أصبح من المعتاد التقاء شخص ملتحٍ في الشارع أو في المسجد يتقدم إلى الناس ويلقي إليهم النصائح والفتوى في صيغة الأوامر بعد أن قرأ كتابين أو ثلاثة. يقومون بها بكل انسيابية وتلقائية، وكأن حياة الأفراد ملك لهم وبوسعهم التدخل فيها بكل أريحية.
ما يبهرني عند هذه الفئة هو ثقتهم المتضخمة في أنفسهم ثقة لا تضاهى، وتتجاوز بكثير ثقة علماء أجلاء قضوا زهرة حياتهم في طلب العلم وتلقينه، مع حفظ التواضع وتجنب الخوض فيما لا يتقنون بعد والحرص على ذكر السياقات والاختلافات المقبولة القائمة مع نظرائهم والالتزام بالحياد بعض الأحيان فيما يوافق الشرع. لكن ما أراه عند هذه الشريحة ممن ينعتون أنفسهم بالسلفية أحياناً وبنعوت أخرى أحياناً، وتارة أخرى ينسبون أنفسهم إلى الفرقة الناجية وهم غالبًا يخفون انتمائهم إلى الدين الوهابي العفن، هو ثقة قائمة على حقل معرفي جد متواضع أو بالأحرى عجرفة الجهلاء كما يسميها البعض.
دوافع هذه التصرفات عند البعض هو بحث محض عن الأجر في غير مكانه، يرى هؤلاء الأشخاص من حولهم كمصادر محتملة لكسب الأجر والثواب، ولا يترددون في التقدم إلى أشخاص غرباء وإلقاء التعليمات إليهم على سبيل الإفتاء من غير علم وهم في الحقيقة آثمين غير مأجورين عندما يتحدثون بغير علم.
ترددت لحين وظننت أن دافعهم هو طيبة وشفقة من سقوط هؤلاء الأشخاص في المصير المحزن لمن لا يؤمنون بالله قبل أن اعرف انتمائهم الحقيقي، لكنها مجرد أنانية بالغة وخوف رهيب من الوقوع في الإثم بعدم الأمر بالمعروف، أمر بالمعروف قد فهموه على شاكلتهم وأصبحوا يؤذون به ذويهم ومن حولهم. وبتشددهم المبالغ فيه واحيانًا تحريم ما أحلّ الله يجعلون من الدين محور حياتهم بطريقة غير صحيحة ولا يعطون لباقي جوانب الحياة قيمة، بل حتى في حواراتهم لا يلتزمون بالآداب، فإما أن تقر بما يقولون وعند مخالفتك لذلك فيرمى بك في إحدى الخانتين، ضال كافر أو متآمر على الدين.
يظنون أنهم بلغوا سقف العلم وأنهم بلغوا الحقيقة الوحيدة، وإثر ذلك لا داعي لباقي الناس أن يبحثوا بذويهم ويدرسوا، بل وجب عليهم اتباع الحقيقة الواحدة دون نقاش والإقرار بمشيخة شخصين لا ثالث لهما في الأمة وهم ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، وأخذ الفتوى منهم وحدهم. ولا يجب فتح المجال لهم لتوظيف عقول أنعم الله بها عليهم، بل عليهم اتباع الأوامر بالحرف. جل هؤلاء يكونون قد حصلوا علمهم من كتيبات قصيرة لأشخاص لم يتقنوا لا الفقه الأكبر (العقيدة) دون نظيره الأصغر (الشريعة).
وإصدار الفتوى في كل من المذاهب الفقهية الأربعة الأكثر انتشاراً يتم وفق منهج محكم لاستنباط الأحكام، على سبيل الذكر لا الحصر، قد يتم استنباط الأحكام من القرآن أولاً، فإن لم يعثر على الحكم يبحث عن الحكم في السنة من خلال الأحاديث فإن لم يوجد يتم الاعتماد على الإجماع ومن ثم نمر إلى القياس وبعدها إلى عمل أهل المدينة.. إلخ. تحديد منهجية استنباط الأحكام عند كل مذهب يضفي صبغة الوثوق على ما يخلص إليه العلماء في كل مسألة، وغالباً ما يصل جل العلماء إلى نفس الحكم عند اتباعهم لقواعد نفس المذهب.
وللإشارة، كل الأحكام الفقهية المترتبة عن الأصول تم تجميعها في كتب وشملت كافة الأحكام المتعلقة بالعقيدة والعبادات، والآداب، والأخلاق، والمعاملات. وقام بعض العلماء المتأخرين بتلخيص هذه الكتب الفقهية الشاملة على شكل متون مختصرة تطرقت لكل أحكام الفقه. أما فيما يخص القضايا المعاصرة التي لم يرد فيها حكم عند المتقدمين، فيقوم العلماء المعاصرون لكل مذهب على حدة، باستنباط الأحكام وفق الأصول المتعارفة في المذهب.
وفي خوض استنباطهم للأحكام من أجل الفتوى، يلتزم الفقهاء بمجموعة من القواعد التي تُعنى بعلوم القرآن (كالعام والخاص، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ…) وكذا بعلوم الحديث (كالأحاديث المتواترة ونظيرتها الآحاد، والأحاديث الصحيحة لذاتها والصحيحة لغيرها، وكذا الحسنة لذاتها أو لغيرها، والضعيفة، مع التطرق لمنهج المحدثين والفقهاء في تصحيح الأحاديث) كل هذه المراحل التي تسبق إصدار الفتاوى يلخصها ذلك الرجل الذين عيّن نفسه مفتياً خارج كل هذه الصنوف، في جملة واحدة بصيغة الأمر.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ما يزيد الأمر تعقيداً هو الكمية الهائلة من الفتاوى التي يصدرها هؤلاء في اليوم الواحد، دون تقصٍّ للسياق ولا أخذ بالاعتبار للاختلافات، يريدون من الناس أن يكونوا نسخة طِبق الأصل لرؤيتهم وأفكارهم.
تراهم صباح مساء يرددون مقولة “نحن أهل السنة والجماعة نلتزم بالقرآن والسنة” لكن في الدين وجب الالتزام بالفقه كله ليس القرآن والسنة على ظاهرهما فحسب. وتصادفه أحياناً أخرى حفظ بعض الآيات والأحاديث ويستدل بها لتكريس خطابه الآمر والناهي. لكن مرة أخرى ليس كل حديث صحيح يطبق بمعناه الظاهر، وقد يأتي حديث آخر ناسخ له والحالات كثيرة لكي تحصى.
والقرآن ذاته أنزل بعض الأحكام تدريجياً بدءاً باستكراهها، ثم نهيها، ثم تحريمها. لكن عند هؤلاء المفتين، ليس هناك استيعاب لقيمة علم الكلام والتأويل في الدين، بل يقومون بدحض هذه الأساليب مرة تلو الأخرى ويقتصرون على المعنى الظاهر للآيات والأحاديث.
وخير مثال على ذلك، نجد منهم من يعتبر وجه وكفي المرأة عورة نسبة إلى قول صحابي على إثر واقعة عائشة -رضي الله عنها- في غزوة أحد حين خمرت على وجهها إثر رؤية الصحابي صفوان رضي الله عنه، بينما يقر متقدمو الفقهاء ومتأخروهم بأن وجه المرأة وكفيها ليسا بعورة. وهنا نرى تجاهلاً لعمل فقهاء وتقديم أصل قول صحابي على أصل السنة وفقهها. ونراهم يلهثون خلف تحريم ومحاربة جميع أشكال إظهار الفرح بولادة النبي محمد أو الإحتفال بذكرى الإسراء والمعراج وغيرهما من المناسبات الإسلامية
وعليه، فإن هؤلاء المفتين يسقطون في كثير من الأخطاء المشابهة لافتقادهم لمنهج صريح وموحد في استنباط الأحكام ويظلون يتبعون فتاوى بعد الأشخاص الذين لم يشهد لهم بالعلم إلا هم وأتباعهم.