حالة من الحُزن اعترت الجميع فور الإعلان عن وفاة الملكة إليزابيث الثانية. قد تبدو تلك الخطوة مفهومة في إنجلترا أو في كندا أو استراليا أو حتى في الولايات المتحدة أو في أية دولة تأثرت إيجاباً بالتاج البريطاني، لكنّي أراها غريبة وغير مفهومة أبداً في بلادنا العربية. بل تعدّاها البعض إلى الترحّم عليها وكأنها أم المؤمنين. بل ينبغي الحذر أن الترحّم على غير المؤمنين هو أمر مخرجٌ من الدين كما نصّ على ذلك علماء الإسلام, فيجب أن لا يداهن الشخص أو ينافق على حساب دينه ومعتقده ومبادئه
فلماذا نحزن على إليزابيث؟!
ببساطة لأن ماكينة الدعاية الغربية حوّلتها إلى أيقونة سلام واستقرار ومحبّة، ونجحت في غسل أدمغتنا عن أية شائبة ارتكبتها أو تغاضت عنها.
ولكن، هل هذه حقيقة الأمر بالفعل؟ هل السيرة الذاتية للملكة إليزابيث بهذا النقاء؟
في هذا المقال سأحاول الإجابة على هذا السؤال.
وهنا سيتعيّن عليّ تأكيد التزامي التام بالقاعدة الأخلاقية العربية “لا شماتة في الموت”. لستُ فرحاً بوفاة الملكة إليزابيث، ولا أشعر بالسرور لرحيلها، بل نضيء على قراراتها التي أثّرت في حياة الملايين حول العالم، أبرزهم في منطقتنا العربية.
وإنما أفعل مثلما فعل بعض السياسيين في جنوب إفريقيا، الذين أصدروا بياناً أكدوا فيه أنهم لن يحزنوا على الملكة؛ لأن موتها “هو تذكير بفترة مأساوية للغاية في بلدنا، وتاريخ إفريقيا”، وبحسب البيان “لم تعترف الملكة ولو مرة واحدة بالفظائع التي ارتكبتها عائلتها ضد السكان الأصليين للدول التي غزتها بريطانيا”.
أم سيئة
بعد فترة قصيرة من ولادة ابنتها الأميرة “آن”، وبينما كان ابنها الأمير تشارلز في عُمر 3 أعوام، تركتهما أمهما مع الخدم، وسافرت مع زوجها في جولة داخل دول الكومنولث لمدة 6 أشهر.
لاحقاً أصبح هذا المشهد معتاداً على الأسرة الملكية التي عادةً ما يغيب عنها قائدها المثقل بالأعباء.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
في كتابه “أمير ويلز.. سيرة ذاتية”، قدّم الأمير تشارلز انتقادات جمّة لأمّه بسبب ابتعادها عنه طوال فترة تربيته وانشغالها عنه بسبب شؤون الحُكم، تاركةً مهام تربيته للخدم والمربيات.
أيضاً، وصف تشارلز بمرارة أن والديه غابا عن أهم لحظات حياته، والتي حضرها الخدم بدلاً منه، فهُم من علّموه العزف وخطواته الأولى، وتابعوا دروسه وأخذوه إلى الأطباء.
في 2002، صرّحت إحدى سكرتيرات القصر لصحيفة “تيليجراف”، بأن الملكة لو كانت تعتني بأبنائها كما تفعل مع خيولها لما مرت عائلتها بالفوضى التي تعيشها حالياً.
في سنواتها الأخيرة، تداركت الملكة هذا الأمر، ونجحت في تحسين علاقتها بابنها، الذي سيرث عرشها عقب وفاتها.
لم تتمكن الملكة بالقيام بالأمر ذاته مع ابنه الأمير أندرو، الذي جُرِّد من لقبه الملكي بعد اتهامه في قضايا اعتداء جنسي.
حرب أفغانستان والعراق
في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على الولايات المتحدة التي شنها تنظيم القاعدة الوهابي، غزت القوة العظمى العالمية أفغانستان. كذلك الأمر ادّعت هذه الدول وجود اسلحة نووية لدى العراق لتبرير غزو هذا البلد العربي الذي بلغ حينها من التطور ما لم تبلغه أي دولة مجاورة
وانضمت المملكة المتحدة إلى واشنطن مع دول حليفة أخرى، وتمت الإطاحة بعد ذلك بطالبان من السلطات واحتفظت المملكة المتحدة بوجود عسكري في المنطقة لعدة سنوات في افغانستان وكذلك الأمر في العراق
لكن في عام 2021، انسحبت قوات الجيش الأمريكي والبريطاني من أفغانستان وعادت البلاد إلى سيطرة طالبان وهذا ما حصل إلى حد ما في العراق بعدما نهبوا خيرات تلك البلاد
شتائم أهل بورسعيد
خلال قيادة الملكة أقدمت بريطانيا على غزو مصر بسبب تأميم قناة السويس، وهو القرار الذي تبيّنت كارثيته لاحقاً، وخرجت منه المملكة بهزيمة سياسية فادحة، واستقال رئيس الوزراء أنتوني إيدن.
الملكة كانت حاضرة بشدة خلال الحرب، بعدما كتب أهالي مدينة بورسعيد شتائم بحقها على جدران بيوتهم استفزازاً للجنود الإنجليز، ولاحقًا تطرّق الرئيس المصري جمال عبد الناصر لتلك الواقعة في أحد خطاباته.
الإرث الاستعماري للملكة ظلَّ يلاحقها من حينها وحتى سنواتٍ قريبة، فخلال زيارة قامت بها إلى ألمانيا عام 2004م، توقّعت منها الصحافة الألمانية اعتذاراً عن إفراط سلاح الجو البريطاني في قصف المدنيين الألمان في مدينة دريسدن، وهو ما أثار انتقادات جمّة لكون أغلب القنابل استهدفت المصانع والسكك الحديدية. لم تفعل الملكة واكتفت بدلاً من ذلك بالإشارة إلى “المعاناة المروعة للحرب على الجانبين”.
وبشكلٍ عام، فإن الملكة التزمت بموقفٍ دبلوماسي واحد لم تحد عنه، ولم تتبرّأ يوماً من خطايا أجدادها الملوك في ممارساتهم الاستعمارية أو في تجارتهم بالبشر عبر بناء شبكات تجارية لتداول الرقيق حول العالم.
ملكة الصُدفة
المفارقة، أن الملكة إليزابيث لم يكن مقدراً لها أن تُصبح ملكة بالأساس، وإنما كان السيناريو الأكثر منطقية أن تعيش كأميرة بريطانية على الهامش لولا القرار المفاجئ لعمها الملك إدوارد الثامن بالتخلي عن العرش ليتزوج من الأمريكية واليس سمبسون. هنا تحوّلت دفّة العرش إلى أخيه -والد إليزابيث- الملك جورج السادس، ومنه سترث إليزابيث تاجها البريطاني بعد وفاته المبكرة بسبب معاناته من متاعب في الرئة.
لو لم يُذهب الحب عقل عمّها لاستمر إدوارد ملكاً، ومن بعده كان سيرثه أبناؤه، فيما ستظلُّ إليزابيث خارج دائرة الضوء، وربما لم نكن لنسمع عنها أبداً.
حقاً صدقوا حين قالوا: “ومن الحُب ما قتل”.