الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فإن الشيعة لا يملُّون من الاستمرار في محاولاتهم لنشر اعتقاداتهم من خلال الزحف الفكري والعقدي والسياسي في بلاد المسلمين، ولا يسأمون من محاولة نشر عقائدهم وشعائرهم والجهر بها رغم أنف حكومات بعض الدول، على رغم ممَّا لهذه الاحتفالات من أبعاد سياسية فضلاً عن أبعادها العقديَّة.
الناظر في قصة غدير خُمٍّ التي يستدلون بها على أحقية علي -رضي الله عنه- بالخلافة على أبي بكر وعمر وعثمان بل تكاد تكون أقوى حججهم النقلية؛ يجد أن مثلهم وما استندوا إليه كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا، {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت: 41]،
بل إن الرد عليهم في مزاعمهم حول هذه القصة موجودٌ في سياق القصة نفسها، ولكن الإشكال في أن أصل القصة صحيحٌ رواه الإمام مسلم -رحمه الله-، مما قد يُحدث إشكالاً عند البعض بسبب عدم التفريق بين الخلاف في ثبوت الحديث والخلاف في مفهوم الحديث. فنقف مع حادثة الغدير، ووجه استدلال الشيعة منها على أحقيَّة عليٍّ -رضي الله عنه- بالخلافة، ومناقشة ذلك، ولن نتناول بالذكر الأدلة التي فيها الإشارة إلى خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنها-، والتي هي أصرح وأوضح بكثير مما استدلوا به في حادثة الغدير -على فرض التسليم بأن في قصة الغدير أي نوع من أنواع الإشارة إلى الولاية أو الخلافة-؛ فإن هذا الأمر يطول، وليس هذا موضعه.
وكذا لن نتعرَّض لبقية الأدلة الواهية التي يستند إليها الشيعة في مسألة استخلاف عليٍّ -رضي الله عنه-؛ فالمقام مقام تنبيه على تلك الحادثة؛ لما استجد من شهرتها والجهر بالاحتفال بها في بلاد السنة. قصة الغدير، وأهم رواياتها: روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه-
قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ؛ أَلا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» ، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِى أَهْلِ بَيْتِي» ، فَقَالَ حُصَيْنٌ بنُ سَبْرَةَ لِزَيْدٍ: “وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟”، قَالَ: “نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ”، قَالَ: “وَمَنْ هُمْ؟”، قَالَ: “هُمْ آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ”، قَالَ: “كُلُّ هَؤُلاَءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟”، قَالَ: “نَعَمْ”. وعند أحمد والترمذي والنسائي في “خصائص عليِّ” والحاكم زيادة: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ؛ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ» ، وهي زيادة صحيحة. وهناك زيادة أخرى وهي: «اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»،
وهي مختَلَفٌ في تصحيحها، والراجح تصحيحها. وهناك زيادة: «وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ» ،
استدلال الشيعة بحادثة غدير خُمٍّ على استخلاف علي -رضي الله عنه-: يتمسك الشيعة بهذا الحديث للدلالة على أحقية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالخلافة على أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-،
فيقولون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب في مفترق الحجيج، حيث ينفتل كل امرئٍ راجعًا إلى موطنه، وكأنها وصية من النبي -صلى الله عليه وسلم- لكل هؤلاء بعد حجَّة الوداع -التي كمل فيها الدين، وأتم الله فيها على الأمة نعمته- بأن يكون الخليفة بعده هو عليٌّ -رضي الله عنه-. وبناءً عليه فيقولون أن المسلمين في هذا اليوم كانوا من كلِّ فجٍّ عميق، فهم كلُّ من أتى حاجًّا من المسلمين،
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
