شهدت الخلافة العباسية بعد وفاة الخليفة المتوكل على الله سنة 247هـ/861م حالة من تسلط رجال الجيش من الأتراك والبويهيين والعرب وغيرهم على سلطة الخلفاء، وقد شهدت هذه الفترة حالات كثيرة من خلع الخلفاء، وقتلهم، والحجر عليهم، أو رميهم في السجون، حتى جاء السلاجقة في منتصف القرن الخامس الهجري معيدين شيئاً من رونق الخلافة القديم، ومهابة الخلفاء.
ولكن السلاجقة أيضاً سرعان ما حجروا على الخلفاء، وحدّوا من سلطاتهم، وقد ناضل عدد من الخلفاء العباسيين ضد الهيمنة السلجوقية على العراق، معقل الخلافة القديم، مثل المقتفي والمستضيء والمسترشد، واستطاع حفيدهم الناصر لدين الله، الذي تولى الحكم لفترة طويلة بلغت 47 عاماً، أن يعيد الاستقلال العباسي بصورة شبه كاملة، كما أعادَ الصورة القديمة للخلفاء الكبار مثل المنصور وهارون الرشيد والمأمون إلى الأذهان بالحديد والنار، وقد تُوفي الناصر لدين الله أحمد العباسي، في عام 622هـ/1225م، وهو الذي عُرف باليقظة والقوة والشدَّة، والاستئثار بالسُّلطة ليخلَفه ابنه الأكبر الكهل الخليفة الظاهر بأمر الله، وكان على خلاف والدِه رجلاً هادئاً متواضعاً، رحيماً بالرعية، لم يُكمل السنة في خلافته، ورغم قصر مدّته فقد أشاد به الناس، والمؤرخون، ورأوه ممن أحيوا سيرة العدل القديمة التي اشتهر بها الفاروق عمر وحفيده عمر بن عبد العزيز وغيرهما.
والظاهر بأمر الله هو محمد ابن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد ابن المستضيء، حسن ابن المستنجد، يوسف ابن المقتفي، الهاشمي العباسي، ولد في سنة 571هـ، ثم جعله أبوه ولياً للعهد سنة 585هـ، ثم خلعه منها لميله لأخيه الأصغر أبي الحسن علي، الذي توفي عام 612هـ، ليضطر والده إلى إسناد ولاية العهد إليه مرة أخرى، لعدم وجود أبناء غيره، ولكنه وضعه قيدَ المراقبة وعدم التدخل في شؤون الخلافة، ولعل هذا يرجع إلى سياسة أبيه الناصر، التي كانت تميل إلى المركزية الشديدة وجمع كل السلطات في يده.
ولقد تعلم الظاهر على يد أكابر علماء ومؤدّبي بغداد، بل وسمع على أبيه الخليفة الناصر مُسند الإمام أحمد، وروى عن غيره، وروى عنه بعض علماء بغداد، وقد أثّرت فيه هذه التربية القويمة، حتى نشأ محباً للعدل والخير، والعلم والعلماء.
وحين تُوفي الناصر لدين الله في أواخر شهر مضان من عام 622هـ، بايع الظاهرَ كبارُ رجال الأسرة العباسية، ورجال الدولة، والأمراء، وطبقات الناس، وكبراء الرعية، على ما جرت به العادة، وكان عمره إذ تولى الخلافة 51 عاماً، وهي سن كبيرة إلى حد ما، مقارنة بمن سبقه ولحقه من الخلفاء.
وكان أول ما بدأ به خلافته إصلاح الأحوال التي تضررت منها الرعية جراء السياسة المركزية والأمنية والمخابراتية المشددة، التي اتبعها أبوه الناصر طوال نصف قرن، حيث قرر على الفور عدم تدخل الدولة في الحياة الشخصية لعموم الناس، فقد كانت العادة في بغداد كما يقول ابن الأثير في تاريخه “الكامل”، “أن الحارس بكل درب يُبكِّر ويكتب مطالعة إلى الخليفة بما تجدد في دربه، من اجتماع بعض الأصدقاء ببعض على نزهة، أو سماع، أو غير ذلك، ويكتب ما سوى ذلك من صغير وكبير، فكان الناس من هذا في حجر عظيم، فلما ولي هذا الخليفة جزاه الله خيراً أتته المطالعات على العادة، فأمر بقطعها، وقال أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتها، فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا، فقيل له إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها، فقال نحن ندعو الله أن يصلحهم”.
وأمر أيضاً بإطلاق سراح المسجونين ظلماً وزوراً “وأمر بإعادة ما أُخذ منهم وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار، ليعطيها عن كل من هو محبوس في حبس الشرع وليس له مال”، كما يقول المؤرخ ابن الوردي.
كان أبو الخليفة الناصر قد فرض على الأقاليم خراجاً وضرائب باهظة، ليضمن تدفق المال إلى الخزينة طوال العام؛ حتى تظل الدولة قوية مهابة قادرة على الرد العسكري لأي عدو مُناوئ، لكن الظاهر “أمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق، وأن يسقط جميع ما جدّده أبوه، وكان كثيراً لا يحصى”، ويعلق المؤرخ المعاصر له، ابن الأثير، على هذا المثال بسؤاله: “فإذا كان المطلق من جهة واحدة سبعين ألف دينار، فما الظن بباقي البلاد؟” ما يُدلل على الإرهاق الكبير الذي عاناه العراق تحت خلافة والده الناصر.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وقد حرص الخليفة الظاهر بأمر الله في ذات السياسة الإصلاحية على ألا يؤخذ الخراج إلا بدقة بالغة، ومن كل شجرة مثمرة، بعدما كان يُفرض على الأقاليم دون مراعاة المثمر من الهالك والتالف، كذلك أصلح السياسة المالية للخزينة العباسية؛ فقد كان المال يوزن قديماً، فأمر بإصلاح ميزان وزارة المالية بعدما عرف أن هناك تطفيفاً حادثاً؛ الأمر الذي جعل أحد الموظفين في هذه الوزارة يرسل إلى الخليفة على سبيل النصح، ويشير إليه إلى بحجم الخسارة التي ستتعرض لها الخزينة جراء هذا القرار الجديد، قائلاً: “إن هذا مبلغ كثير، وقد حسبناه فكان في السنة الماضية خمسة وثلاثين ألف دينار. فأعاد الظاهر الجواب ينكر على القائل، ويقول لو أنه ثلاثمئة ألف وخمسون ألف دينار يُطلق”.
ولذلك كانت سياسته المالية قائمة على الإنفاق على الرعية، وعدم كنز المال في الخزائن، قال سبط ابن الجوزي: “لما دخل إلى الخزائن قال له خادم كانت في أيام آبائك تمتلئ فقال: ما جعلت الخزائن لتمتلئ بل تفرغ وتنفق في سبيل الله فإن الجمع شغل التجار”.
بل إننا نراه يُخرج من المخازن العباسية الغلال، عندما علم أن هناك أزمة غذائية في الموصل، رغم أنها لم تكن خاضعة للسيادة العباسية المباشرة حينذاك: “فقيل له إن السعر قد غلا شيئاً، والمصلحة منع حمله، فقال أولئك مسلمون وهؤلاء مسلمون، وكما يجب علينا النظر في أمر هؤلاء كذلك يجب علينا النظر لأولئك، وأمر أن يباع من الأهراء (المخازن) التي له طعام أرخص مما يبيع غيره، ففعلوا ذلك، فرخصت الأسعار عندهم أيضاً أكثر مما كانت أولاً”.
كما ضرب الظاهر المثل فيما يجب على المسؤول تجاه رعيته، وأولها الاحتكاك بهم، والتقرب منهم، والتعرف على آلامهم؛ فقد “ظهر للناس، وكان أبوه لا يظهر إلا نادراً”، كما يذكر ابن واصل في تاريخه “مفرج الكروب”.
لقد أصرّ الظاهر على تطبيق هذه السياسة الإصلاحية الرامية إلى إزالة ثقافة الفساد والجور، التي ظلت لعقود طويلة تهيمن فيها الدولة على الإنسان والمرافق، ولذلك نراه يُصدر مرسوماً قبيل وفاته إلى كل موظفي الدولة، يحذّرهم فيه من التباطؤ أو تجاهل تنفيذ هذه الاستراتيجية الإصلاحية، محاولاً إزالة البيروقراطية الحكومية، قال ابن واصل: “كان قبل وفاته أخرج توقيعاً إلى الوزير بخطه ليقرأه على أرباب الدولة، وقال الرسول: أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يُقال برز مرسوم أو نُفّذ مثال، ولا يبين له أثر، بل أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال”.
وقد أوضح منشور أو مرسوم الخليفة الظاهر الثقافة العامة التي كان يتمتع بها، وفهمه العميق لدهاليز السياسة العامة في الدولة، والفساد المستشري في الجهاز الإداري والتنفيذي، يقول: “بسم الله الرحمن الرحيم، اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالاً، ولا إغضاؤنا إغفالاً، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملاً، وقد غفرنا لكم ما سلف من خراب البلاد، وتشريد الرعايا، وتقبيح السمعة، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكاً؛ لأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن أسد باسل، وأنياب أسد مهيب، تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد، وأنتم أمناؤه وثقاته، فتميلون رأيه إلى هواكم، وتمزجون باطلكم بحقه، فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون، والآن فقد بدّل الله سبحانه وتعالى بخوفكم أمناً، وبفقركم غنى، وبباطلكم حقاً، ورزقكم سُلطاناً يُقيل العثرة، ويقبل المعذرة، ولا يؤاخذ إلا من أصرَّ، ولا ينتقم إلا ممن استمر، يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى وهو يُخوفكم مكره، ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته، فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام”.
ولقد عدّ ابن الأثير الخليفة الظاهر بأمر الله من غرباء زمانه في العدل والهمة، والإحسان إلى الرعية، حتى قال: “لقد سمعت عنه كلمة أعجبتني جداً، وهي أنه قيل له في الذي يخرجه ويطلقه من الأموال التي لا تسمح نفس ببعضها فقال لهم: أنا فتحت الدكان بعد العصر فاتركوني أفعل الخير، فكم أعيش، وتصدق ليلة عيد الفطر من هذه السنة (622هـ)، وفرق في العلماء وأهل الدين مئة ألف دينار”، يقصد أنه تولى الخلافة في سنّ متأخرة، ومن ثم عمل بالعدل والإنفاق والتوسعة على الرعية، ولهذا الأمر قال عنه المؤرخ الإربلي: “كان موصوفاً بشدة القوة، وفرّق أموالاً، وبرّ الفقراء، وأسقطَ المكوس وأفاض العدل.. وله مناقب كثيرة يقصُر عن ذكرها هذا المجموع المختصر”.
وبعد خلافة استمرت أقل من عشرة أشهر، توفي الخليفة الظاهر في شهر رجب من عام 623هـ/1226م عن عُمر ناهز الاثنين والخمسين، وقد بويع من بعده ابنه الخليفة قبل الأخير المستنصر بالله، وقد علق ابن الأثير الذي أحبّ هذا الخليفة حباً جماً على خبر وفاته، وكأنه كان يتوقع هذه الوفاة لرجل عادل مثله قلّما جادَ الزمانُ بمثله، قال: “ولم أزل عَلِمَ اللهُ سبحانه مذ ولي (الظاهرُ) الخلافةَ أخافُ عليه قصر المدة؛ لخبث الزمان وفساد أهله، وأقول لكثير من أصدقائنا وما أخوَفني أن تقصُر مُدة خلافته لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته فكان كذلك”.
كما لاحظَ المؤرخ ابن واصل الحموي أن مدة خلافة الظاهر بأمر الله وسياسته كانت على النقيض تماماً من خلافة وسياسة أبيه الناصر، قال: “كانت مُدة خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوماً، ولقد تباعدَ ما بينه وبين أبيه الناصر لدين الله جداً في أمور: أحدها: أن مدة خلافته كانت قصيرة جداً، فلم يلِ من بني العباس من هو أقصر مدة في الولاية منه إلا المنتصر بالله ابن المتوكل فإنه كانت مدة خلافته نحو خمسة أشهر، وطالت مدة أبيه الناصر لدين الله في الخلافة جداً؛ فلم يلِ من بني العباس بل ولا من الخلفاء قبلهم أطول مدة في الخلافة منه. وثانيها: أنه كان في غاية العدل والإحسان إلى الخلق وكان أبوه في غاية الظلم والعسف. وثالثها: أنه كان في غاية التعصب لمذهب أهل السنة والبغض للروافض، وكان أبوه في غاية الميل إلى الروافض”.
والحقيقة أننا لا نعلم هل كانت هذه الوفاة المفاجئة لأمر دُبر له؛ لأن الرجل كان قد بدأ مشروعاً إصلاحياً كبيراً وعظيماً بكل المقاييس في المؤسسات البيروقراطية والحكومية وإصلاحات البنية التحتية، ورفع الأثقال عن كاهل الناس، حيث خفّف الخراج والضرائب وغيرها، أم أن الوفاة كانت طبيعية؛ إذ لم يُشر أي من المؤرخين لخلاف ذلك.