منذ زمن بعيد، كانت العراق وإيران دولتين متنافستين، حيث نشأ في العراق المذهب الشيعي، كما أن المدن الشيعية، والتي هي قبلة الحجاج وطلاب العلم في إيران، عراقية بالأساس كالنجف وكربلاء.
ظهر هذا التنافس وبشدة في أعقاب الثورة الإسلامية في فبراير 1979م، إذ قامت إيران بتصدير مبادئ الثورة الإسلامية، وكان الهدف الأول للمنادين بتصدير الثورة هو العراق، وهو ما دفع إلى افتعال حرب عسكرية مدمرة مع الإيرانيين استمرت لـ8 أعوام، وراح ضحيتها قرابة مليون قتيل من المدنيين والعسكريين.
يوافق يوم 20 مارس 2023، الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق، وسقوط نظام البعث في العراق في عام 2003 عندما اقتحمت الدبابات الأمريكية ساحة الفردوس في قلب العاصمة العراقية بغداد، لتُسقط تمثال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، في رمزية هي الأهم منذ بدء عمليات الغزو العسكري للعراق.
زعمت الولايات المتحدة أن السبب الأساسي للغزو كان تفكيك أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها صدام حسين لأنه كان بإمكانه نظرياً تمريرها إلى إرهابيين من نوع القاعدة، ومع ذلك، لم يتم العثور على أسلحة دمار شامل، ما صنع تشكيكاً بشأن الدافع الحقيقي للحرب.
عند البحث عن الأسباب الخفية وراء الغزو، كان القرار متجذراً في جهد استمر عقداً من قبل الولايات المتحدة للتخلص من الرئيس العراقي صدام حسين، لا سيما بعد الغزو العراقي للكويت، حيث كانت أمريكا في عداء مستمر مع صدام حسين منذ عام 1990، عندما شن العراق غزوه على الكويت.
كان هناك قلق أمريكي من خطة غزو العراق على الرغم من عدم تأييد البعض صدام، لأن التدخل العسكري الهائل سيخلق فراغاً في السلطة في بغداد من شأنه أن يزعزع استقرار المنطقة، ويفيد إيران في نهاية المطاف، حيث اعتقدت الولايات المتحدة الأمريكية أنها تخاطر بالتحول إلى حرب أهلية مزعزعة للاستقرار يمكن أن تفيد إيران بعد خوضها حرباً مع العراق استمرت 3 سنوات.
كانت إيران على علم بالنية الأمريكية، إذ تم إخطار سفيرها في الأمم المتحدة بقرار الغزو في إطار طلب أمريكي لإيران بعدم التعرض للمقاتلات الأمريكية إذا ما اخترقت بالخطأ أجواءها. ولكن كانت تخشى إيران من الولايات المتحدة التي غزت أفغانستان قبل عامين على الحدود الشرقية لإيران، أن تكون قادرة على تطويق إيران وإذلالها عسكرياً واقتصادياً إن أرادت، أو بمعنى أدق إن استتبت لها الأوضاع العراقية، إذ افتقدت إيران عمقها الاستراتيجي العراقي.
تحركت إيران تجاه الغزو الأمريكي في اتجاهين، بين تأييد صامت لإسقاط صدام حسين وبين خوف من تمكن الولايات المتحدة من زمام الأمور في العراق، ومن هذا المفهوم انطلقت الاستراتيجية الإيرانية في مواجهة التحدي القادم من الحدود الغربية، وتمكنت في أعقاب الغزو من تطوير رؤية واضحة نسبياً لمصالحها الاستراتيجية في العراق، تكمن في بناء قاعدة متينة ومتعددة الركائز اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، وأمنياً، وسياسياً، تتيح لها أن تكون في وضع استراتيجي يسهل عليها التأثير في الواقع العراقي خدمةً لتلك المصالح، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران بعد انسحاب القوات الأمريكية لـ11 مليار دولار، وارتفعت أعداد السياح الإيرانيين لثلاثة آلاف سائح يومياً، وهو رقم ضخم، كما سعت إيران لتوحيد الأحزاب الشيعية في العراق لتكون هذه الأحزاب قادرة على ترجمة أهميتها الديموغرافية إلى نفوذ سياسي.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
انطلاقاً من هذه النقطة، يمكننا القول بأن الولايات المتحدة سلمت العراق إلى إيران، حيث شجعت طهران أقرب حلفائها فيلق بدر والمجلس الأعلى الإسلامي في العراق وحزب الدعوة الإسلامية والتيار الصدري على المشاركة في الحياة السياسية، والمساعدة في تشكيل المؤسسات الناشئة في العراق، وقد دعمت طهران مجموعة من الأحزاب والحركات الأخرى لتوسيع خياراتها وضمان تقدم مصالحها.
كما أن افتقاد إيران لعمقها الاستراتيجي من جراء الحرب جعلها تستخدم حلفاءها في الداخل من خلال الإفشال المتعمد للداخل العراقي، ومنع ترميم الأوضاع المهترئة، وساعد إيران على إنفاذ استراتيجيتها عدة عوامل، منها عجز الدولة العراقية الجديدة عن أداء مهامها الداخلية بعد الغزو الأمريكي، وانتشار الفوضى وعدم الاستقرار العراقي من جراء قرار حل المؤسسات الذي أصدره الحاكم الأمريكي “بول بريمر”. وكانت إيران قد وجدت في هذه الحالة مساحة أكبر لتحرك حلفائها ولشغل الأمريكيين بالوضع الداخلي الآخذ في التفاقم.
بعد الغزو الأمريكي للعراق، انهارت دولة العراق، وحلّت الميليشيات محل الأيديولوجيات والأحزاب، وما زال يعاني العراق من تداعيات الغزو الأمريكي المدمرة حتى الآن، والتي أدت اختلالاتها إلى خلق فراغ في السلطة، سمح للقوى الإقليمية التي رسخت نفوذها، وخاصة إيران التي تعترف الجهات الأمريكية بأن الاحتلال كان المفتاح لدخولها وتدخلها في مفاصل الوضع العراقي والتأثير بسياساته وقراراته.
لذا، لا ينبغي أن ننسى دور الولايات المتحدة في إبقاء هذا الصراع دائراً بين المعسكرين، عشرات السنين، وقدرتَهما على السماح أو عدم السماح بإعادة العافية إلى العراق التي أغرقتها صراعات القوى المحلية فيها، والتدخلات الأجنبية والإقليمية المتوطنة في مفاصلها من زمن بعيد.