فكان هذا أكبر تجمع للمسلمين -على زعمهم- كيوم عرفة في حجته -صلى الله عليه وسلم-، فيزعمون أن عدة من حضر خطبة غدير خمٍّ فاق المائة ألف نفس. مناقشة الشيعة فيما ذهبوا إليه من الاحتجاج بحادثة غدير خُمٍّ: – أما قولهم أن غدير خُمِّ في الجحفة كان هو مفترق الحجيج فهو كلام باطل عقلاً ونقلاً: فالجُحفة التي فيها غدير خُمٍّ تبعد عن مكة تقريبًا مائتين وخمسين (250) كيلومترًا،
فكيف تكون هي مفترق الحجيج؟ فمُجتمع الحجيج هو مكة، ومفترق الحجيج هو مكة أيضًا، لا مكان يبعد عن مكة كل هذه المسافة، فأهل مكة يبقون في مكة، وأهل الطائف يرجعون إلى الطائف، وأهل اليمن يرجعون إلى اليمن، وأهل العراق يرجعون إلى العراق، ويكون هذا التفرق من مكة، لا على بعد أكثر من مائتي كيلومتر. – أما بالنسبة لقولهم أن عدة المسلمين في هذا اليوم تجاوزت المائة ألف نفس؛ فتعلم بطلانه مما سبق؛ حيث أنه على هذا البُعد من مكة وبعد افتراق الحجيج الحقيقي لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا مَن كان معه من أهل المدينة في طريقهم إليها، وكذلك مَن كان معه على طريق المدينة. – أما بالنسبة لمتن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- فالخلاف بين أهل السنة والشيعة ليس في ثبوت الحديث -أو بالأخص ثبوت الروايات التي ذكرناها- وإنما في مفهوم الحديث؛ فإنهم يستدلون بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ» على أحقية علي -رضي الله عنه- بالخلافة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا أن معناه: من كنتُ واليه فعليٌّ واليه. ومناقشة ذلك بما يلي: كلمة “المولى” تحتمل عدة معانٍ، قال ابن الأثير -رحمه الله-: “وقد تكرر ذكر المَوْلَى في الحديث، وهو اسْمٌ يقَع على جَماعةٍ كَثيِرَة، فهو: الرَّبُّ، والمَالكُ، والسَّيِّد، والمُنْعِم، والمُعْتِقُ، والنَّاصر، والمُحِبّ، والتَّابِع، والجارُ، وابنُ العَمّ، والحَلِيفُ، والعَقيد، والصِّهْر، والعبْد، والمُعْتَقُ، والمُنْعَم عَلَيه” (النهاية في غريب الحديث والأثر 5/228) .
فلو أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- ما زعموا؛ لم يأتِ بكلمةٍ تحتمل كل هذه المعاني، وهو قد أوتي جوامع الكلم، فكان الأولى أن يقول: “علي خليفتي من بعدي”، أو: “علي الإمام من بعدي”، أو: “إذا أنا مت فاسمعوا وأطيعوا لعلي”. فهل يجمع الحجيج الذين جاوزوا مائة ألف -على زعمهم-، ثم يخطب فيهم حتى يبين لهم مَن الخليفة بعده -على زعمهم أيضًا-، ثم يقول مثل هذا اللفظ الذي يحتمل معانٍ عدة في مسألة يعتبرونها ركنًا ركينًا من أركان الدين؟! ثم إن هذا على التسليم بأن كلمة المولى تعني الوالي؛ وإلا فكلمة المولى هي من الوَلاية -بفتح الواو-، لا الوِلاية -بكسر الواو-، والوَلاية هي الحب والنصرة والقرب والتأييد، ومن شواهد ذلك في القرآن:
– قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [سورة التحريم: 4]، فالموالاة هنا من النصرة والتأييد، ولا يستقيم هنا أن نقول أن المولى بمعنى الوالي.
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [سورة محمد: 11]، والموالاة هنا من النصرة.
– وقال تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة الدخان: 41]، والموالاة هنا من القرب، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: “أي: لا ينفع قريب قريبًا”.
– وقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، قال الزمخشري: “إن أخصهم به وأقربهم منه، مِن الوَلْي وهو القُرب”، فأولى هنا من القُرب.
– وكذا قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [سورة الحديد: 15]، قال ابن كثير: “أي: هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم”. فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ» يدلُّ على أنه تجب الموالاة لعليٍّ -رضي الله عنه-، وهي المحبة والنصرة والتأييد.
