لرمضان فرحة غامرة، ولما تأملت تلك الفرحة وجدتها تشير إلى الكثير مما هو مفقود في حياتنا المعاصرة التعيسة، فقد تشكل في رمضان فضاء نمارس فيه ما نحن محرومون منه طوال العام، فهل من الممكن أن يدلنا رمضان على أسباب تعاستنا المعاصرة؟
اللغة.. العيش في عذوبة الكلمات
لا تحتاج الحياة وقتاً يُذكر كي تتحول بالكامل في رمضان إلى فضاءٍ آخر، تختفي كلماتٌ وأزمنةٌ وتحل أخرى في حضورٍ مدهش، لن تجري كلمات مثل “الغداء- العشاء” على الألسنة، وربما تخفت الكثير من الشتائم وتتوارى خلف ورع الصوم، بل نلاحظ أن لغة مديري العمل والمعلمين بدت أقل حدة وإلزامية، وأكثر مودة.
تأتي كلمات أخرى لتحضر بشكل طبيعي، وكأنها كانت تعيش بيننا وغابت لبعض الوقت، لا نحتاج وقتاً كي نتناول كلمات كالسحور والتراويح بشكل طبيعي، لا كدلالات منفصلة، بل كدلالات مرتبطة بأنشطة الحياة كافة، فحين نضرب موعداً سنقول بعد التراويح أو قبل السحور.
لكن التغيير الأكبر في اللغة هو حضور كلمة “صائم”، لتشكل حياة المسلم ونزوعه وأفعاله وقراراته، تلك الكلمة التي لها مفعول السحر في تحويل جسد المسلم إلى روح تحلق في مراد الله، كلمة حين نذكر أنفسنا بها، أو يذكرنا بها غيرنا، لها القدرة على ضبط إيقاعنا وإرجاعنا عن الاندفاع فيما تمليه علينا نزواتنا ومشاعرنا الفوارة.
“اللهم إني صائم” تنتشل المسلم من موقعه في خانة رد الفعل، إلى موقع الإرادة الكاملة التي تضع نزوعه وأفعاله في مراد الله من جديد، ثم تأتي كلمة الإفطار لتبث في ضمائرنا الفرحة وتربطها بفضل الله، فقد منعنا أنفسنا من الطعام والشراب وفق مراد الله، ثم أذن الله لنا لطفاً وكرماً بالإفطار، هكذا نجد أنفسنا في قلب لغة تعبدية عذبة دفاقة، ونحن نردد “اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت. ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله”.
الزمن.. منابع الدهشة المفقودة
من خلال تغيير عادات الطعام وأوقاته في رمضان يتغير الزمن، نكتشف حينها أن زمننا يتشكل من خلال حاجاتنا الأساسية وليس من أي شيء آخر، يقترب الناس في عصرنا الحديث من نسيان وقتَي السحر والفجر، وإهمال وقت الغروب، أوقات عذبة أولاها الإسلام اهتماماً أنستنا إياه حياتنا المعاصرة، التي فصلتنا عن الدورة الزمنية للكون.
فيأتي رمضان كفرصة كي نفتح أعيننا على كنوز مفقودة على بعد خطوات منا، يحجبها عنا السعي في الحياة الحديثة، الذي تحوّل من وسيلة لكسب العيش إلى غاية في حد ذاته، وتعبّد في محراب الطموح الدنيوي، فخسرنا الكثير من دهشة الحياة وعذوبتها، ومن الحضور في فضاء الآيات الإلهية وتحصيل المعنى من وجودنا.
التراحم.. الفردوس المفقود
أيضاً نرى في رمضان فرصة للنظر إلى سعادة أخرى مفقودة في أيامنا العادية، على الرغم من يُسر تحصيلها، فعلاقاتنا الاجتماعية تتغير في رمضان، وتنتقل بسرعة مفاجئة من التعاقدي إلى التراحمي، تزداد المودة، ونشعر ببعضنا البعض، نتزاور ونتوادّ، ويضيّف بعضنا بعضاً، نفرح كثيراً بتلك الأُصر وذلك اللطف الذي يغمرنا حين نتوادّ ونتراحم ونجتمع، نهرب، بل نغرق منتشين في ذلك التراحم من علاقات تعاقدية جافة تحكمنا طوال العام.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لمحة أخرى تشير لنا إلى سر تعاستنا، نحن نبتعد طوال العام عن إشباع لحاجة إنسانية أصيلة وملحة، هي حاجتنا للود واللطف، للحب والتهادي، والضيافة، والاجتماع في الله ولله، بعيداً عن علاقات المصلحة والعمل والمادة، ظلمنا أنفسنا حين سمحنا لذواتنا بأن تتضخم، وأن تنكر حاجتها للآخر، واستوردنا فردانية مقيتة حولت حياتنا إلى جحيم، فهل من رجوع للود؟!
رمضان مؤشر لأزمتنا المعاصرة
لما كان الناس في الأزمنة القديمة يأنسون ويجتمعون ويلهون مع ما في حياتهم من سعي، لم يكن عندهم الشَّرَه لتلك الأشياء كما هو مترسّخ عندنا من جراء قضائنا الوقت كله في دورة العمل والنوم، ففي عصرنا الحديث يضيع وقتنا كله في السعي والجد، فلا وقت لنجلس ساعة في صفاء أو سمر، أو لنجتمع بأحبّتنا وأقاربنا، أو لنغير عاداتنا دفعاً للسأم والملل، فصرنا نغتنم كل فرصة مواتية كي نُشبع هذا النهم الذي يتضاعف طوال العام.
فإذا جاء رمضان اتفق لنا أن نجعله شهراً نتخفف فيه من أثقال العمل وآلية الحياة الرتيبة، فجعلناه شهر أنس واجتماع ولهو وترويح، فأضعنا معناه وغايته، إن أزمتنا الحقيقية تظهر في رمضان، حيث نظهر بمظهر المسكين المحروم من حاجاته الإنسانية، من حاجته الملحة للاجتماع والأنس واللهو.
هكذا نجد أن رمضان يعلّمنا ما فقدناه في حياتنا اليومية المعاصرة، وسبب فقده التعاسة لنا، نحتاج أن نرجع للإيمان بالكلمات الربانية والعيش فيها ومعها وبها، ونحتاج أن نحرر زمننا من طغيان المادية، وأن نسبح كما أمرنا بكرة وأصيلاً، ونحتاج أن نرجع التراحم والتواد بيننا، وأن نوازن بين سعينا وما تتطلبه حياتنا من ترويح.