يستغفر حملة العرش فيخف الثقل لرضا الله عز وجل، فأخذه ابن تيمية كما هو بغض النظر عن رتبة هذا الحديث, وهذا تجسيم وتشبيه واضح، تعالى الله عما يصفون، الأسوأ من ذلك إثبات أن بين العرش وبين الله مقدار أربع أصابع، في محاولته لإثبات صفة الاستواء، وهكذا جعل الاستواء كالجلوس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وبالطبع لم يكن هناك إجماع وتوافق بين الحنابلة على ذلك، بل ألّف أبو الفرج بن الجوزي كتاباً رائعاً ماتعاً سمّاه “دفع شُبه التشبيه بأكفّ التنزيه”
وقد أورد في مقدمة الكتاب: “ورأيتُ من أصحابنا مَن تكلّم في الأصول بما لا يصلح”، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني، فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحسّ، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين، وفماً، ولهوات، وأضراساً، وأضواء لوجهه هي السبحات، ويدين وأصابع وكفّاً وخنصراً وإبهاماً، وصدراً، وفخذاً، وساقين ورجلين، وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس! وقالوا: يجوز أن يمس ويُمس، ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم: ويتنفّس، ثمّ يرضون العوام بقولهم: لا كما يعقل! وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسمّوها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل. ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث، ولم يقنعوا بأن يقولوا: صفة فعل، حتى قالوا: صفة ذات! ثم لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة، مثل اليد على النعمة والقدرة، والمجيء والإتيان على معنى البر واللطف، والساق على الشدّة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميّين، والشيء إنّما يحمل على حقيقته إذا أمكن، ثمّ يتحرّجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون: نحن أهل السنة، وكلامهم صريح في التشبيه، وقد تبعهم خلق من العوام. وقد نصحت التابع والمتبوع فقلت لهم: يا أصحابنا، أنتم أصحاب نقل واتباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يقل! فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه، ثم قلتم في الأحاديث تحمل على ظاهرها، فظاهر القدم الجارحة، فإنه لما قيل في عيسى روح الله اعتقدت النصارى أنّ لله صفة هي روح ولجت في مريم! ومَن قال: استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسّيّات. وينبغي ألا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل، فإنّا به عرفنا الله تعالى، وحكمنا له بالقِدَم، فلو أنّكم قلتم: نقرأ الأحاديث ونسكت، لما أنكر عليكم أحد، إنّما حملكم إيّاها على الظاهر قبيح. فلا تُدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه، ولقد كسيتم هذا المذهب شيناً قبيحاً، حتى صار لا يقال حنبلي إلا مجسّم، ثم زينتم مذهبكم أيضاً بالعصبية ليزيد بن معاوية… إلى أن قال فرأيت الرد عليهم لازماً؛ لئلّا ينسب الإمام إلى ذلك، وإذا سكت نسبت إلى اعتقاد ذلك.
وما يلخص هذه الأفكار بشكل واضح ما أورده في هذا الكتاب، الحديث الثالث عشر، في تعقيبه وردّه على القاضي أبي يعلى في إبطال التأويلات، وما نقله عنه ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية، والرواية عند غيرهم.