كثيرة هي الأيام التي لا تنسى في تاريخ الإسلام، والتي تبرز شراسة الصراع بين الشرق والغرب، بين الإسلام والنصرانية، فقد لبثت الفكرة الصليبية قرونًا محور هذا الصراع، وقد بلغ ذلك الصراع قوة اضطرامه زمن الخلافة العثمانية حيث سقطت القسطنطينية، ولم يعرف قط سبيلًا للمهادنة، حتى بعد أن نبذت الخلافة العثمانية فكرتها في اجتياح الغرب، إذ بدت عليها علامات الضعف والتنازع بعد موت أمير المؤمنين سليمان القانوني رحمه الله (974هـ / 1566م)، في الوقت الذي اتحدت فيه قوى الصليبيين بأوروبا، وأخذت فكرتها الصليبية في ثوبها الجديد، ثوب السياسة الاستعمارية التي ترمي إلى فرض سلطان الغرب على الأمم الإسلامية والشرقية بوجه عام، والتربص بكل فورة أو نهضة جديدة يجيش بها الإسلام.
وتعتبر معركة هاجوفا أو كرزت من تلك الأيام الخالدة من تاريخ أمتنا، والتي بدت فيها الفكرة الصليبية قوية مضطرمة، جرت أحداثها بين الدولة العثمانية بقيادة السلطان محمد الثالث وبين اتحاد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، بقياده ماكسيمليان أخو إمبراطور ألمانيا، والتي انتهت بنصر مظفر للخلافة العثمانية.
تمردات الألمان
بموت السلطان سليمان القانوني دخلَت الدولةُ العثمانيَّة في مرحلةٍ مِن الضَّعف المرحلي، أدَّى لتوسُّع الممالِك الأوروبيَّة مرَّة أخرى على حساب أملاكِ الدَّولة العثمانيَّة، التي أنفق فيها السلاطين العثمانيون الأوائل كثيرًا من دماء المسلمين في سبيل فتحها وإخضاعِها لدولة الإسلام.
وفي عام 1003هـ / 1595م وفي وسط مؤامراتِ قصر السلطان العثماني محمد الثالث وتنازُع الوزراء، خسرَت الدولة العثمانيَّة عدة مواقع في أوروبا، كان من ضمنها قلعة “إستركون” المركزيَّة لصالح الألمان (الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، بالإضافة إلى جرأة أمير رومانيا – أمير مقاطعة الأفلاق الرومانية “الفويفودا ميخائيل – ميخائي” على الجيش العثمانِي في تِلك المنطقة بقيادة الوزير “سنان باشا”، وإعلانِ تمرُّده ومطاردته الجيشَ العثماني في انسحابِه؛ حيث تعقَّب خِيرَة فرق الصَّاعقة بالجيش العثماني، وقام بإغراقهم أثناء عبورهم نهر الدانوب، وارتكب ما تقشعر منه الأبدان من مذابح بحق الأهالي المسلمين بما فيهم النساء والأطفال في ” تاركوفيتشه” بل إن يلماز اوزتونا في كتابه ” تاريخ الدولة العثمانية” ذكر أنه قد أعدم 3500 مسلمًا على الأوتاد (الخوازيق)، بما فيهم علي باشا وكبار الضباط الأتراك، وقد أقدم على شيّ لحوم بعض الضحايا وأكلها كذلك!
ونتيجة لإخفاق سنان باشا في رد هذه الهجمات، فقد عزله السلطان، وتم تعيين إبراهيم باشا وزيرًا أعظم للدولة العثمانية [1].
نفير السلطان محمد الثالث
نظرًا لهذا الوضع الحرج، ولتنامِي قوَّة الجيش الألماني الذي بات يمثل خطرًا حقيقيًّا ضد الدولة العثمانية ككلٍّ، وجرأة الرُّومان، قرَّر السلطان محمد الثالث الخروج بنفسِه للجهاد على رأس حملةٍ كبيرة؛ لاستعادة هَيبة الخلافة العثمانية؛ حيث كان السلطان محمد الثالث أول من خرج من السلاطين للجهاد بعد 30 سنة من وفاة أمير المؤمنين سليمان القانوني رحمه الله.