وبالرغم من أن الشيعة يعتبرون حديث غدير خمٍّ دليلاً قطعيًّا على تقديم علي -رضي الله عنه- في الخلافة؛ إلا أن بعضهم يُقرُّ بأن اللفظ في الحديث مجمل، ولا يدل دلالة قطعية على ما أراد الشيعة إثباته به، ومن هؤلاء النوريُّ الطبرسيُّ أحد كبار علماء الشيعة حيث يقول: “لم يصرِّح النبي -صلى الله عليه وسلم- لعليٍّ بالخلافة بعدَه بلا فصل في يوم الغدير، وأشار إليها بكلام مجمل مُشترك بين معانٍ يحتاج تعيين ما هو المقصودُ منها إلى قرائن” (فصل الخطاب 205-206) .
أما لماذا خُصِّص عليٌّ -رضي الله عنه- بالذكر في هذه الحادثة مع أن الصحابة أجمعين تجتمع فيهم مسألة الولاية، وكل منهم مولى للمؤمنين؛ فهذا لأن لهذا الحدث سببين اثنين: السبب الأول: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: “بَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا إِلَى خَالِدٍ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ، وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا، وَقَدْ اغْتَسَلَ، فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: أَلا تَرَى إِلَى هَذَا؟، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «يَا بُرَيْدَةُ، أَتُبْغِضُ عَلِيًّا؟» ، فَقُلْتُ: “نَعَمْ”، قَالَ: «لا تُبْغِضْهُ؛ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»” [رواه البخاري]، وفي رواية الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لبريدة: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ» .
وذلك أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان قد أرسل خالد بن الوليد ليغزو اليمن، وبعد أن فتح الله عليه أرسل خالدٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليرسل له مَن يُخمِّس له الغنيمة، فأرسل -صلى الله عليه وسلم- عليًّا -رضي الله عنه-، فجاء -رضي الله عنه- وقبض الخمس، ثم اختار جارية من الخمس ودخل بها، ثم اغتسل، فلما رآه بريدة وقد اغتسل قال ما قال لخالد.
قال ابن حجر -رحمه الله-: “قوله: “وكنت أبغض عليًّا، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى؟”، هكذا وقع عنده مختصرًا، وقد أورده الإسماعيلي من طرق إلى روح بن عبادة الذي أخرجه البخاري من طريقه، فقال في سياقه: “بعث عليًّا إلى خالد ليقسم الخمس”،
وفي رواية له: “ليقسم الفيء، فاصطفى عليٌّ منه لنفسه سَبِيئة” بفتح المهملة، وكسر الموحدة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم همزة، أي جارية من السبي، وفي رواية له: “فأخذ منه جارية، ثم أصبح يقطر رأسه، فقال خالد لبريدة: ألا ترى ما صنع هذا؟ قال بريدة: وكنت أبغض عليًّا”،
ولأحمد من طريق عبد الجليل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه: “أبغضتُ عليًّا بغضًا لم أبغضه أحدًا، وأحببت رجلاً من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليًّا، قال: فأصبنا سبيًا، فكتب -أي الرجل- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ابعث إلينا من يخمِّسه”، قال: “فبعث إلينا عليًّا، وفي السبي وصيفة هي أفضل السبي”، قال: “فخمَّس وقسَّم، فخرج ورأسه يقطر”، فقلت: “يا أبا الحسن ما هذا؟”، فقال: “ألم تر إلى الوصيفة، فإنها صارت في الخمس، ثم صارت في آل محمد، ثم صارت في آل علي فوقعت بها” (فتح الباري 8/66).
السبب الثاني: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: “بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بن أبي طالب إلى اليمن، فكنت فيمن خرج معه، فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا -وكُنا قد رأينا في إبلنا خللاً-، فأبى علينا، وقال: “إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين”. فلما فرغ عليٌّ وانطفق من اليمن راجعًا؛ أمَّر علينا إنسانَا وأسرع هو وأدرك الحج، فلما قضى حجته قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ارْجِعْ إِلَى أَصْحَابِكَ حَتَّى تَقْدُمَ عَلَيْهِم» “. قال أبو سعيد: “وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان عليٌّ منعنا إياه ففعل، فلما عرف في إبل الصدقة أنها قد ركبت، ورأى أثر الركب؛ قدم الذي أمَّره ولامه، فقلت: لئن قدمت المدينة لأذكرنَّ لرسول الله ولأخبرنه ما لقينا من الغلظة والتضييق. فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فلقيت أبا بكر خارجًا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،
فلما رآني وقف معي، ورحب بي، وساءلني وساءلته، وقال: “متى قدمت؟”، فقلت: “قدمت البارحة”، فرجع معي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدخل، وقال هذا سعد بن مالك بن الشهيد، فقال: «ائْذَنْ لَهُ» ، فدخلت، فحييت رسول الله وحياني، وأقبل عليَّ، وسألني عن نفسي وأهلي، وأحفى المسألة، فقلت: يا رسول الله، ما لقينا من عليٍّ من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق، فاتئد رسول الله، وجعلتُ أنا أعدِّد ما لقينا منه، حتى إذا كنت في وسط كلامي، ضرب رسول الله على فخذي -وكنت منه قريبًا- وقال: «يَا سَعْدَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الشَّهِيدِ، مَهْ، بَعْضَ قَوْلِكَ لأَخِيكَ عَلِيٍّ، فَوَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَحْسَنَ فِي سَبِيلِ اللهِ» “.
