(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً).
(سورة الجن: الآية 6)
من اللافت والغريب أن يكتظ التراث العربي الإسلامي بمادة ضخمة وثرية عن عالم الجنّ والعفاريت، وهو العالم الذي لا يزال الكثير من الناس يهتمون به، ويلقون عليه باللائمة لما يصيبهم من همّ وكدر وبلاء، وقد جاء في معجم “لسان العرب” للعلامة ابن منظور المصري في مادة “جنن”، قوله: “الجنّ نوع من العالم، سُمّوا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار؛ ولأنهم استجنّوا من الناس فلا يُرون، والجمع جِنان، وهم الجِنّة. والجان أبو الجن خُلق من نار، ثم خُلق منه نسله”[1].
ونرى أن أقدم النصوص التراثية عن الجن وعالمه في ميداني الشعر والنثر تعود إلى عصور الجاهلية قبل الإسلام بأزمنة طويلة، حيث اشتُهر عن بعض فطاحل الشعراء أنهم كانوا يقولون أشعارهم وحياً من أقرانهم من الجن، وعُرفت بعض الأماكن في الجزيرة العربية بأسماء من سكنوها من الجنّ، مثل “وادي عبقر”، وقد جاء شعر لبيد بن ربيعة وطرفة بن العبد على ذكر العبقري من الجِنّة وصفاته التي وقرت في العقل والمجتمع الجاهلي آنذاك.
وعلى هذا عرف العربُ قبل الإسلام الجن وعوالمه، كما جاء الإسلام بتراث ضخم في القرآن الكريم والسنة النبوية بيّن فيها عالم الشيطان، وخصّص للجن وللمؤمنين منهم برسالة الإسلام سورة كاملة اسمها “سورة الجن”، وفرّق بين الجن بحسب دينه ومعتقده، فهناك المؤمنون، وكذا الكافرون، فضلاً عن درجاتهم، فثمة شياطين وآخرون من المردة معلومون.
وهي كلها عوالم تحتاج منا أن نقف معها لنعرف ولو ومضة من هذا التراث الكبير الذي تناول قصة الجن قبل الإسلام وبعده، فكيف تناول التراث العربي والإسلامي صورة الجنّ في الجاهلية والإسلام؟ وكيف تناولته مصادر الأدب العربي؟ هذا ما سنراه في سطورنا التالية.
عوالم الجن قبل الإسلام
كان الأديب أبو عمرو الجاحظ (ت 255هـ) في كتابه “الحيوان” من أوائل من جمعوا بعضاً من ميراث العرب الشعبي قبل الإسلام وبعده عن الجن وعالمه، يقول: “إن الجنّي إذا كفر وظلم وتعدّى وأفسدَ قيل شيطان، وإن قويَ على البنيان والحمل الثقيل وعلى استراق السمع قيل مارد، فإن زاد فهو عفريت، فإن زاد فهو عبقري”[2]. وقد اشتهر عن الجاهليين أنهم كانوا إذا خصّوا أماكن من الجزيرة العربية بأسماء من أسماء الجنّ “فقد خصّوه من الخبث والقوة والعرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم” كما يقول الجاحظ أيضاً.
ويذكر الجاحظ كذلك أن العرب جعلت الجن في مراتب أي منازل ودرجات، “فإذا ذكروا الجنّي سالماً، قالوا: جنّي. فإذا أرادوا أنه ممن سكن مع الناس، قالوا: عامر والجميع عُمّار. وإن كان ممن يعرض للصبيان فهم أرواح. فإن خبث أحدهم وتعرّم فهو شيطان، فإن زاد على ذلك فهو مارد، قال الله عزّ ذكره: (وحِفْظاً مِنْ كُلّ شيْطانٍ ماردٍ)”[3].
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وقد أسهب الشعراءُ الجاهليون في وصف الأماكن المقفرة والصحاري الواسعة التي قطعوها وهم يسمعون عزيف الجن وأصواتها في نواحيها وجنباتها، ويظهر أن ذلك العزيف كان لا يُسمعُ إلا في مجاهل الصحراء المخيفة، وفي المفاوز البعيدة في أحشاء الجزيرة العربية ممن لا يقطنها قاطن، ولا يمر بها في النادر إلا المغامر، فهذا الشاعر الأعشى يوغل في تصوير رهبة البادية التي تنبعث في أرجائها صيحات الجنّ المرعبة، قائلاً [4]:
وبلدةٌ مثلُ ظهرِ التُّرس موحشة *** للجنِّ، في الليل، في حافاتها زجَلٌ
ويرى الدكتور جواد علي في كتابه “المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام” أنه “قد لعب الإيمانُ بالجن عند بعض الجاهليين دوراً فاق الدور الذي لعبته الآلهة في مخيلتهم، فنسبوا إليها أعمالاً لم ينسبوها إلى الأرباب، وتقربوا إليها لاسترضائها أكثر من تقربهم إلى الآلهة. إنها عناصر مخيفة راعبة، تؤذي من يؤذيها ويلحق به الأذى والأمراض، ولذلك كان استرضاؤها لازماً لأمن تلك الآفات. وهذه العقيدة جعلت الجن في الواقع آلهة عندهم، بل أكثر سلطة ونفوذاً منها، وصيرت عمل الآلهة سهلاً يسيراً تجاه الأعمال التي يقوم بها الجن. وما زال أثر هذه العقيدة باقياً في نفوس الناس حتى هذه الأيام، مع تقليل أهمية عمل الجن على الإنسان في الإسلام”[5].
وقد ذكر ابن الكلبي في كتابه “الأصنام” أن “بني مليح” من قبيلة خُزاعة كانوا ممن تعبد الجن من الجاهليين، وكانوا يزعمون أن الجن تتراءى لهم. وفيهم نزل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}. وذكر أيضاً أن قبائل من العرب عَبدت الجن، أو صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن. ويقولون هم بنات الله، فأنزل الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}[6].
أدركت العقلية العربية أيضاً أن عوالم الجن كانت تتكون من عشائر وقبائل، تربط بينها رابطة القربى وصلة الرحم والتصاهر. وهي كعشائر وقبائل جزيرة العرب، تتقاتل فيما بينها، ويغزو بعضها بعضاً. ولها أسماء ذكر بعضاً منها أهل الأخبار الأقدمين، كما أن لها ملوكاً وحكاماً وسادات قبائل. فهي في حياتها تحيا على شكل نظام حياة عرب الجاهلية. ولئن اعتدى معتدٍ على جان انتقمت قبيلته كلها من المعتدي أو المعتدين. وسنرى بين قبائل الجن عصبية شديدة، كعصبية القبيلة عند الجاهليين، فهي تراعي حرمة الجوار، وتحفظ الذمم والعقود وتعقد الأحلاف. فنحن إذن أمام حياة جاهلية مستترة غير منظورة، هي حياة جن جاهليين، ومن الجن “بنو غزوان”[7].
وقد زعم بعض شعراء الجاهليين أنهم رأوا الجنّ وتكلموا معهم بكلام يفهمونه، بل وأرادوا إكرامهم بالطعام والوليمة، فمن ذلك شِعر يُنسب إلى شمّر بن الحارث الضبي، وصف فيه اجتماعُه بنفرٍ من سادات الجنّ ودعوته لهم إلى الطعام، قائلاً [8]:
آتوا ناري فقلتُ: منون، قالوا: *** سراة الجنّ، قلتُ: عموا ظلاماً
فقلتُ إلى الطعام، فقال منهم *** زعيمٌ: نحسدُ الإنسَ الطعاما!
الإسلام يعترف بالجن ويكشف عالمهم!
على أن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وانتشار الإسلام في عموم الجزيرة العربية قد جاء بمعين واضح لا شكّ فيه عن عالم الجنّ، أخبرنا به الوحي الشريف، فقد ذكر الله تعالى أن الجنّ خُلقوا من النار في قوله: (والجانَّ خلقْناهُ مِنْ قبلُ مِنْ نارِ السَّموم)، (سورة الحجر: 27). وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنّ أنواع، قائلاً: “الجنُّ ثلاثةُ أصناف: فصنفٌ يطيرُ في الهواء، وصِنفٌ حيّات وكلاب، وصِنفٌ يحلّون ويظعنون”[9].
وفي التصور الإسلامي الجنّ مثل الإنسان أمة كاملة، نزل عليها التكليف بالعبادة والإيمان بالله، فمنهم مَن آمن ومنهم مَن كفر، قال تعالى: (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون) (الذاريات: 56). وفي سورة الجنّ نرى حديثاً لافتاً بين وفد الجن الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين سمعوا القرآن الكريم وانتشار الإسلام، وقد ذكر الله على ألسنتهم أن منهم المسلمين، ومنهم “القاسطون” أي الظالمون والكافرون، يقول تعالى على لسان وفد الجن الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). (سورة الجن: 14، 15).
ويمثّل إبليس وذريته وقومه ذروة الشر المطلق، والعداء الأبدي بين عالم الإنسان وعالم الجن وفق الوحي الشريف، ويوضح القرآن الكريم أن إبليس من الجنّ، لكنه فسق وتكبّر وكفر ولم يسمع أمر الله تعالى فأصبح شيطاناً مارداً كُتبت عليه اللعنة والخلود في النار يوم القيامة، يقول تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً). (الكهف: 50).
لقد كان رفض إبليس للسجود لآدم، تجسيداً لمعاني الكبر التي ولّدت العداء لآدم (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ؛ فقد أبى إبليس السجود له، بل وظل يوسوس لآدم وزوجه حواء حتى أخرجهما من الجنة، يقول تعالى محذّرا كل البشرية “أبناء آدم” من هذا العدو الخطير: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 27).
شيطان لصّ وآخر يخاف من ابن حنبل!
ومن القصص الغريبة وربما الطريفة التي توضح أن الجن والشيطان قد يتصور في هيئة إنسان، بل ويسعى إلى فعل الجنايات كالسرقة مثلاً، تلك القصة الغريبة التي ذكرها الإمام البخاري في صحيحه، والتي دارت بين الصحابي الجليل أبي هريرة، أشهر رواة الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبين شيطان دأبَ على سرقة بيت المال في زمن النبي، وكان أبو هريرة موكّلا بحفظه وتأمينه وحراسته، وقد تمكن أبو هريرة من القبض عليه عدة أيام متوالية، استطاع فيها ذاك الشيطان أن ينصب ويكذب على أبي هريرة، الذي كان يرحمه ويتركه في كل مرة!
يقول أبو هريرة: “وكَّلَني رسولُ اللَّهِ ﷺ بحِفْظِ زَكَاةِ رمضانَ، فَأَتَاني آتٍ، فَجعل يحْثُو مِنَ الطَّعام، فَأخَذْتُهُ فقُلتُ: لأرَفَعَنَّك إِلى رسُول اللَّه ﷺ، قَالَ: إِنِّي مُحتَاجٌ، وعليَّ عَيالٌ، وَبِي حاجةٌ شديدَةٌ، فَخَلَّيْتُ عنْهُ، فَأَصْبحْتُ، فَقَال رسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وآلهِ وسَلَّمَ: يَا أَبا هُريرة، مَا فَعلَ أَسِيرُكَ الْبارِحةَ؟ قُلْتُ: يَا رسُول اللَّهِ شَكَا حَاجَةً وعِيَالاً، فَرحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سبِيلَهُ. فَقَالَ: أَما إِنَّهُ قَدْ كَذَبك وسيعُودُ. فَعرفْتُ أَنَّهُ سيعُودُ لِقَوْلِ رسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرصدْتُهُ. فَجَاءَ يحثُو مِنَ الطَّعامِ، فَقُلْتُ: لأَرْفَعنَّكَ إِلى رسولُ اللَّهِ ﷺ، قالَ: دعْني فَإِنِّي مُحْتاجٌ، وعلَيَّ عِيالٌ لاَ أَعُودُ، فرحِمْتُهُ فَخَلَّيتُ سبِيلَهُ، فَأَصبحتُ، فَقَال لي رسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا أَبا هُريْرةَ، مَا فَعل أَسِيرُكَ الْبارِحةَ؟ قُلْتُ: يَا رسُول اللَّهِ شَكَا حَاجَةً وَعِيالاً فَرحِمْتُهُ، فَخَلَّيتُ سبِيلَهُ، فَقَال: إِنَّهُ قَدْ كَذَبكَ وسيَعُودُ. فرصدْتُهُ الثَّالِثَةَ. فَجاءَ يحْثُو مِنَ الطَّعام، فَأَخَذْتهُ، فقلتُ: لأَرْفَعنَّك إِلى رسولِ اللَّهِ ﷺ، وهذا آخِرُ ثَلاث مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، فَقَالَ: دعْني فَإِنِّي أُعلِّمُكَ كَلِماتٍ ينْفَعُكَ اللَّه بهَا، قلتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَ: إِذا أَويْتَ إِلى فِراشِكَ فَاقْرأْ آيةَ الْكُرسِيِّ، فَإِنَّهُ لَن يزَالَ عليْكَ مِنَ اللَّهِ حافِظٌ، وَلاَ يقْربكَ شيْطَانٌ حتَّى تُصْبِح، فَخَلَّيْتُ سبِيلَهُ فَأَصْبحْتُ، فقَالَ لي رسُولُ اللَّهِ ﷺ: ما فَعلَ أَسِيرُكَ الْبارِحةَ؟ فقُلتُ: يَا رَسُول اللَّهِ زَعم أَنَّهُ يُعلِّمُني كَلِماتٍ ينْفَعُني اللَّه بهَا، فَخَلَّيْتُ سبِيلَه. قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَالَ لي: إِذا أَويْتَ إِلى فِراشِكَ فَاقرَأْ آيةَ الْكُرْسيِّ مِنْ أَوَّلها حَتَّى تَخْتِمَ الآيةَ: اللَّه لاَ إِلهَ إِلاَّ هُو الحيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] وقال لِي: لاَ يَزَال علَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلَنْ يقْربَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَمَا إِنَّه قَدْ صَدقكَ وَهُو كَذوبٌ، تَعْلَم مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذ ثَلاثٍ يَا أَبا هُريْرَة؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ”[10].
وقد أدركت الأجيال اللاحقة من الصحابة والتابعين وكبار العلماء في الأمة حقيقة الجن وعالم الشيطان، وأنه كما أن منهم صالحين يريدون رضا الله وجنته، فإن منهم مفسدين مجرمين مُسلّطين على بعض عباد الله، وثمة قصة شهيرة بين الإمام أحمد بن حنبل وبين جنّي تلبّس إحدى جواري الخليفة العباسي المتوكل على الله (ت 247هـ)، وكان الإمام أحمد ملء السمع والبصر آنذاك بعد محنة خلق القرآن الشهيرة، وقد ثبت للكافة مدى صلاح وعلم وتقوى هذا الرجل.
فأرسل إليه الخليفة العباسي المتوكل “يُعلمه أن له جارية بها صرَع، وسأله أن يدعو الله لها بالعافية، فأخرج له أحمد نعْلَي خشب بِشراك من خوص للوضوء (يشبه القبقاب)، فدفعه إلى صاحب له، وقال له: امضِ إلى دار أمير المؤمنين، وتجلس عند رأس هذه الجارية، وتقول له، يعني للجنّي: قال لك أحمد أيّما أحبّ إليك، تخرجُ من هذه الجارية أو تُصفعُ بهذا النعل سبعين؟ فمضى إليه، وقال له مثل ما قال الإمام أحمد، فقال له المارد على لسان الجارية: السمعُ والطاعة، لو أمرنا أحمد ألّا نقيم بالعراق ما أقمنا به، إنه أطاعَ الله، ومَن أطاعَ الله أطاعه كلّ شيء. وخرج من الجارية، وهدأت ورُزقت أولاداً”[11].
