دائماً ما يُستخدم التاريخ لتصفية الحسابات، أو يُستدعى لقلب معطيات وحقائق، وهو ما حاول فعله الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” مؤخراً من خلال تصريحاته، التي تُشكك في وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي، وتشير إلى الوجود العثماني في الجزائر كاحتلال لا يختلف عن الاحتلال الفرنسي، وإلى كون النظام السياسي نظاماً سياسياً عسكرياً.
وتلك تصريحات تحاول استعطاف اليمين الفرنسي المتطرف قبيل الانتخابات القادمة مِن جهة، ومحاولة لصرف نظر الرأي العام الفرنسي عن الخسائر التي قد تتجاوز (56) مليار دولار، بسبب إلغاء صفقة الغواصات مع أستراليا. لن نخوض في كل ما ذكره الرئيس الفرنسي في هذا المقال، وإنما سنحاول عرض الشكل الذي وصل به العثمانيون إلى الجزائر، لنرى هل يتوافق مع معارف “ماكرون” التاريخية.
وهل يمكن بالفعل اعتبار الوجود العثماني في الجزائر وحتى في تونس وليبيا احتلالاً؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه المقالة، التي لن نعتمد فيها كثيراً على المؤرخين الجزائريين المعاصرين، وإنَّما سنجعل مصادرنا الكتابات الغربية والفرنسية والأرشيفات العثمانية، لنرى ما مدى صحة هذه المسألة.
المنطقة المغاربية قبل الوجود العثماني
كانت الجزائر وبلاد المغرب ككل في القرن الـ15 تعيش نوعاً من الفوضى السياسية العارمة، وكانت المنطقة تنقسم إلى ثلاثة كيانات كبرى هي “الدولة الحفصية” في تونس، و”الدولة الزيانية” في الجزائر، و”الدولة المرينية” في المغرب الأقصى. كانت هذه الدول في صراع دائم ومستمر حول الحدود والتوسع، وكانت السلطة محل صراع كبير بين الإخوة أو أبناء العمومة حول الأحقية في الحكم. بالإضافة إلى هذه الدولة كانت توجد زعامات محلية وإمارات صغيرة، فتوجد إمارة كوكو في شمال شرق الجزائر، وتحظى مدينة بجاية بإمارة أشبه ما تكون مستقلة، في حين تخضع مدينة الجزائر لقبيلة بني سالم، وعلى رأسها “سالم التومي”.
كانت كل هذه الكيانات المتصارعة فيما بينها مُجبرة على أن تدين بالولاء للسلطة الأقوى منها، وفي هذه الحالة كانت السلطة هي المملكة الإسبانية الكاثوليكية، التي استطاعت استعادة الأندلس كاملة بعد سقوط غرناطة سنة (1492)، ولم تكتفِ بذلك، بل رأت أنَّ الوضع في بلاد المغرب يتيح لها التوسع والسيطرة على المدن الاستراتيجية في الحوض الجنوبي للمتوسط، وأن كفّ شر المسلمين لا يكون إلَّا بتتبُّعهم في عقر دارهم، فاحتلت مليلية المغربية سنة (1497)، كما قامت البرتغال باحتلال معظم الموانئ البحرية المهمة في المغرب، قامت إسبانيا أيضاً باحتلال المرسى الكبير، ومدينة وهران سنة (1510)، كان الإسبان يطمحون للسيطرة على كامل المدن الساحلية الممتدة من “مليلية” إلى “طرابلس الغرب”، وينجحون سنة (1510) في احتلال بجاية، وتخضع كل من “تنس” و”شرشال” و”دلس” لسلطانهم أيضاً، حتّى الجنويون استفادوا من الوضع القائم واحتلوا مدينة “جيجل” الساحلية، وأضافوا لها عدداً من الجزر القريبة. كما أصبحت مدينة الجزائر قطعة يحيط بها الإسبان من كل جهة، حيث شيّد الإسبان قلعةً قبالة المدينة اسمها “البنيون/le Penon d’Argel,” ووضعوا فيها مدافعهم، وأجبروا سكان الجزائر على دفع ضريبة سنوية مقابل عدم التعرض لهم. وقد اضطر سكان الجزائر لدفع تلك الضريبة خوفاً على أولادهم ونسائهم من الوقوع في أسر الإسبان كما برّروا ذلك في رسائلهم.
ظهور الإخوة بربروس على مسرح الأحداث
خلال هذه المرحلة التاريخية (1505-1510) بزغ نجم الإخوة بربروس (بابا عروج، خيرالدين) بنشاطهم البحري قبالة سواحل الجزائر، حيث اتخذوا من ميناء حلق الوادي التونسي مركزاً لنشاطهم البحري بعد اتفاق مع حاكمها الحفصي، وارتكز نشاطهم خلال تلك المرحلة على فكرتين: مهاجمة السفن الإسبانية في المنطقة، وتخليص مسلمي الأندلس من محاكم التفتيش، واستطاعوا حسب ما ينقله المؤرخ الفرنسي “دي غرامون” “..إنقاذ عشرة آلاف من مسلمي الأندلس..”، طبعاً هذا العمل الذي جعل من الإخوة بربروس أبطالاً في أعين المسلمين الجزائريين، جعلهم لصوصاً ومُحتلين في نظر الرئيس الفرنسي “ماكرون” ومَن شاكله.
هذه الشهرة التي اكتسبها الإخوة بربروس في دفاعهم عن المسلمين شجّعت أهالي بجاية سنة (1512) على إرسال موفدٍ عنهم إلى “عروج ريس”، يحمل رسالة، ممَّا جاء فيها “… إن كان هناك منقذ لنا فلتكونوا أنتم، إننا لم نعد نستطيع الصلاة، ولا نقدر على تعليم أبنائنا القرآن، إنّ الإسبان قد عتوا في الظلم والبهتان، تفضلوا بتشريف بلدنا وعجِّلُوا بتخليصنا من هؤلاء الكفار…” لم يتردد كثيراً عروج ريس في اتخاذ قراره بالاتجاه لنجدة مسلمي بجاية. واتفق مع مَن قدم إليه على أن يحاصر المدينة بحراً، فيما يحاصر سكان بجاية والقبائل الموجودة بها المدينة براً، وهو ما حدث فعلاً، نجح “عروج” ومن معه في سلب الإسبان أربعاً من سفنهم التي كانت في سواحل بجاية، ومن بينها سفينة القيادة، لكن الجنود الإسبان فرّوا إلى القلعة وتحصَّنوا بها، حاصرها “عروج” بنية أخذها من أيديهم، لكنه انسحب بعد مواجهات ضارية مع الإسبان، انتهت بتلقيه إصابة مباشرة في إحدى يديه أدت إلى بترها، لكن ذلك لم يثنِه عن معاودة حصارها مرة أخرى.
اقتنع الإخوة بربروس أنه يجب قبل استعادة بجاية العمل على استعادة جيجل وطرد الجنويين منها، حتى تكون بمثابة خط خلفي لاستعادة بجاية، وما شجَّع “عروج” على ذلك هو تحمُّس أهل جيجل لذلك، ورغبة شيخ إمارة كوكو “أحمد بن القاضي” في طرد الجنويين من جيجل، وهو ما نجح فيه الفريقان، سنة (1514). واستطاع الحلف بين “أحمد بن القاضي” و”عروج ريس” تجهيز جيش قوي كما وعد به ابن القاضي، وباشروا في التجهيزات لأخذ بجاية من يد الإسبان، وأثناء ذلك وصل وفدٌ من أعيان مدينة الجزائر برسالة من أهالي وعلماء الجزائر، مما جاء فيها قولهم: “… سَمِعْنا بكم أُنَاسٌ تحبُّونَ الجهادَ، وأخذتم بِجايةَ وجيجلةَ مِن أيْدي النَّصارى ونَصرْتمُ الدّين، فَهنيئاً لكم أيُّها المُجاهدونَ، لابُدَّ أنْ تقدموا إلينا، وتُخلِّصُونَا مِن أيدي هؤلاء الملاعين الكفرة…”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
رأى عروج وخير الدين أنَّه مِن غير المعقول ترك مدينة بهذه الأهمية الاستراتيجية، وبهذا العدد مِن المسلمين تحت سطوة الإسبان، لذا قرَّر إجابة هذا النداء، فاتفق الإخوة بربروس على أن يسلك “عروج ريس” طريق البر رفقة ثلاثة آلاف مِن مسلمي جيجل وبجاية والجزائر، بينما يسير “خير الدين ريس” إلى المدينة بحراً، بأسطول مُكونٍ مِن ثماني عشرة سفينة.
نجح إذاً سكان جيجل والإخوة بربروس في دخول مدينة الجزائر، واستقبلهم أهلها استقبال الفاتحين، والتفّ ساكنة الجزائر حول عروج ريس باعتباره المنقذ مِن سطوة الإسبان وظلمهم. وبدأ التفرغ لتأسيس دولة الجزائر الحديثة، وكانت أولى الخطوات لذلك هي تطهير هذه الأرض مِن عملاء الإسبان، فسار “خير الدين باشا” بأسطوله إلى مدينة تنس ليقتلع منها “حميد العبد” الذي لم يخفِ تحالفه مع الإسبان وحشده جنودهم لأجل مهاجمة الجزائر واستخلاصها مِن “عروج ريس” وأخيه “خير الدين”، لكن “عروج” ومَن معه من الجزائريين والأندلسيين لم يعطوه فرصة، وتقدَّموا إليه ونجحوا في مدة قصيرة في استبعاده من الحكم، وشرعوا حينها في التأسيس لكيان الجزائر الموحدة.
في هذا الوقت، أي في صيف سنة (1517) وصل وفد إلى “عروج” من مدينة تلمسان، أكبر مدن الغرب الجزائري وعاصمة الدولة الزيانية، يشتكون فيها ظلم ملك تلمسان الذي انقلب على الوريث الشرعي للحكم وقام بسجنه وأعلن ولاءه وتعاونه مع الإسبان، الأمر الذي حمل “عروج ريس” على السير إلى تلمسان، وهناك نجح في إبعاد “أبو حمو الثالث” المستولي على العرش بدعم من الإسبان، وإجلاس ابن أخيه مكانه كما أراد أعيان تلمسان.
فرّ “أبو حمو الثالث” ومن معه لفاس، وهناك أعاد الاتصال بالإسبان الذين في وهران، وأمده ملك إسبانيا شارلكان حينها بأكثر من عشرة آلاف من الجنود، وأعطى أوامر لقائد الحماية الإسبانية في وهران بألا يعود إلا بقتل عروج، وإلا قتل قائد الحماية مكانه، وهو ما كان فعلاً بعد مجموعة من الحيل والمكر والخديعة، استطاع “أبو حمو الثالث” ومن معه من الإسبان قتل إسحاق ريس الأخ الأكبر للإخوة بربروس في قلعة “بني راشد”، ثمَّ بعد محاصرة عروج في قلعة المشور لستة أشهر كاملة، وأثناء محاولته ومَن معه الوصول إلى الساحل للانتقال لمدينة الجزائر قُتِل هو ومَن معه، ثمَّ قُطع رأسه وأرسل إلى إسبانيا، وطيف بها في العديد من المدن الأوروبية.
رسالة أهالي الجزائر إلى الباب العالي
لم يتوقف الإسبان عند إعادة تعيين رجلهم في تلمسان وما جاورها، بل سعوا للقضاء على أي أمل في وجود قوة توحد الجزائر، لذا اتفقوا مع ملك تلمسان “أبو حمو الثالث” على السير إلى مدينة الجزائر للقضاء على خير الدين ومَن معه، لكن أهالي الجزائر وخير الدين كان لهم رأي آخر.
فقد أجمعوا كلمتهم على القتال إلى آخر رمق بدل التسليم للإسبان، وسارت الحملة الإسبانية في قوَّة عظيمة ناحية مدينة الجزائر سنة (1518)، وجابهها خير الدين ومَن معه بكل قوة، وبتكتيك حربي عالٍ جعل معظم مساعي الإسبان لاحتلال المدينة تبوء بالفشل الذريع، وتغير الجو فأدى إلى تحطم سفن الإسبان، واستطاع أهل الجزائر حينها أسر الآلاف مِن الإسبان الذين قدموا في هذه الحملة، حتَّى إن “ابن رقية التلمساني” يذكر أنَّ عدد الأسرى الإسبان في مدينة الجزائر حينها بلغ (3000 آلاف).
بعد هذه الحملة قرَّر خير الدين السفر إلى إسطنبول، بعدما ترك في الجزائر العديد من المدافع والتجهيزات لحمايتها، واستأذن علماءها وأهلها في ذلك، فرفضوا ذلك، وأجمع أهل الجزائر أمرَهم على الرد على خير الدين، بقولهم: “… أيها الأمير لا تطيب أنفسنا بفراقك ولا نسمح لك بذلك، فالله الله في أمة سيدنا محمَّد ﷺ فإن الله يسألك يوم القيامة عنهم..” وأكد عليه علماء البلد بقولهم: “… أيها الأمير يتعيّن جلوسك في هذه المدينة لأجل حراستها والذبّ عن ضعفاء أهلها، ولا رخصة لك في الذهاب عنهم وتركهم عرضة للعدو” لكن خير الدين كان يفهم موازين القوى، لذا فقد أجاب أهل الجزائر بقوله: “… أنتم رأيتم ما وقع مع الملاعين الكافرين، ولا يُؤمَنُ من عواملهم، وقد ظهر لي مِن الرأي أن نصل أيدينا بطاعة السلطان الأعظم، مولانا حضرة السلطان سليم، فيمدنا بالمال والرجال وجميع ما نحتاج إليه من آلة الجهاد…”، وهو ما استحسنه أهالي وأعيان وعلماء الجزائر.
وبهذا الشكل قام أهالي وأعيان وقاضي مدينة الجزائر بمراسلة الباب العالي في أوائل ذي القعدة (925هـ)، أي تقريباً ما بين (24-31) أكتوبر (تشرين الأول) سنة (1519مــ) يطلبون من السلطان “سليم” إلحاق الجزائر بالدولة العثمانية، وأن يشملهم برعايته، وأن يجعل خير الدين أميراً عليهم، ونصّ هذه المراسلة موجود كاملاً في الأرشيف العثماني، ولولا ضيق المكان هنا لأوردناه كاملاً. ونصّ هذه المراسلة التي كتبها علماء وأعيان وقضاة البلد ووجهوها للباب العالي موجودة اليوم في الأرشيف العثماني في إسطنبول. وما على الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلاَّ أن يجد من ينقلها له للفرنسية، حتى يفهم هل كان الوجود العثماني احتلالاً كما يرى هو و”بنجامين ستورا” وغيرهما.
أما من يناقش أحداثاً تاريخية بفهم اليوم الوطني والقومي فيجب أن يعي أوَّلاً أن سحب أي فكرة من سياقها الزمكاني ومعالجتها يجعلها فارغة من مضمونها تماماً.
المصادر
المصادر العربية
- مذكرات خيرالدين بربروس، ترجمة محمد دراج، دار الأصالة، الجزائر، 2010.
- ابن رقية التلمساني: الزهرة النائرة فيما جرى في الجزائر حين أغارت عليها جنود الكفرة، تحقيق، خيرالدين سعيدي، دار أوراق ثقافية للنشر والتوزيع، جيجل، الجزائر، 2017.
المصادر الفرنسية
- Histoire de l ‘ Afrique septentrionale ( Berbérie ) depuis les temps les plus reculés jusque ‘ à la conquête française ( 1830 ). Tome 3, Paris, Ernest Leroux, 1891.
- Walsin Esterhazy, De la domination turque dans l’ancienne régence d’Alger, C. Gosselin (Paris), 1840
- H.D. DE GRAMMONT, Histoire d’Alger sous la domination turque (1515-1830), Paris, Ernest Leroux, 1887
- Fray Diego de Haedo, Histoire des rois d’Alger, traduite et annotée par H.-D. de Grammont, Adolphe jourdan, libraire-éditeur 4, place du gouvernement, 4, 1881.
- Jamil M Abun-Nasr : A History of the Maghrib in the Islamic Period, Cambridge University Press, Aug 20, 1999.
- Rétout: Histoire de Djidjelli, Annecine Maison Bastide-Jourdan, Alger, Date d’édition 1927.
- Adrien berbrugger, Le Pégnon d’Alger, ou Les origines du gouvernement turc en Algérie, Paris, 1860.
مصادر البحث من الأرشيف العثماني: مراسلة أهالي الجزائر للباب العالي لطلب إلحاق الجزائر بالدولة العثمانية:
9. BOA. TSMA. Dosya N° 757. Gömlek N°63. Tarih H-10-11-925.(04.Oct.1519).