قال: “فقلت في نفسي: ثكلتك أمك سعدَ بن مالك، ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم ولا أدري، لا جرم والله لا أذكره بسوء أبدًا سرًّا ولا علانية”. وهذا الخبر رواه البيهقي في الدلائل، ورواه الإمام أحمد مختصرًا في مسنده (3/86)، وقال ابن كثير -رحمه الله-: “وهذا إسناد جيد على شرط النسائي، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة”.
وفي روايةٍ أن سبب ذلك أنهم لبسوا حُللاً من الغنيمة، فأنكر ذلك عليٌّ -رضي الله عنه-، ونزع عنهم الحُلل. قال ابن كثير -رحمه الله-: “عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: إنما وَجَدَ جيش علي بن أبي طالب الذين كانوا معه باليمن لأنهم حين أقبلوا خلَّف عليهم رجلاً، وتعجَّل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعمد الرجل فكسى كلَّ رجلٍ حُلَّة، فلما دنوا خرج عليهم عليٌّ يستلقيهم، فإذا عليهم الحلل. قال علي: ما هذا؟ قالوا: “كسانا فلان”، قال: “فما دعاك إلى هذا قبل أن تقدم على رسول الله فيصنع ما شاء، فنزع الحلل منهم، فلما قدموا على رسول الله اشتكوه لذلك”. ثم عقَّب -رحمه الله- قائلاً: “والمقصود أن عليًّا لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه منهم الحلل التي أطلقها لهم نائبه، وعليٌّ معذور فيما فعل، لكن اشتهر الكلام فيه في الحجيج.
فلذلك -والله أعلم- لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجته، وتفرغ من مناسكه، ورجع إلى المدينة، فمر بغدير خم؛ قام في الناس خطيبًا، فبرَّأ ساحة عليٍّ، ورفع من قدره، ونبَّه على فضله؛ ليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس” (البداية والنهاية 5/122-123) . فكان هناك من تكلَّم في علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بسبب الحادثتين، وكانتا في وقت حج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على فضل عليٍّ بما ورد في هذا الحديث.
فإن قيل: لماذا لم يتكلَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في مكة في أيام منًى أو في يوم عرفة، وإنما أجَّل الأمر إلى أن رجع؟ فالجواب: أن الذين تكلموا هم من كانوا مع عليٍّ -رضي الله عنه- في السَّرِيَّة، وهم من أهل المدينة، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوجِّه كلامه لأهل المدينة، فبعد مفترق الحجيج في مكة، وعلى طريق المدينة الطويل -حيث كان يستغرق من خمسة إلى سبعة أيام- وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- للراحة، وخطب فيمَن كان معه مِن أهل المدينة ومَن هم على طريق المدينة أو يمرون بالمدينة وهم في طريقهم إلى ديارهم، فذكَّرهم بأهل بيته، وفضل عليٍّ -رضي الله عنه-.
وبهذا يتضح تهافت استدلال الشيعة بحادثة الغدير على أحقيَّة عليٍّ -رضي الله عنه- بالخلافة على أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، وبطلان مزاعمهم من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استخلف عليًّا يوم الغدير، أو أنه اجتمع بالمسلمين في مفترق الحجيج ليشهدهم على استخلاف علي، وغير ذلك من المزاعم الباطلة. ونسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجمعنا مع نبيه الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحابته أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين- في الفردوس الأعلى من الجنة. اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين