يعتبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب المرجعية الدينية السنية الأكبر في العالم الإسلامي، وهو من أكثر الشخصيات المؤثرة محلياً ودولياً، في المسلمين وغير المسلمين، ونظراً لمواقفه واختياراته في مختلف القضايا والمواقف فإن الآراء فيه تعددت بين مؤيد ومعارض، وبين متعصب في الدفاع عنه أو الهجوم عليه، وذلك تبعاً لرأي كل شخص ومدرسته وفكره. فمن باب المثال لا الحصر, عندما أعلن سماحته عن محاربته للفكر الوهابي التكفيري ونشر عقيدة أهل السنة والجماعة الأشعرية التي تنص على تنزيه الله عن مشابهة خلقه, أقام اتباع الدين الوهابي الدنيا عليه وبدأوا بمهاجمته والتشكيك بنزاهته.
والحقيقة أن أفضل زاوية يمكن أن تطل بها على شخصية ما لتحسن فهمها هي زاوية الشخص نفسه، حيث لا مجال للتحيز أو الآراء المسبقة، وبهذه الطريقة لا نناقش القرارات والآراء بقدر ما نتتبع الأسباب والدوافع، في محاولة للفهم والحصول على تفسير واقعي بعيداً عن التضخيم أو التهوين.
لا يختلف أحد أن الإمام أحمد الطيب من الشخصيات المميزة التي تولت مشيخة الأزهر الشريف، ولقد حجز لنفسه مكاناً في تاريخ تلك المؤسسة الإسلامية العريقة وتاريخ مصر الحديث. فمن جانب تعد الفترة التي تولى فيها المشيخة حافلة بالأحداث السياسية والاجتماعية، ومن جانب آخر يعتبر أداؤه استثنائياً على الصعيد الداخلي نظراً لما قام به من تطوير لمؤسسة الأزهر أو الصعيد المحلي، حيث تموضع في مكان مميز أدار منه علاقاته بمختلف مكونات الدولة المصرية، أو الصعيد العالمي وعلاقاته مع الحكومات والمؤسسات الدينية العالمية.
كل هذه الأمور تؤكد لنا أنه من الضروري قراءة شيخ الأزهر بطريقة هادئة متأنية بعيداً عن الاختزال في موقف ما أو تصريح ما، وهذا ما يسعى الكاتب للوصول إليه عبر السطور التالية..
النشأة الصعيدية الأزهرية
ولد أحمد محمد أحمد الطيب الحساني في قرية القرنة التابعة لمحافظة الأقصر في عام 1946م، وهو ينتمي إلى أسرة صوفية تحب العلم وتنتسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما. نشأ في قريته وتعلم في الكتاتيب على الطريقة القديمة التي تعنى بحفظ المتون المعتمدة للتدريس في الأزهر، والتحق بالمعاهد الأزهرية في إسنا وقنا، حتى تخرج في قسم العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين بالقاهرة عام 1969م.
من المهم الالتفات إلى أمرين مهمين أثناء النظر في نشأته:
أولهما التزامه بالطريقة الخلوتية الحسانية التي كان أسس مشيختها جده الأكبر الشيخ الطيب وتولى مشيختها أبناؤه من بعده جيلاً بعد جيل، والآن يرأس مشيختها الشيخ محمد الطيب الأخ الأكبر للإمام أحمد الطيب، وهي من الطرق الصوفية المعتدلة التي تركز على تزكية النفس عبر الالتزام بالأوراد والزهد، وهو ما كان له بالغ الأثر في شخصية الشيخ الطيب وتعامله مع القضايا في مختلف مراحل حياته.
الأمر الثاني طبيعة البيت الذي نشأ فيه، حيث توجد في قرية القرنة ساحة اسمها “ساحة الطيب” أسسها جده الأكبر وما زالت تقوم بدورها الاجتماعي المحوري في المجتمع المحلي، حيث تنعقد فيها الجلسات العرفية ومجالس التحكيم، كما تعقد فيها حلقات علمية، ويستضاف فيها العديد من الضيوف والنزلاء، وهو ما جعل دورها يتعدى مجتمع القرية ليمتد إلى مختلف أرجاء الصعيد، حيث يفد الناس إلى تلك الساحة ليفصل مشايخها فيما بينهم من نزاعات ويصلحوا بين المتخاصمين وينزعوا فتيل الثارات المشتهرة في صعيد مصر.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وقد شارك الشيخ في أعمال الساحة في أواسط عقده الثالث، وهو ما كان له بالغ الأثر في صقل شخصيته وتوسع نظرته للمجتمع ومكوناته وطريقة اكتساب القيادة المجتمعية التي لا تقوم على سلطة ممنوحة من الدولة، ولكن بناء على احترام أفراد المجتمع واستعدادهم لقبول قيادته وتنفيذ أحكامه حتى وإن لم تكتسب صفة الإلزام القانوني الذي تكتسبه أحكام القضاء الرسمي.