حصار قلعة أرلو – أكري – إغر
خرجَت هذه الحملة بقيادة الخليفة العثماني محمد الثالث من إستانبول سنة 977هـ / 20 يونيو عام 1569م؛ حيث عبر مدينة صوفيا ليصلَ إلى بلغراد في أغسطس، حيث استُقبل استقبالًا حافلًا، وجرت مراسم استعراض للجيش، وبعد 11 يومًا عبر الجيشُ العثماني نهرَ سافا ليدخل مناطق النمسا في سبتمبر عام 1569م، وهنا دُعيَ إلى مجلس حربيٍّ بقلعة سلانكمن بقيادة السلطان، وقرَّر المجلس أن يفتتح قلعةَ أكري أو أرلو (بالألمانية) أو إغر (بالمجرية)، التي عجز السلطان سليمان القانوني عن فتحها في سنة 963هـ / 1556م، رغم محاصرته لها 39 مرة. وتكمن أهمية القلعة في أنَّها تتحكَّم في طرق المواصلات بين النمسا وترانسلفانيا (رومانيا)، وقد كانت جميع هذه المناطق تقاوِم الفتحَ العثماني، وكانت القلعة في حوزة الألمان.
وبدأ الحصار في 24 سبتمبر 1569م وقد استطاع السلطان محمد فتحها بعد حصار 18 يومًا، ثم أقيمت صلاة الجمعة في 18 أكتوبر، وكان خطيبها سعد الدين أفندي، وعيِّن لها بكلربك أرضروم. وكان في أثناء البدء في حصار قلعة أرلو قد وصلَت الأخبارُ للسلطان العثماني بأنَّ النمساويين قد قاموا بحصار وإسقاط قَلْعة “هاتافان”، وقتل النمساويُّون جميعَ العثمانيين المتمركزين في القلعة، بما فيهم الأطفال والنساء ردًّا على حملة السلطان؛ لذا قام السلطان محمد بإعدام جميع جنود القلعة بعد فتحها ردًّا على هذه المذبحة؛ حيث قدِّر عدد من قُتل من الجنود الألمان 11000 جندي.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وفي إحدى المعارك
بعد فتح حصن أكري كاد أن يؤسر السلطان محمد الثالث وفرّ من حوله الجنود والأعوان، فقال الشيخ سعد الدين أفندي: “اثبت أيها الملك، فإنك منصور بعون مولاك، الذي أعطاك، وبالنعم أولاك، فركب السلطان جواده، وحمل سيفه وتضرع إلى القوي العزيز، فما مضت ساعة حتى نزل نصر الواحد القهار” [2]. أحداث معركة هاجوفا بعد ذلك تلقَّت قيادةُ الجيش العثماني خبرًا بأنَّ جيشًا مشتركًا من النمساويِّين والترانسلفانيين كان يتقدَّم تجاه جيش الحملة العثمانيَّة، وبعد مشاورات ومداولات قرَّر السلطان محمد الثالث الذهاب لمقابلتهم في سهل هاجوفا Haçova أو كرزت شمال المجر، كان جيش التحالف الصليبي يضم أيضًا عددًا كبيرًا من الجنود الصليبيِّين بقيادة الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتوابعها وأحلافها؛ من ألمانيا والإمارات البابوية الإيطالية، وإمارةِ بوهيميا التشيكية، وإمارة أردال الرومانية، ومملكةِ المجر، وإمارة القازاق (الكوساك) الأوكرانية، واتِّحادِ بولندا وليتوانيا، ومملكةِ إسبانيا، تحت قيادة أرشيدوق النمسا “ماكسيميليان الثالث” وأمير ترانسلفانيا “سيغسموند باثوري”.
وكان ذلك التحالف يقدَّر بـ 300.000 جندي، معهم 100 مدفع، بينما قُدِّر الجيش العثماني بـ140000 جندي يساعدهم خيَّالة دولة القرم.
معركة هاجوفا الأولى
وقعت حرب هاجوفا الأولى في آخر صفر 1004هـ / 22 أكتوبر 1596م، وكانت بداية الحرب صاعِقة على الجيش العثماني الذي كان في حالةٍ من الضَّعف والقلَق نتيجة هذا التحالف الصليبي الكبير ضدهم؛ حيث انتصر جيش التحالف في بداية هجومه على مقدِّمة الجيش العثماني، وسقط 1100 جندي عثماني شهيدًا، وفُقد 42 مدفعًا. يصف المؤرِّخ العثماني “إبراهيم بجوي” ما حدث من هزيمة لجيش الخلافة قائلًا: “استطاع النصارى التغلُّب على الجيش العثماني، ولكن جنود الإسلام لم يَشعروا بالهزيمة، بعد ذلك بدأ النصارى بنَهْب ما في مقرِّ القيادة للعثمانيين، هاجمَت مجموعة كبيرة من النصارى الخيمةَ التي توجد بها الأموال التابعة لخزانة الدولة، قامت المجموعةُ بقتل بعض جنود الإنكشارية والحرس، استولى النصارى على صندوق الأموال الذهبيَّة، ورفعوا أعلامَ الصليب وبدؤوا بالرَّقص حولها”. معركة هاجوفا الكبرى بدأت معركة هاجوفا الكبرى الأصلية بعد 4 أيام، في 4 ربيع الأول 1004هـ / 26 أكتوبر 1596م، يصف المؤرخ يلماز أوزتونا أحداث المعركة، يقول: “بدأت الحرب بهجوم الألمان واختراقهم مراكز العثمانية في العمق، ووصولهم بالقرب من المخيم السلطاني. ترجل محمد الثالث عن حصانه، دخل خيمته، على كتفيه بردة الرسول صلى الله عليه وسلم الشريفة، وممسكا ً بيده رمح الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يصلي ويدعو الله.