وقد حكى أبو محمد القاري البغدادي (ت 500هـ) في كتابه “مصارع العشاق” أن جنياً عشق جارية في إحدى بيوتات بغداد، ولكنه كلما جاءها صاح ديك في بيتها فيهرب منه، فتمثل في صورة إنسان، ثم خرج حتى لقي شيطاناً من الإنس، فقال: اذهب فاشترِ لي ديك بني فلان بأي ثمن كان، فأتني به في مكان كذا، فذهب الرجل فأغلى لهم في الديك، فباعوه، فلما رآه الديك صاح، فهرب، وهو يقول: اخنقه، فخنقه حتى صرع الديك”، ولكن لما خلا له الجو مع الجارية، لم تلبث أن صُرعت وماتت عما قليل [12]!
بل إننا رأينا حديثاً من بعض مشاهير الصوفية، يؤكدون على تواصلهم مع الجن أو الشياطين، فقد ذكر الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” بسنده عن الصوفي الشهير إبراهيم الخوّاص، أنه سُئل من بعض أصحابه “عن أعجب ما رآه في البادية، فقال: كنتُ ليلة من الليالي في البادية، فنمت على حجر، فإذا أنا بشيطان قد جاء، وَقَالَ: قم من هاهنا. فقلت: اذهب. فقال: إني أرفسك فتهلك، فقلت: افعل ما شئت، فرفسني فوقعت رجله عليّ كأنها خرقة. فقال أنت ولي الله، من أنت؟ قلت أنا إبراهيم الخواص، قَالَ صدقت. ثم قَالَ يا إبراهيم معي حلال وحرام، فأما الحلال فرمان من الجبل المباح، وأما الحرام فحيتان مررت على صيادين، وهما يصطادان فتخاونا فأخذت الخيانة، فكل أنت الحلال ودع الحرام”[13].
وهذه القصص لها أشباهها ونظائرها في مصادر التاريخ والتراث مما لا يمكن حصره في موضع واحد؛ إذ العلاقة بين الإنس والجن قد اعترف بها القرآن الكريم في أكثر من موضع، ولا شك أن أكثرها يدور حول تدبير الشرور والآثام وإذاعتها بين العباد، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام: 121). وفي سورة الجن تتضح تلك العلاقة الآثمة التي تُبنى على الرهق والعنت وارتكاب المحارم: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً). (الجن: 6).
تلك بعض من قصة الجن في التصور التراثي قبل الإسلام وبعده، وهي تؤكد في مجملها حقيقة هذا العالم الغامض، وهي الأمم التي ترانا ولا نراها، ونخشاها ويبدو أنها لا تخشانا؛ منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، وهو باب واسع يحتاج إلى مزيد بحث ودراسة وعناية ففيه من الغرائب والعجائب ما يحتاج إلى أن يؤرّخ، ويُستوعب ما فيه من الأخبار والمعارف.
[1] لسان العرب، مادة ج ن ن.
[2] الجاحظ: كتاب الحيوان 1/192.
[3] الجاحظ: السابق 6/415.
[4] ديوان الأعشى ص59.
[5] جواد علي: المفصل في تاريخ العرب 12/285.
[6] جواد علي: السابق 12/286.
[7] السابق 12/286.
[8] الجن وأحوالهم في الشعر الجاهلي ص190.
[9] البيهقي: الأسماء والصفات، صفات الجامع 3/85.
[10] صحيح البخاري، حديث رقم 2311.
[11] أبو يعلى الفراء: طبقات الحنابلة 1/233.
[12] القاري البغدادي: مصارع العشاق 2/98، 99.
[13] تاريخ بغداد 3/206.