التعليم في الأزهر
حصل الطيب على قسط وافر من التعليم الأزهري، حيث حضر مرحلة الكتاتيب، حيث كان يتم تحفيظ القرآن الكريم والمتون، وهي مرحلة تأسيسية أهلته للالتحاق بالمعاهد الأزهرية وصولاً إلى التخرج في كلية أصول الدين عام 1969 بترتيب الأول على قسم العقيدة والفلسفة وعين معيداً بالقسم في نفس العام، وحصل على الماجستير عام 1971 والدكتوراه عام 1977 من جامعة الأزهر واعتلى درجة الأستاذية بها عام 1988.
عقب تخرجه في الكلية التحق بالمركز الثقافي الفرنسي وقضى خمس سنوات في دراسة اللغة الفرنسية؛ وهو ما أهّله للابتعاث إلى جامعة باريس في فرنسا لمدة ستة أشهر عام 1977، كما ترجم عدداً من المؤلفات من الفرنسية إلى العربية، ويعتبر إتقانه للفرنسية وإلمامه بالإنجليزية إحدى الأدوات التي ساعدت في صياغة شخصيته العلمية والسياسية على حد السواء.
الشيخ الذي هاجمه الجميع!
تعرض الإمام الطيب إلى هجوم قوي من الجماعات الإسلامية، فالإخوان المسلمون لم ينسوا أحداث ميليشيات الأزهر التي استغلها نظام مبارك بإقامة طلاب الإخوان لمحاكاة تمثيلية للمقاومة الفلسطينية فعقدوا المحاكمات للطلاب ولعدد من قادة الإخوان، وكان ذلك في عهد رئاسة الطيب للجامعة. كما أن الوهابيون معروفون بعدائهم للمنهج الأزهري الأشعري الصوفي، والحق أن صراع الإخوان كان مع نظام مبارك وقضيتهم كانت مع أجهزة أمنه وليست مع رئيس الجامعة، كما أن مشكلة الوهابية هي مع غالب المكونات العلمية للأمة وليس مع الطيب بصفة شخصية، ورغم هذا لم يسلم الطيب من هجوم الجماعات خاصة مع موقفه القديم المعروف برفضه للجماعات السياسية الإسلامية.
وعلى صعيد آخر هاجمه عموم الشباب عقب ثورة 2011 باعتباره أحد رموز “النظام البائد”، وعلى صعيد آخر صراعه مع مختلف أجهزة الدولة واضح، خاصة صراعه مع المؤسسات الدينية التي تتبع النظام بصورة كاملة وتختار الاصطفاف مع النظام بغض النظر عن الرأي العلمي أو دراسة المآلات، مثل معركته مع دار الإفتاء التي جعل رأس حربته فيها مؤسسة الأزهر للإفتاء التي تتمتع بمصداقية أكبر من دار الإفتاء ذاتها، وكذلك صراعه مع وزير الأوقاف الذي أراد أن يفرض الخطابة من ورقة، وفشل في ذلك بعدما وقف له شيخ الأزهر بكل ثقله.
تعرض الإمام الطيب كذلك لهجوم “التنويريين” والمفكرين العلمانيين والحداثيين، ولا يخلو حدث دون أن يظهر مهاجم له سواء بسبب انحيازه لثوابت الدين أو احترامه للتراث الإسلامي، ولعل مناظرته القوية لرئيس جامعة القاهرة أكبر دليل على استعداده على خوض المعارك من أجل قناعاته ومعتقداته مهما كان الثمن.
والعجيب أن الجماعات التي هاجمته سارعت إلى إبداء الإعجاب به عند مواجهته لتغول الدولة في المساحات الدينية، ومواجهته تيارات العلمانية والتغريب. والشباب الذين هاجموه عقب 2011 وجدوا في المحاضن الإسلامية التي وفرها في الأروقة ملاذاً لتعلم أحكام الدين بعدما أفرغت وزارة الأوقاف المساجد من مضمونها وأوقف غالب أنشطتها. والدولة التي هاجمته تعلم تماماً قدره ومكانته وكيف أوجد أداة من أدوات القوة للدولة المصرية بعدما كان الأزهر صوتاً خافتاً لسنوات طويلة. ودعاة التنوير الذين هاجموه وجدوا في إعادة قراءته للعديد من أحكام الأسرة- مع اختلافي في كثير منها- مقاربة جديرة بالثناء.
إن مشكلة تناول شخصية الإمام الطيب في غالب المقالات والدراسات هي أنها صادرة عن أحكام مسبقة، ينظر الكاتب من خلال نظارته الشخصية وزاويته الخاصة، فيرى أن الطيب الذي حقق أهدافه أو دافع عن قضاياه هو أفضل إمام، ويرى أن الطيب الذي نحى منحى آخر بعيداً عن رؤية هذا الشخص مستحقاً للهجوم والهجاء! وهو تناول سقيم سواء صدر عن محب أو مبغض، والحقيقة أن الإمام الطيب رجل عالم جليل، له عقل راجح وأقر له العلماء بعلمه وقدره، وله أولويات ومحددات تضبط قراراته، والمتتبع لها يكتشف أنه- من وجهة نظري- الأكثر اتساقاً مع مبادئه خلال تلك الفترة الصعبة من تاريخ مصر الحديث.