دخل الوزير الأعظم إبراهيم باشا إلى السرادق، وقطع الدعاء مخبرا ً السلطان بأن انسحابه أصبح من الضرورات العسكرية، ومن المؤكد أنه كان يخشى وقوع السلطان في الأسر، فيصيب الدولة مكروه لا يمكن إصلاحه، لأنه كان طيبا ً وعسكريا ً شجاعًا. استمع محمد الثالث للتوصية، وحالما امتطى جواده أمسك خوجه سعد الدين أفندي رئيس أساتذته وأساتذة أبيه بعنان الجواد قائلا: “إن الجيش الذي لا يرى السلطان يتشتت، وإن الحرب مستمرة وليس هناك هزيمة، وإن روح الرسول تنظر إليهم” [3].
ثم أمسك الشيخ سعد الدين أفندي عنانَ فرس السلطان الذي حاولَ الهرب به، وخرج به أمامَ جنود الجيش وهو يقوده، وهنا تشجَّع جنود الصاعقة والإنكشارية وقرَّروا الصمودَ في دفاعهم، وقد رأَوا السلطان يتقدَّمهم.
في اليوم الثاني من المعركة، اشتدَّ القتال، ووصلَت القوات النمساويَّة إلى خيمة السلطان نفسه، فهاجم مربُّو الخيول العثمانيُّون، والطباخون، وصانعو الخيام، والأشخاص المكلَّفون برعاية الجمال الجنودَ النمساويين الذين كانوا يجمعون الغنائمَ من الخيمة بكلِّ ما استطاعوا أن يحصلوا عليه من أسلحة، فاستعملوا أدوات الطَّبخ، والفؤوس التي كانوا يقطعون بها الخشبَ والمطارق التي كانوا يستعملونها في بناء الخيم، وتفاجأ النمساويُّون وانسحبوا وهم مشوَّشون، سمع الجنود العثمانيون الذين كانوا يقاتِلون في الخطوط الأمامية صراخَ العدو النصراني يهرب! فرفع هذا من معنويَّات الجيش وقلبوا موازينَ المعركة.
بدأَت قوات المدفعيَّة ضرب الجيش النمساوي – الترانسلفاني، والتفَّت القواتُ العثمانيَّة عليهم، وسرعان ما انهار النمساويُّون، وأعمل فيهم الجنودُ المسلمون القتلَ والتنكيل.
نتائج معركة هاجوفا
هُزم الجيش الألماني وقوى التحالف الصليبي، وقُتل 50 ألفًا من أفراد العدوِّ في ساحة القتال و20 ألفًا في المستنقعات التي سِيقوا إليها، واغتنم 100 مدفع، وكانت جثث العدو مكدسة في ساحة القتال الواحد فوق الآخر. وفرَّ جنود الجيش النمساوي – الترانسلفاني، فتعقَّبهم الجيشُ العثماني وأسروا البقيَّة. كما كانت خسائر الدولة العثمانية عبارة عن عدة آلاف من الشهداء [4].
كان انتصار معركة هاجوفا من أكبر الانتصارات في أوربا، ولكنه انتصار لم يقيَّم استراتيجيًا، إذ لم يستثمر العثمانيون هذا الانتصار في زيادةِ فتوحاتهم في أوروبا؛ فسرعان ما عاد السلطان محمد الثالث إلى إستانبول، حيث استقبلَته مواكب المهنِّئين على سلامته وانتصارِه السَّاحق، ومُنح السلطان لقب “فاتح إغر”.
ورغم رجوع الجيش العثماني لقواعدِه دون غزو ممالك أوروبا، كما كان يفعل السلاطنة العظام للدَّولة العثمانية، إلاَّ أنَّ هذا النَّصر قد أعاد الهيبة مرَّة أخرى لمكانة الدَّولة العثمانية في قلوب الأوروبيين، وأيقنوا بأنَّهم لن يستطيعوا قط القضاءَ على الدَّولة العثمانيَّة في أي معركةِ تحالفٍ معهم في ظلِّ العقيدة الإيمانيَّة التي يستحضرونها في معاركهم كافَّة معهم.