مع مطلع القرن التاسع الميلادي، شهدت تونس التي كانت تسمى حينئذ بـ”إفريقية”، ميلاد أوّل دولة إسلامية على ربوعها، وهي الدولة الأغلبية التي أسّسها إبراهيم بن الأغلب، وهي الدولة التي نمت سريعاً حتى وصلت إلى جنوب إيطاليا، وحكمت إمارة باري
ففي عام 827م، ركب القائد المسلم أبو عبد الله أسد بن الفرات، قاضي القيروان، البحر من القيروان من أجل فتح جزيرة صقلية، ومنذ اللحظة التي وطئت فيها قدماه البر الصقلي بدأت رحلة المسلمين في جنوب إيطاليا، ولم تمض سوى سنواتٍ قليلة حتى أسس المسلمون عدة إمارات عربية إسلامية في الجنوب الإيطالي.
كانت إمارة باري الإسلامية التي تركزت في مدينة باري بجنوب إيطاليا من 847 إلى 871م، الحلقة الأكثر ديمومة في تاريخ الإسلام في شبه جزيرة جنوب إيطاليا، فقد استطاع العرب حكم هذه الإمارة طيلة 25 سنة.
فتح إمارة باري
مع وصول المسلمين الأغالبة إلى صقلية سنة 827م، كان من الواضح أنّ رحلة المسلمين في جنوب إيطاليا لن تتوقف عند تلك الجزيرة، فبدأت المدن والجزر الإيطالية تتساقط تدريجياً في يد المسلمين الفاتحين.
كانت مدينة باري تسمى بارة، وحينها كانت المدينة الإيطالية التي يسكنها النصارى من غير الروم، هدفاً للفتوحات الإسلامية المبكرة لجنوب إيطاليا، فقد قاد رجلٌ يدعى جبلة، وكان مولى إبراهيم بن الأغلب، حملةً لفتح المدينة لكنه فشل.
أمام الفشل المستمر في السيطرة على باري، تحمّل قائد عسكري يدعى خلفون البربري مسؤولية قيادة حملة عسكرية على المدينة الإيطالية سنة 847م، قاد فيها جيوش العرب والبربر من أجل فتح باري، وهو ما تمّ في فترة وجيزة، بعد أن فرض خلفون البربري حصاراً على المدينة، ثمّ سرعان ما اكتشف المسلمون ثغرة في سورها، فدخل منها خلفون وجنوده وفرضوا سيطرتهم على المدينة، ونصّب خلفون نفسه والياً على “باري” التي أصبحت إمارة إسلامية.
وبتحوّل باري إلى إمارة إسلامية، بسط المسلمون خلال النصف الأوّل من القرن التاسع سيطرتهم على الجنوب إيطالي، فلم يتبق منه سوى مدينة نابولي التي اختارت عقد صلحٍ وتحالف مع المسلمين.
حاول خلفون بسط حكمه على الإمارة الجديدة من خلال اهتمامه بتوفير احتياجات أهل المدينة الأساسية، لكن التنوع في النسيج الاجتماعي الذي كان يشكلّ إمارة باري كان أكبر خطرٍ يهدد ديمومتها، فقد ذهب خلفون البربري، أوّل حاكم للإمارة الإسلامية في باري، ضحية النعرات العرقية بين العرب والبربر، فقتل الأمير خلفون في إحدى المكائد التي دُبرت له.
ثلاثة حكامٍ مسلمين تداولوا حكم إمارة باري الإسلامية
كما سبق ذكره كان خلفون البربري أوّل حاكمٍ للإمارة الإسلامية في باري، لكنّ حكمه لم يستمر سوى أربع سنوات، بعد أن قتل سنة 852م، وخلفه في الحكم أحد جنوده وهو مفرق بن سلام الذي لم يستمر حكمه طويلاً للسبب نفسه، وهو الخلافات بين البربر والعرب.
بنى مفرق بن سلام أوّل جامع كبيرٍ في مدينة باري، إذ تشير بعض المصادر الإيطالية إلى أن موقعه هو الكاتدرائية الحالية للمدينة، والتي تقع وسط مركز المدينة التاريخي.
حاول مفرق بن سلام توسيع نفوذ إمارة باري من خلال قيامه بحملات عسكرية، إذ نجح في السيطرة على 24 حصناً، وخاض معارك ضد القوات المسيحية من اللومبارديين والصقالبة عام 855م. وتحوّلت خلال فترة حكمه إمارة باري الإسلامية إلى معقل للجهاد في جنوب إيطاليا، كما ازدهرت إمارة باري اقتصادياً بفضل الغنائم الكثيرة من الغزوات والمعارك التي خاضها.
ورغم ذلك، فإنّ نار الفتنة التي كانت تشتعل بين العرب والبربر بين الفينة والأخرى في إمارة باري الإسلامية، كانت سبباً في مقتل مفرق بن سلام سنة 856م. ونصّب البربر سودان الماوري خلفاً لمفرق بن سلام في حكم إمارة باري الإسلامية.
كانت فترة حكم سودان الماوري هي الأطوّل، لكنها كانت السنوات الأخيرة للمسلمين في حكم إمارة باري الإسلامية.
كتب الأمير سودان الماوري رسالة إلى الخليفة العباسي المتوكل سنة 861م، يطلب فيها اعترافه بولايته على إمارة باري الإسلامية، إلا أن الرد جاء بأن المتوكل قتل وتولى بعده المستنصر، فاستغل سودان الماوري هذه الاضطرابات ليعلن نفسه “سلطان باري”، لتصبح إمارة باري المركز الذي تتوجه منه الحملات لفتح العديد من المدن.
ومنذ أن صار أميراً على إمارة باري، شرع الأمير سودان الماوري في عقد الهدن والاتفاقيات مع جيرانه المسيحيين، في محاولةٍ منه للتفرغ إلى مدينة نابولي التي نقضت التحالف مع المسلمين في جنوب إيطاليا، وبالفعل قاد سودان الماوي جيوشه باتجاه نابولي، وفي طريقه فتح جزر كابوا وكونزا ويبوريا.
كما غزا أراضي إمارة بينيفينتو اللومباردية، وأجبر الأمير أديلتشيس على دفع الجزية، وذلك بعد أن هزمه في إحدى أشرس المعارك التي شهدها الجنوب الإيطالي خلال تلك الفترة.
سقوط إمارة باري الإسلامية
منذ نشأتها سنة 847م، كانت إمارة باري تشكّل خط المواجهة بين المسلمين والمسيحيين في جنوب إيطاليا، وكان التحالف المسيحي الإيطالي ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على هذه الدولة الفتية التي سرعان ما شرعت في التمدد على حساب اللومبارديين والصقالبة.
في عام 865، أصدر ملك إيطاليا لويس الثاني، وبدعمٍ من الإمبراطور الروماني لودفيك الثاني، مرسوماً يدعو فيه المقاتلين في شمال إيطاليا إلى التجمع في لوسيرا في ربيع عام 866 من أجل شن هجوم على باري.
في صيف عام 867م، بدأت الجيوش الإيطالية في الهجوم على إمارة باري التي ظلّت صامدة لسنوات، حتى 2 فبراير/شباط عام 871م، اليوم الذي نجحت فيه قوات التحالف الكبير في اقتحام أسوار إمارة باري بعد أن تفشى المرض بالمدينة.
وبعد دخولها، قام الإمبراطور لودفيك الثاني بقتل كل من في المدينة، وتذكر بعض المصادر الإيطالية أنه لم ينج من المسلمين حتى السلطان الذي قتل في المعركة الطاحنة التي حولت المدينة إلى خراب كبير.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website