“وعادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر، وهو لابس البياض معمم، متقلدٌ سيفاً، وعليه السَّكينة والوقار، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين ثم يقبل الحجر، ويشرع في طواف أسبوع، ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم، فعندما يكمل الأمير شوطاً واحداً ويقصد الحجر لتقبيله، يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له والتهنئة بدخول الشهر، رافعاً بذلك صوته، ثم يذكر شعراً في مدحه ومدح سلفه، ويفعل هكذا في سبعة أشواط”.
هكذا كان استقبال رمضان مكة المكرمة في رحلات ابن بطوطة، إذ وصف العَالِم والرَّحالة المسلم ابن بطوطة (محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي) أجواء رمضان واستقبال شهر الصيام في مكة، التي شهدها خلال رحلته إلى الحج بين عامي 1325 و1326 ميلادياً (725-726 هجرياً).
وأظهر ابن بطوطة في كتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” أجواء استقبال رمضان في مكة المكرمة قبل نحو 7 قرون، حينما كانت الاحتفالات تقام في المسجد الحرام، حيث تدق الطبول وتفرش الحصر وتشعل المشاعل ويتلألأ نور الحرم.
رمضان مكة المكرمة في رحلات ابن بطوطة
وصف ابن بطوطة أجواء استقبال رمضان بأن الطبول تُضرب عند أمير مكة، بينما تكثر الجلبة والحركة لإقامة الاحتفالات، وتكون مشاهد الاحتفال في المسجد الحرام بادية عبر تحديد الحصر المستخدمة للمسجد، وإكثار أعداد الشمع والمشاعل المضاءة حتى يتلألأ نور الحرم.
وفي اليوم الأول من رمضان يخرج أمير مكة مرتدياً الأبيض والعمامة، ويتقلد سيفه، ويصلي عند المقام الكبير ركعتين ثم يقبل الحجر، ويبدأ في الطواف حول الكعبة 7 أشواط، وعندما ينتهي من الشوط الأول ويقصد الحجر لتقبيله يبدأ رئيس المؤذنين الواقف على أعلى قبة زمزم في الدعاء له والتهنئة بدخول الشهر بصوتٍ عالٍ، ويذكر فيه شعراً، هو والأمير الذي سلفه، ويتكرر المشهد في الأشواط السبعة، وإذا فرغ الأمير من الأشواط يصلي ركعتين خلف المقام ثم ينصرف.
فيما يجتمع المالكية على اختيار 4 قراء يتناوبون في قراءة القرآن بالمسجد، بينما تتفرق اختيارات الشافعية والحنابلة والحنفية والزيدية، حتى لا تبقى زاوية في الحرم إلا ويصلي فيها قارئ بجماعة، فيرتجّ المسجد بأصوات القراء.
أما أداء الصلوات والتراويح فيقتصر بعض الناس على أداء الطواف والصلاة منفردة، أما الشافعية فهم الأكثر اجتهاداً، إذ عادة ما يكملون التراويح المعتادة التي تكون عشرين ركعة، إذ يطوف إمامهم ويطوفون معه، ثم يشير إليهم بالعودة إلى الصلاة، ثم يصلون ركعتين، وبعد الانتهاء يطوفون من جديد، وهكذا حتى يُتمون العشرين ركعة، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون.
وإذا جاء وقت السحور يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة بالركن الشرقي من الحرم، فيقوم داعياً ومذكراً على السحور، ويتكرر هذا المشهد في صوامع الحرم كافة، وتعلو كل صومعة منصوبة خشبة يعلوها قنديلان كبيران من الزجاج، وعندما يحين وقت أذان الفجر يتم إنزال القنديلين، ويبدأ المؤذنون في الأذان للفجر، وحكى ابن بطوطة عن دور هذين القنديلين لمن بعدت داره عن الحرم ولم يصله صوت الأذان، إذ يتسحر حتى يُبصر اختفاء القنديلين فيقلع عن الأكل.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وفي العشر الأواخر من رمضان يختم المسلمون القرآن، وفي ليالي الوتر من العشر الأواخر يحضر القاضي والفقهاء وكبار العائلات في مكة ختمات القرآن، ويكون من يختم أحد أبناء كبراء أهل مكة، وإذا ختم نصب له منبر مزين بالحرير، وتوقد عليه الشموع، ويقف خاتم القرآن ليخطب على النصب، وإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الولائم والحلوى، ويحدث ذلك في كل ليلة وتر بالعشر الأواخر من رمضان.
وأعظم من تلك الليالي كانت ليلة الـ27 كما حكى ابن بطوطة، إذ يكون احتفال أهل مكة بها أعظم من احتفالهم بسائر الليالي، ويختم بها القرآن خلف المقام، وتشعل قناديل أضعاف ما تشعل عادة، وتصف على ألواح طويلة، خصوصاً لدى الشافعية، لدرجة تكاد تغشى فيها الأبصار من شدة سطوع وإشعاع القناديل.
فيما يتقدم الإمام، فيصلي فريضة العشاء الأخيرة، ثم يبتدئ قراءة سورة القدر، وهي السورة التي ينتهي عندها قراءة الأئمة في الليلة التي قبلها، وفي تلك الساعة يمسك جميع الأئمة عن التراویح، تعظيماً لختمة المقام، ويحضرونها متبرکين، فيختم الإمام القرآن، ثم يقوم خطيباً مستقبل المقام، فإذا فرغ من ذلك عاد الأئمة إلى صلاتهم، وانفض الجميع. ثم يتكرر ختم القرآن في ليلة الـ29 في المقام المالكي، ويخطب الإمام خطبته الأخيرة في رمضان.
بعد انتهاء رمضان تستمر بعض الطقوس الرمضانية في شهر شوال كما قال ابن بطوطة، إذ يستمر إيقاد المشاعل والمصابيح والشمع ليلة استهلال شوال، على نحوٍ قريبٍ بليلة الـ27، كما تُشعل السُّرج في الصوامع من كل الجهات، كما يوقد سطح الحرم وأسطح المساجد، فيما يقضي المؤذنون ليلتهم في التهليل والتكبير والتسبيح، فيما يكون الناس ما بين طوافٍ وصلاة وذكر ودعاء.
وما إن يصلوا الفجر يستعدون لصلاة العيد وارتداء أفضل الثياب، والاجتماع في مجالس الحرم الشريف، حيث يصلون العيد، ويكون أول من يبكر في المسجد الشيبيون (الذين يتوارثون سدانة الكعبة منذ عهد النبي محمد) فيفتحون باب الكعبة المقدسة، ويقعد كبيرهم في عتبتها، وسائرهم بين يديه، إلى أن يأتي أمير مكة فيتلقونه، ويطوف بالبيت سبعاً.